أندريه بازان... طرح أسئلة ما زالت تثير الباحثين

أثّر على غودار وصحبه ومات شاباً

مشهد من  فيلم «روما مدينة مفتوحة»
مشهد من فيلم «روما مدينة مفتوحة»
TT

أندريه بازان... طرح أسئلة ما زالت تثير الباحثين

مشهد من  فيلم «روما مدينة مفتوحة»
مشهد من فيلم «روما مدينة مفتوحة»

وفاة جان - لوك غودار في الأسبوع الماضي هي نهاية حقبة مات أبطالها جميعاً: جاك ريفيت، كلود شابرول، إريك رومير، فرنسوا تروفو من بين حفنة أخرى دعت لسينما فرنسية جديدة سُميت بسينما المؤلف. غير العارفين خلطوا بين سينما المؤلف و«السينما الطليعية». هذه ليس لها علاقة بسينما المؤلف بل بمجموعة من الفنون والكتابات التي تجتاز الحاجز من المعلوم والمعتاد إلى التجريبي والمتقدّم من أساليب تعبير.


السؤال الكبير لبازان: ما هي السينما؟

سينما المؤلف هي تلك الممهورة بتوقيع مخرجها. التي تنتخب نصوصها وأساليبها واختياراتها من التوليف على مبدأ يختلف عن السينما التقليدية التي تترك مقاليد العمل للقواعد المعمول بها في شركات الإنتاج. تبعاً لذلك، تتصدّر الحكاية الفيلم لأنها وسيلة التوجه المفتوح على الجمهور الكبير. مفتاح السرد الحكائي لإيصال المفادات حيث على المخرج (في أدنى الاحتمالات) تأمين تلك الشروط لإنجاح العمل الذي يقوم بتحقيقه، في مقابل تأكيد المخرج - المؤلف على منحاه الخاص بارزاً أهمية الشخصية وتأليف الحكاية حولها وكيفية اعتماد اللقطات التي هي أكثر من صور متحرّكة.

السيناريو كفعل اكتشاف
استلهم غودار، ورفاقه، الكثير من تعاليم منظر فرنسي شهير ومؤثر اسمه أندريه بازان.
وُلد بازان في سنة 1918 ومات شاباً في الأربعين من عمره في سنة 1958. في الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته نبغ كمنظر ومحلل نقدي كتب مقالاته النقدية الأولى سنة 1943. تعامل مع السينما على أساس أنها فن منفصل عن الفنون الأخرى حتى ولو استعارت منها فن الموسيقى وبعض المسرح والدراما.


أندريه بازان

كتب ذات مرّة أن المسرح ليس واقعياً إلا بتفاصيل بنائه. المسرح بالنسبة إليه هو البناء الخارجي والداخلي للمبنى ثم للخشبة المسرحية والديكورات التي تظهر على المنصّة. أما الباقي فهو حياة حاضرة يؤديها الممثلون لجمهور تبعاً لحكاية أو أوضاع ما.
أورد هذا كتأكيد على أن السينما لا تتبع المسرح بقدر ما تتبع خصائصها الكثيرة والمتعددة. كل جزء منها يتم تحضيره وتأسيسه وتنفيذه بمنأى كامل عن الجمهور. هذا الأخير يرى النتيجة جاهزة أمامه حين ينتهي العمل عليه، بالتالي نقطة اللقاء بين هذا الجمهور وبين الفن المقدّم تختلف جوهرياً عن تلك التي يوفرها المسرح. تبعاً لذلك أيضاً فإن الفيلم (والسينما عموماً) فن قائم بذاته.
واحد من الأسس التي وضعها بازان في اعتباره كان الدور الذي يلعبه السيناريو في الفيلم. بالنسبة إليه فإن السيناريو هو من يقع عليه فعل الاكتشاف. هناك، لنقل، مشهداً أول لمدرسة في قرية (على غرار فيلم «عمر المختار» لمصطفى العقاد مثلاً) أو مشهداً لحصان منطلق إلى وسط البلدة (كما في «شريط أبيض» لمايكل هنيكه). السيناريو هو الذي اختار البداية المذكورة لغاية التعريف بالمكان والزمان وكنه الشخصيات والحياة. هذه الأمور نفسها هي ما ترصده الكاميرا مما يجعل السؤال المنطقي هو من الذي يسرد؟ السيناريو أو الكاميرا؟ أين موقع المونتاج؟ ما هي العلاقة المثالية للمخرج بين كل هذه العناصر؟
عند بازان السيناريو هو من يسرد عبر اختياراته كما عبر مفهوم المعالجة للفكرة التي يطرحها. يبدأ سيناريو «راشامون» كما كتبه أكيرا كوروساوا وشينوبو هاشيموتو سنة 1950 بلقطات تضعنا في «المكان»: (بوابّة مخلوعة) ومع الشخصية (رجل راشامون واقف تحت المطر. ثم لقطة لرجلين آخرين لجأ كل منهما إلى المكان ووقف تحت سقفه اتقاءً للمطر المنهمر بغزارة. لا يتحرّكان٠
لا يجب أن يعني ذلك أن من وقف وراء الموجة الفرنسية الجديدة وألهم غودار والشلة المعروفة على معالجة الفيلم كوضع مميّز عن سواه من النتائج الفنية، وقام بتأسيس مجلة «كاييه دو سينما»، التي كتبوا لها، أن بازان كان يفضل السيناريو على فعل الفيلم نفسه. فبالنسبة إليه وجد السيناريو بذرة العمل والباقي كله يقع على كاهل المخرج في رعاية وتحقيق المُنتج منها.


مشهد من فيلم ترنس مالك «شجرة الحياة»

ما صرف المنظّر بازان جل اهتمامه في هذا المجال هو التأكيد على أن السينما والرواية جانبان مختلفان وأن السينما لتكون متحررة عليها أن تتجنّب الاقتباس الكامل أو غير المتحرر من العمل الروائي. إلى ذلك رفض تلك الكتابات النقدية التي تتغذّى من المعرفة الروائية وتمارس حكمها بعبارات لا تمت إلى السينما بل إلى الأدب (وهو فعل ما زال ممارساً إلى اليوم ولو على نطاق محدود).

أسئلة عن الواقعية
مال بازان إلى الواقعية الإيطالية في مطلعها. كانت، بالنسبة إليه، تمثل التحرر الذي نادى به من سطوة السينما التي تقرر للمشاهد ماذا سيرى وكيف سيراه. بذلك فإن معظم الأفلام التقليدية هي التي تقرر المشهد التالي، عوض أن يكون المشهد التالي نتيجة اختيار المخرج بناء على اختياره المتحرر من وظيفة جذب المُشاهد إليه.
بالنسبة إليه، فإن السينما الواقعية التي انبثقت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية هي الحقيقة كما يجب أن تكون. سمّاها «مدرسة الحرية» واعتبر أنها إذ تتولّى البحث في «الحقيقة» فإنها أصدق من الأفلام التي تسرد حكاية حتى ولو لم تكن حكاية خيالية. بالتالي «روما مدينة مفتوحة» لروبرتو روسيليني (1945) و«سارقو الدراجات» لفيتوريو دي سيكا (1948) جيدان لأنهما يقومان بتقديم الرواية على نحو شبه تسجيلي.
هذا في الواقع ليس صحيحاً تماماً بالنسبة لفيلم روسيلليني، لكنه صحيح بالنسبة لفيلم دي سيكا. ليس بسبب اختلاف نظرة كل منهما للواقع الذي يعاينه، بل كذلك للكيفية التي اختارها لمعاينة ذلك الواقع.
على ذلك، أصاب بازان عندما اعتبر أن الخيال والفيلم الروائي يلتقيان أكثر، وعلى نحو أفضل، لو أن الفيلم (أي فيلم) عرف كيف يقرّب المسافة بين ما يعرضه وبين ما يوحي به.
على سبيل المثال، فإن فيلم «المواطن كين» لأورسن وَلز قد يكون خيالياً تماماً لكن طريقة تصويره التي تقوم على البعد الرؤيوي والعمق تنجح في دفع الفيلم لحالة من الواقعية لأنها ستثير عند القارئ أسئلة لا تطرحها الأفلام الجماهيرية السائدة لأن هذه تنوب عن المشاهد في توجيه الأحداث وتحافظ على الخيال كخيال وليس كاحتمال واقعي.
في هذا الشأن لا يتجاهل بازان دور المونتاج مطلقاً. على العكس يرى أن عملية التوليف هي ضرورية لكي تترجم كل تلك التوجهات إلى الفيلم والفيلم إلى ما ينتمي إليه. وهو اعتبر أن «المونتاج هو الذي تسبب في ولادة الفيلم كفن».
هذا ليس بعيداً عن الصواب بدوره على أساس أن باقي الفنون تخلو من المونتاج كخلوّها من الصورة المتحركة. كلاهما، الصورة والتوليف، يعملان معاً لأن كل منهما يحتاج للآخر. بما أن الحبكة لا تستطيع وحدها أن تعني شيئاً من دون الصورة فإن هذه هي التي تحكي وتسرد وليس الحبكة ذاتها. هي التي تتقدّم بالحكاية عبر اللقطات المتقاطعة أو المتماثلة من وإلى. وهذا التقاطع والانتقال لا علاقة للكاميرا بهما إلا من حيث التأسيس الزمني والمكاني والأجوائي. الباقي يُحال إلى المونتاج لصنع الفيلم الذي سيجسد ما أريد له أن يصبح عليه.
في مقال مهم نشره السينمائي قيس الزبيدي (وهو مخرج ومنظر ومُوَلّف أفلام) لاحظ ما يلي: كانت الواقعية خلال معظم مراحل تاريخ السينما، محط اهتمام صانعي الأفلام العمليين أكثر من اهتمام النقاد النظريين. فقد طوّر كل من دزيغا فيرتوف في العشرينيات في الاتحاد السوفياتي، وجان فيغو في فرنسا، وجون غريرسون في إنجلترا في الثلاثينيات، وروبرتو روسيلليني وسيزار زافاتيني والواقعيين الجدد في إيطاليا في الأربعينيات، مواقف في مواجهة النظريات التعبيرية. وبدا كما لو أن صانعي الأفلام وقفوا ضد سوء الاستعمال الممكن لقوة وسيطهم الفني، بدلاً من البحث عن المواقف «الأخلاقية» في الواقعية.
ويخلص الزبيدي إلى أسئلة مهمّة حين يقول: «هل هناك من الناحية النظرية والعملية واقع يصنعه فقط الميزان - سين أو هناك واقع يصنعه المونتاج فقط؟ وهل يكون الفيلم أكثر حياة وأقوى مغزى إذا ما كان ممثلاً أو مُرتجلاً إذا ما حُفظ الزمن الواقعي فيه عبر مشهد مستمر (بلان - سكوينس)؟ بينما تسجل السينماتوغرافيا الصورة في الزمن. وبرهنت بهذا على تدمير المفهوم التقليدي للزمن وجعلت جمهورها الغفير يراها مدرسة للحياة وليس مصنعاً للأحلام. فالناس تنظر إلى الأحداث على الشاشة بالضبط كما تنظر إلى الأحداث اليومية وتعتبر الفيلم مجرد وسيط يعيد إنتاج الواقع. فعلى صعيد المستوى التاريخي تكشف سبر تأثير ظهور الصورة بشكلها الحالي من منظور رغبة الإنسان في تصوير الواقع مع مقارنة الصورة بفنون وآداب المحاكاة لإظهار كيف أن الصورة هي فن الإيهام بامتياز. لأن المشاهد الذي يتابع مشاهدة الصور، يصدق ما يراه، ناسياً أو متناسياً وجود شاشة، تشكل حداً فاصلاً بين الواقع والخيال».

تكسير القاعدة
السؤال غير المطروح بعد هو ماذا كان بازان سيقول اليوم وقد تشعّبت السينما أكثر عما كانت عليه في أيامه. لقد انتقد مونتاج سيرغي أيزنستين في «البارجة بوتمكن» على أساس أنه تلاعب بالواقع عوض أن يدافع عنه. لكن حتى سينما المؤلف تعرّضت لمتغيّرات كبيرة عبر العصور. هي اليوم عنوان عام أو اسم لقائمة كبيرة من الأفلام التي يسيطر فيها المخرج على مقوّماتها سواء أنتج منها أعمالاً جيدة أم لم ينتج.
للتفسير فإن «الرجل الذي باع ظهره» لكوثر بن هنية فيلم مؤلف، لكنه فيلم لا يتّبع تفاصيل تلك السينما. المونتاج سردي والحكاية تسود. ولو أن المخرجة تحافظ على ملامحها كفنانة في أكثر من مشهد وربما في معظم مشاهده.
ماذا عن ترنس مالك الذي يخرج عن كل أساس سردي وينجز أفلامه على نحو غير قابل للتصنيف. حين نشاهد «شجرة الحياة» أو «إلى العجب» أو «أغنية لأغنية» فإن يكسر كل قاعدة وردت عند مؤيدي بازان أو حتى عند منتقديه.
وما يتبلور من هذا التساؤل هو بالتأكيد ما فشل عديد من الباحثين والنقاد في الإجابة عليه وهو هل ما زال بازان مهمّاً؟
في العصر الحالي فإن الجواب رمادي. من ناحية فإن تعاليمه ما زالت صالحة للبحث بصرف النظر عما كان الباحث معها أو ضدها. لكن من ناحية أخرى، فإن الزمن الذي عاش فيه بازان وأنتج فيه غودار وتروفو ورومير أفلامهم بتأثير إيحائي من تعاليمه، ليس كالزمن الحالي.


مقالات ذات صلة

«الست» يفجر زخماً واسعاً بمصر حول حياة أم كلثوم

يوميات الشرق منى زكي وكريم عبد العزيز وعدد من صناع الفيلم في كواليس التصوير - حساب مراد على «فيسبوك»

«الست» يفجر زخماً واسعاً بمصر حول حياة أم كلثوم

فجر فيلم «الست» زخما واسعاً في مصر حول كواليس حياة أم كلثوم، بمراحلها المختلفة وعلاقاتها الشخصية بمن حولها من عائلتها وزملائها، بالإضافة إلى قصص حبها.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق الفنان محمد بكري في لقطة مع أسرته من فيلم «اللي باقي منك» (الشركة المنتجة)

كيف تمكنت 4 أفلام عربية من الوصول لقائمة الأوسكار المختصرة؟

لعلها المرة الأولى التي تنجح فيها 4 أفلام عربية في الوصول لـ«القائمة المختصرة» بترشيحات الأوسكار لأفضل فيلم دولي، وهو ما اعتبره سينمائيون عرب إنجازاً كبيراً.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق  نيفين مندور (صفحتها الرسمية في «فيسبوك»)

وفاة الفنانة المصرية نيفين مندور إثر حريق شبّ في منزلها

تُوفيت الفنانة المصرية نيفين مندور صباح اليوم (الأربعاء)، عن عمر يناهز 53 عاماً، وذلك إثر حريق مفاجئ شبّ في منزلها.

يسرا سلامة (القاهرة)
سينما الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وصولاً إلى عرضه الخاص في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة الأسبوع الماضي، أثار فيلم «صوت هند رجب» نقاشاً واسعاً.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرة للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

دخول عزة فهمي عالم السينما ينسجم أولاً مع تاريخها في صناعة التراث وثانياً مع حركة عالمية لم تعد تكتفي برعاية المهرجانات أو الظهور على السجادة الحمراء.

جميلة حلفيشي (القاهرة)

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
TT

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)

منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وصولاً إلى عرضه الخاص في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة الأسبوع الماضي، أثار فيلم «صوت هند رجب» نقاشاً واسعاً؛ لاعتماده على الصوت بوصفه مركز التجربة السينمائية، وهو عمل توقفت عنده منصات سينمائية عالمية لكونه فيلماً يختبر قدرة مكالمة هاتفية على حمل مأساة كاملة، عبر السرد السمعي وحده.

وفي هذا الأسبوع، يصل الفيلم إلى صالات السينما السعودية ومجموعة من الدول العربية، حاملاً معه ذلك الصدى العالمي، ومطروحاً أمام جمهور جديد يترقّب عرضه يوم الخميس 18 ديسمبر (كانون الأول). الفيلم من كتابة وإخراج كوثر بن هنية، المرشحة مرتين لجوائز الأوسكار، وقد فاز بـ«جائزة الأسد الفضي» وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي. كما نال تكريمات في مهرجان سان سيباستيان، محققاً أعلى تقييم في تاريخ المهرجان، إلى جانب مشاركته في مهرجان شيكاغو السينمائي، مما أسهم في ترسيخ حضور الفيلم بوصفه أحد أكثر الأفلام غير الإنجليزية تداولاً خلال العام.

المكالمة الهاتفية... نقطة البداية

ينطلق «صوت هند رجب» من واقعة حقيقية شهدها قطاع غزة في يناير (كانون الثاني) 2024، حين حوصرت الطفلة الفلسطينية هند رجب، ذات الأعوام الستة، داخل سيارة تعرّضت لإطلاق نار في أثناء محاولتها الخروج من المدينة برفقة أفراد من عائلتها. ومع تعقّد المشهد الميداني، تتواصل الطفلة عبر الهاتف مع متطوعي الهلال الأحمر، فيما تتتابع محاولات التنسيق للوصول إليها. من هذه اللحظة، يتشكّل البناء السردي للفيلم، حيث يصبح الصوت مساحة الحكاية الوحيدة، ويتحوّل الانتظار إلى عنصر درامي قائم بذاته.

تختار المخرجة التونسية، كوثر بن هنية، أن تضع الهاتف في قلب التجربة السينمائية، وأن تمنح الصوت وظيفة تتجاوز كونه وسيطاً تقنياً إلى كونه حاملاً للزمن والقلق والمعنى. الكاميرا تتابع محيط الحدث، وحركة المسعفين، ومسارات التنسيق المتشابكة، فيما يبقى مركز الثقل معلقاً عند الطرف الآخر من الخط. هذا البناء يفرض على المشاهد حالة إصغاء مستمرة، ويضعه في موقع المشاركة الشعورية، حيث تتقدّم الدقائق بثقلها وتتراكم الأسئلة مع كل محاولة وصول مؤجلة.

يركز الفيلم على عجز المسعفين على إنقاذ الطفلة التي تستنجد بهم (أ.م.د.ب)

اختبار العجز الإنساني

في مقاربته الحدث، يختار «صوت هند رجب» مساراً إنسانياً يركّز على الفعل ذاته: الاستغاثة، والمحاولة، والسعي للوصول. هذا التركيز يمنح الفيلم بعداً إنسانياً، ويجعله مفتوحاً على تلقي جمهور واسع يرى في القصة اختباراً أخلاقياً لمعنى الإنقاذ حين تتشابك الظروف وتتأخر الاستجابة. هنا، تتحول السينما إلى مساحة تأمل في حدود الفعل الإنساني، وفي المسافة بين النداء والاستجابة.

كوثر بن هنية، التي راكمت حضوراً بارزاً في المشهد السينمائي الدولي خلال السنوات الماضية، تواصل في هذا العمل مشروعها الفني القائم على مساءلة العلاقة بين الواقع والتمثيل، وذلك بعد أفلام لاقت اهتماماً عالمياً مثل «الرجل الذي باع ظهره» و«بنات ألفة»، حيث تأتي هذه التجربة لتؤكد انشغالها بتحويل الوقائع المعاصرة إلى بناء سينمائي متزن، يعتمد على الشكل بوصفه مدخلاً للفكرة. ففي هذا العمل يظهر هذا الوعي في الاختزال السردي، وفي الثقة بقدرة الصوت على حمل الثقل الدرامي.

يشارك في بطولة الفيلم مجموعة من الممثلين، من بينهم سجا كيلاني، ومعتز ملحيس، وكلارا خوري، وعامر حليحل، في أدوار تتوزع بين محيط الحدث ومسارات التواصل ومحاولات التنسيق، وكل ذلك يحدث في مكان واحد، على مدى ساعة ونصف هي مدة الفيلم، حيث تتحرك الشخصيات ضمن سياق جماعي، تتكشف ملامحه عبر الأصوات وردود الفعل أكثر من الأداء القائم على الصورة.

الصوت في الصدارة

يبرز الصوت في الفيلم بوصفه الشخصية الأهم: صوت الطفلة، وأصوات المسعفين، وأصوات المتطوعين، جميعها تتحول إلى مكوّنات درامية تحمل الخوف والارتباك والأمل المؤجل... ومع امتداد التجربة من دون ذروة تقليدية، يبقى المشاهد داخل حالة توتر مستمرة تعكس طبيعة الحدث، وتمنح العمل ثقله الأخلاقي.

وخلال عرضه الخاص ضمن الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، حظي الفيلم بتفاعل لافت داخل القاعة الرئيسية. فالعرض، الذي اقتصر على مناسبة واحدة فقط، نفدت تذاكره سريعاً، واختُتم بوصلة تصفيق امتدت لنحو 4 دقائق، في مشهد عبّر عن حجم الأثر الذي تركته التجربة لدى الجمهور، وسط تفاعل عاطفي عكس ثقل الموضوع وطبيعة المعالجة التي يفرضها الفيلم على مشاهديه.

في سباق الأوسكار

يمثّل الفيلم الترشيح الرسمي لتونس في فئة أفضل فيلم دولي ضمن سباق جوائز الأوسكار لعام 2026، في منافسة تضم أعمالاً من 86 دولة، وهذا السياق يضع العمل ضمن مسار شديد التنافس، تتقاطع فيه القيمة الفنية مع طبيعة الموضوع ونمط التلقي، مدعوماً بخبرة مخرجته والأصداء التي رافقت عروضه الأولى.

في المحصلة، يقدّم «صوت هند رجب» تجربة سينمائية تنتمي إلى سينما الذاكرة والتوثيق الإنساني، حيث يتحول الصوت إلى أداة لحفظ الأثر، وتصبح المكالمة الهاتفية سجلاً زمنياً للحظة كاملة. ومع وصوله إلى صالات السينما السعودية، يفتح الفيلم مساحة جديدة للنقاش حول دور السينما في مقاربة المآسي المعاصرة، عبر الإصغاء، والتأمل، وتثبيت الذاكرة بوصفها فعلاً ثقافياً وإنسانياً.


السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
TT

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده، تماماً كما حدث عندما داهم وباء «كورونا» العالم قبل 5 سنوات، فوجدت السينما، كغيرها من القطاعات، نفسها في موقع التحدي والمواجهة.

لكنّ ما يحدث هذه المرّة يختلف؛ فالسينما تدخل عصراً جديداً تبلورت ملامحه في الأعوام السابقة، ثم تجسّد عام 2025 بوصفه واقعاً ثابتاً وقوة مؤثرة في مختلف عناصر الصناعة. الإحاطة بهذه التطورات تكشف حجم تأثير دخول التقنيات إلى عمق البنية الصناعية للسينما.

«بوليت» المطاردة تبدو واقعية لليوم (وورنر)

استبدال شامل

حتى سنوات قليلة مضت، ظلّ إنتاج الأفلام يجري بالطريقة التقليدية: الموافقة على المشروع، ومن ثَم تطويع كل الإمكانات الفنية والتقنية لخدمته وفق موضوعه ونوعه. وكان من المعتاد اللجوء إلى تقنيات الكمبيوتر غرافيكس لإتمام ما يصعب تحقيقه واقعياً، مثل مشاهد مطاردات السيارات في أفلام مثل «بولِت» (Bullitt) 1968، و«ذَ فرنش كونكشن» (The French Connection) 1971، و«رونَن» (Ronin) 1998، التي كانت تُنجز بجهود بشرية شاقة وبمخاطر حقيقية.

اليوم تغيّر القاموس التنفيذي بالكامل. بات في الإمكان تصوير ممثل يركض في «شوارع باريس»، وهو في الحقيقة واقف داخل ستوديوهات «يونيڤرسال»، أمام شاشة خضراء. ويكفي عقد مقارنة بين تلك الأفلام الكلاسيكية وأي فيلم من سلسلة «Fast and Furious» للتأكد من حجم التحوّل.

لكن المدّ لا يتوقف هنا. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي شهد هذا العام قفزة جديدة. صار من الممكن، تنفيذ الفيلم من السيناريو إلى الشاشة عبر منظومة غير بشرية بالكامل: كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، بل وحتى أداء الممثلين.

دافع رئيس

قبل أسبوعين، اعتلى المخرج غييرمو دل تورو منصّة «أميركان فيلم إنستتيوت» لتسلُّم جائزته عن فيلمه الجديد «فرانكنستين»، ونال تصفيقاً حاراً حين أعلن: «فيلمي فني في كل لقطة. خالٍ بنسبة 100 في المائة من الذكاء الاصطناعي».

وعلى الرغم من هذه المواقف، يبقى الدافع الأساسي لاعتماد التقنية واضحاً: تقليص الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية. فالذكاء الاصطناعي قادر على خفض التكاليف إلى النصف تقريباً، بحيث تبقى الرواتب هي العبء الأكبر وحدها.

وهذا يتقاطع مع استعداد جمهور واسع لقبول كل ما يقدّم له ما دام يحتوي على جرعات عالية من الأكشن والخيال، دون الاكتراث بما إذا كان الفيلم «بشرياً» أم مُنتجاً آلياً.

«فرانكنستين» 100 في المائة سينما (نتفليكس)

تفكير بالنيابة

يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي (AI) أنّه يطوّر بصريات الفيلم ويجوّد مؤثراته، لكن هذا صحيح بقدر محدود. فالسينما بلغت قممها على أيدي فنانين أكفّاء صنعوا روائع مثل «ووترلو»، أو «بوني وكلايد»، أو «لورنس العرب»، أو «صنست بوليڤارد»، أو «القيامة الآن».

ما يطلبه الذكاء الاصطناعي ببساطة هو: «لا تفكّر... سأفكّر نيابةً عنك».

وهو ما يشبه ما حدث مع الهواتف الذكية وخرائط «غوغل»: استبدال الجهد الذهني بالاعتماد التام على التقنية.

ولا يعمل الذكاء الاصطناعي وحده في هذا المسار. فعام 2025 هو الامتداد الأكثر شراسة لما بدأ قبل سنوات مع المنصّات المنزلية، التي توفّر عليك مهمّة الانتقال إلى صالات السينما. غايتها ليست راحتك ولا حتى مساعدتك على الحد من النفقات (لم ترتفع أسعار التذاكر إلى المستوى الحالي إلا كرد فعل على انخفاض الإقبال) بل مد أصابعها إلى محفظتك كل شهر. أنت بالتالي، وعلى عكس روعة الحضور الفعلي لصالة السينما، لست أكثر من رقم محفوظ ومصمم لكي تُفيد جهة لن تقوم مطلقاً بتوفير أفلام فنية أو تعالج موضوعات جادّة بفاعلية طالما إنها ليست مطلب الجمهور.

وفي هذا السياق جاء هجوم «نتفليكس» الأخير لشراء «وورنر»، في خطوة توسّع رقعة هيمنة المنصّات. بينما جاء دخول «باراماونت» على خط الاستحواذ لعرقلة هذا التفرّد وإعادة بعض التوازن إلى المنافسة.

لكن السينما المناوئة لم تُهزم بعد وتجد في المهرجانات الفنية مساحة كبيرة للمقاومة كما في مواقف مخرجين يدركون جيّداً أن عليهم الصمود في وجه هذه التيارات.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)

THE SECRET AGENT ★★★★

إخراج: ‪ كلايبر مندوزا فيلو‬

البرازيل | تشويق سياسي

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

يتألّف هذا الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «ڤينيسيا» هذا العام واستُقبل جيداً في مهرجان البحر الأحمر قبل أيام من 3 أقسام، كل منها بعنوان مختلف، لكن ليس بغرض سرد 3 حكايات مختلفة، بل لربط أحداث كل فصل وشخصياته بخيط واحد يتناول، بالإيحاء غالباً، الجريمة السياسية في البرازيل سنة 1977. وسواء تحدّث القسم الأول عن جرائم قتل ارتكبها نظام تلك الفترة ضد المواطنين، أو رغبة بطل الفيلم مارسيلو (واغنر مورا) في البحث في أرشيف الدولة عن تاريخ عائلته (القسم الثاني)، أو لجوئه للتخفي بعيداً عن أعين مطارديه في محاولته لإعادة فهم وتقييم الواقع المُعاش (عموم الأقسام الثلاثة)، فإنه يوفّر من خلال شخصية بطله نظرة جامعة لأثر الاضطهاد السياسي على حياته فرداً وحياة الآخرين مجموعةً. وهو يفعل ذلك بدراية كاملة وبحرية فنية تجعل الفيلم أكثر إشباعاً لمحبي السينما وتمنح المُشاهد معالجة تبدو كما لو كانت مستقاة من خطوط أحداث لا نراها، بل نعايشها كما نعايش الماثل أمامنا. هذا كان شغل فيلو منذ فيلمه الأول «أصوات مجاورة» (Neighboring Sounds) وما زال شغله الآن، حيث ما نراه وما لا نراه يتساويان في الإيحاء والأهمية.

يستخدم فيلو السينما مرآة تعكس ذاكرة تقض المضاجع. مارسيلو يعيش في ماضيه كما في واقعه الحالي. يلجأ إلى بلدة تعيش طقوساً احتفالية لا يأبه لها كثيراً، إذ إن غايته إعادة الوصل بينه وبين ابنه الذي يعيش في الخيال. كل هذا والشعور بأن السلطة والعاملين فيها أو متعاملين معها موجودون عن قرب، حتى وإن لم نرَ لهم حضوراً فعلياً.

يتحرك الفيلم بحرية بين موضوعاته وأقسامه، غير مرتبط بمنهج سرد معيّن، ولكثرة مشاغله وما يود البحث فيه هناك تطويل يطغى، لكنه يبقى قادراً على جذب الاهتمام طوال الوقت. ما يتبلور على الشاشة هو عمل يجمع بين سيرة شبه شخصية لرجل يرفض نسيان الأمس وبين حب السينما كلغة تعبير، وثقة المخرج بالكيفية التي ينجز فيها مفرداته هذه.

BLACK RABBIT‪,‬ WHITE RABBIT ★★★

إخراج: شهرام مقري

طاجيكستان/ الإمارات العربية

المتحدة | دراما

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

هذا فيلم غريب يُقدّر لحريّة المخرج في معالجته المبنية، بوضوح، على الخروج من شروط السرد المعتمد عادةً إلى آخر يتطلّب من المُشاهد التحرك بالاتجاه نفسه، متجاوزاً بدوره ما اعتاد عليه.

«أرنب أسود، أرنب أبيض» (مهرجان البحر الأحمر)

يدور في أرض تعود إلى استوديو حيث يُصوَّر فيلمان معاً في رقعة واحدة. رغبة المخرج مقري تعتمد على الإكثار من استخدام حريّته في رصف الفيلم الذي يريد كما يريده. هذا يخلق وضعاً تتكرر فيه المشاهد والحوارات، كما الحال عادةً خلال صنع الأفلام. نرى المشهد نفسه مع تغيير طفيف أكثر من مرة، تبعاً لرؤية مخرج يهوى التجريب ويراه مدخلاً مناسباً لسينماه. امرأتان ورجل ومسدس قديم هم محور ما يدور، لكن في وسط ما يبدو تكراراً، حضور لطبقات جديدة تتوالى الظهور.

من حسنات الفيلم التصوير (لمرتضى غايدي)، الذي يؤسس لنظام عمل متكامل يتواكب مع رغبة المخرج في تشغيل مخيلة المُشاهد وتعزيز أسلوبه. في أحيان كثيرة، يؤدي ذلك، ولو بالقصد، إلى الخلط بين الحدث الذي يقع في الفيلم الذي نراه، وذلك الحدث الآخر الذي ينطوي عليه الفيلم داخل الفيلم.

LOST LAND ★★★

إخراج: أكيو فوجيموتو

اليابان/ ماليزيا/ فرنسا

دراما عن الهجرة

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

لا بد أن الشعور الإنساني في صميمه هو ما يدفع مخرجاً يابانياً للانتقال إلى بنغلاديش لتصوير موضوع محلي الحدث مع شخصيات محلية بدورها.

«أرض مفقودة» (مهرجان البحر الأحمر)

في «أرض مفقودة» متابعة لمصير صبي في الرابعة من العمر وشقيقته ابنة التاسعة، وقد قررا الاشتراك في رحلة تبدأ في حافلة تقل عشرات الأشخاص وتنتهي بهما بعد أيام من المشاق، وقد أصبحا وحيدين. مما يتبدى أن غاية المخرج فوجيموتو هي الحديث عن الهجرة غير الشرعية عموماً، مع تمهيد للشخصيتين قبل التحوّل عنهما لتصوير آخرين يؤمّون الهدف نفسه ويعيشون مصاعبه. سيعود المخرج للصبي شافي وأخته سميرة لاحقاً بعد أن يؤسس صورة عامة.

رغبة هذين الولدين هي ترك بنغلاديش في محاولة للقاء والديهما اللذين كانا قد هاجرا إلى ماليزيا. ليس هناك كثيراً لتداوله حول ظروف ما قبل قرارهما بالهجرة، لكن الحكاية تنتهي بهما وقد وجدا نفسيهما في تايلاند. على ذلك، يلتقي هذا المنهج مع حقيقة أن الشخصيات المحيطة تهاجر من دون القدرة على اتخاذ قرارات صائبة. في عموم الفيلم، هم آملون بمستقبل أفضل في عالم لا أمل فيه بالنسبة إليهم على الأقل.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز