أسرار وخفايا تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر

(تحليل إخباري)
أعاد القضاء التونسي ملف تسفير الشباب إلى بؤر التوتر إلى واجهة المشهد السياسي بقوة، رغم صعوبة تناول هذا الموضوع بعد أن وجهت التهم بصفة أولية لنحو ألف متهم، إثر تشكيل لجنة برلمانية سنة 2017 للتحقيق في هذا الملف. كما اكتست هذه القضية أبعاداً خطيرة بعد أن ورد اسم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، ونائبه علي العريض ضمن قائمة المتهمين، وهي التهم التي أنكرتها قيادات النهضة. لكن بعض التيارات اليسارية لا تزال تصرّ على وجود ارتباط وثيق بين تسفير الشباب إلى بؤر التوتر والجهاز الأمني السري للحركة.
ورغم مرور سنوات عدة على تفجر هذا الملف، لا يزال الشارع التونسي يطرح تساؤلات عدة دون أن يجد أجوبة مقنعة، وأبرزها، كيف تمت عمليات التسفير وتجنيد الشباب التونسي وإرساله إلى بؤر الإرهاب خلال السنوات التي تلت ثورة 2011؟ وهل كان ذلك بتحريض من قيادات سياسية تتبنى العنف في أدبياتها، أم أن ذلك مرتبط فقط بقرارات أشخاص تبنوا الفكر المتطرف؟ وكيف تمكن آلاف الشبان من مغادرة البلاد دون أن تتنبه السلطة القائمة لأمرهم؟ والأهم من ذلك كله هل هناك دور مباشر مفترض في هذا الملف لقيادات النهضة بشقيها السياسي والدعوي، وأو لبعض التنظيمات السياسية والدعوية الأخرى، وعلى رأسها تنظيم أنصار الشريعة المحظور؟ وما علاقة شبكات التسفير بسياسة بعض الدول الغربية في دعم ما بات يعرف بـ«الفوضى الخلاقة » في عدد من دول الربيع العربي، ضمن مخططات هدفها السيطرة على ثروات العالم العربي؟
بالنسبة لطرق ومسالك تسفير الشبان إلى بؤر التوتر، أكدت السلطات التونسية أكثر من مرة أنها لم تكن قادرة على السيطرة عليه، لأنه يتخذ أشكالاً عدة، من بينها استخدام المسالك الحدودية الوعرة في الجنوب التونسي، ومن ثم التوجه إلى ليبيا قبل السفر إلى تركيا، أو السفر بشكل عادي إلى بعض البلدان الأوروبية، ثم تحويل الاتجاه نحو تركيا. لكن السؤال الأساسي الذي لم يجد إجابة حاسمة وهو لماذا توجه آلاف الشبان التونسيين إلى بؤر التوتر للارتماء في ساحات المواجهة المسلحة رغم ما تحمله من مخاطر الموت؟
جزء من الإجابة جاء على لسان وزراء الداخلية، الذين تعاقبوا على هذه الوزارة الهامة، حيث صرحوا بأن أجهزة الأمن منعت الآلاف من الشبان من التوجه إلى بؤر التوتر في سوريا وليبيا والعراق، لكن القيادات السياسية والأمنية كانت عاجزة عن وضع حد نهائي لهذه العمليات؛ وذلك بسبب الانفلات الأمني، والإغراءات الكثيرة التي منحت للمقبلين على بؤر الإرهاب. وفي هذا الشأن، كشف رفيق الشلي، مدير الأمن الرئاسي السابق وكاتب الدولة للشؤون الأمنية الذي كان يرأس أيضاً جميع الأجهزة الاستخباراتية، عن أن بعض القرارات السياسية عرقلت استكمال التحقيقات في قضية تسفير الشباب إلى بؤر التوتر، وقال، إن جميع الأدلة والأبحاث الخاصة بخلايا التسفير أكدت تورط قيادات معروفة، لكن القرار السياسي حاول إغلاق الملف. مؤكداً اتخاذ السلطات العليا في البلاد قراراً بتغيير العديد من المسؤولين بوزارة الداخلية، ممن لديهم ولاءات لحركة النهضة، والعمل على تنقية الجهاز الأمني، على حد تعبيره.
وبخصوص أعداد التونسيين الذين توجهوا إلى بؤر التوتر، كشف هادي المجدوب، وزير الداخلية سنة 2017، عن أن السلطات الأمنية تمكنت منذ 2012 من منع أكثر من 27 ألفاً من الشبان للسفر، بعد الاشتباه في توجههم إلى مناطق النزاعات المسلحة في الخارج. كما تمكنت سنة 2016 من تفكيك 245 خلية لتسفير الشباب بينما كان العدد في حدود مائة خلية فقط في 2013، إضافة إلى توقيف 517 عنصراً متورطاً في هذه الخلايا.
في السياق ذاته، أظهرت أرقام رسمية وأخرى غير رسمية سنة 2016، أنّ عدد المقاتلين التونسيين في صفوف «داعش» الإرهابي بلغ نحو خمسة آلاف مقاتل، وأن وزارة الداخلية منعت نحو 15 ألف شاب من الالتحاق ببؤر التوتر في سوريا وليبيا. في حين أشارت تقارير منظمات حقوقية إلى أن هجرة الشباب للالتحاق بصفوف «داعش» مردها أساساً إلى البطالة، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل نحو 700 ألف شاب، ثلثهم من أصحاب الشهادات العليا.
ويؤكد عدد من الخبراء والمختصين في الجماعات المتطرفة، أن التحاق الشباب التونسي بالجماعات المقاتلة بدأ حتى قبل ثورة2011، حيث تبين أن مئات الشبان توجهوا سنة 2003 إلى العراق أثناء الغزو الأميركي، وشاركوا في القتال ضد القوات الأميركية. ورأوا أن وجود «حاضنة اجتماعية تونسية » للفكر المتطرف شجعت بشكل كبير التحاق الشباب ببؤر التوتر، خاصة أن بعض العائلات لم تكن تعتبر التحاق أبنائهم بجبهات القتال جريمة، بل وسيلة للشهادة ضد القوات الغازية لأراضي المسلمين.
تقول الإعلامية التونسية خولة الفرشيشي، التي تابعت ملف تسفير الشباب إلى بؤر التوتر، إن الشباب التونسي «بات يعيش حالة من الفراغ والعزوف عن الشأن العام، بعد سيطرة مسنين على المشهد العام والتحكم في دواليب الدولة، وإقصاء الشباب منه. كما استخدم النظام السابق ورقة الإرهاب لسجن الشباب، دون أن يبحث عن أجوبة حقيقية لمشاكله ». وأوضحت الفرشيشي، أن «أصول عدد كبير من الملتحقين بتنظيم (داعش ) تعود لبيئات فقيرة مهمشة، لم تعمل الدولة التونسية على تحسينها؛ فأصبحت هذه البيئات المهمشة والأحياء الشعبية حاضنة ومفرخة للإرهاب. وقد أثبتت العمليات الإرهابية التي شهدتها تونس أن أغلب المتورطين في هذه العمليات ينحدرون من بيئات مهمشة»، على حد تعبيرها.
من جانبه، دعا محمد إقبال بن رجب، رئيس جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج، السلطات التونسية إلى التقدم بطلب إلى سوريا وليبيا والعراق لتسلم بعض الشبان التونسيين، الذين تم تسفيرهم من خلال تلك الشبكات، في إطار إنابة قضائية دولية. وقال، إن الدول الثلاث لا تمانع في تسليم معتقلين للإدلاء بشهادتهم في قضية التسفير، وهو ما سيكون عنصراً مؤثراً للغاية في تقدم المحاكمة، وكشف المزيد من الأسرار، وتحديد المسؤوليات.