إيطاليا: ميلوني تلجأ إلى دراغي للتهدئة مع الشركاء الأوروبيين

تتجه إلى المحافظة على قدر من الاستمرارية في الحقائب الرئيسية

ميلوني مغادرة المقر الرئيسي لحزبها في روما أول من أمس (أ.ب)
ميلوني مغادرة المقر الرئيسي لحزبها في روما أول من أمس (أ.ب)
TT

إيطاليا: ميلوني تلجأ إلى دراغي للتهدئة مع الشركاء الأوروبيين

ميلوني مغادرة المقر الرئيسي لحزبها في روما أول من أمس (أ.ب)
ميلوني مغادرة المقر الرئيسي لحزبها في روما أول من أمس (أ.ب)

منذ فجر الاثنين الماضي، عندما ظهرت جورجيا ميلوني أمام أنصارها في روما للاحتفال بالنصر التاريخي الذي حققته في الانتخابات العامة، داعية إلى التحلي بروح المسؤولية ومؤكدة أنّ هذا النصر ليس نهاية الطريق بل بدايتها، تنكبّ زعيمة «إخوان إيطاليا» على دراسة الملفات العديدة الساخنة التي ستكون على مائدة الحكومة الجديدة التي من المنتظر أن تتولّى مهامها اعتباراً من مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وتؤكد الأوساط المقربة من ميلوني أنها على تواصل دائم مع رئيس حكومة تصريف الأعمال ماريو دراغي الذي كلّف جميع وزرائه بتشكيل فريق يـؤمن الانتقال السلس والسريع بين الحكومتين السابقة والجديدة، بما يضمن مواجهة الاستحقاقات الملحة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ضمن المهل المحددة ومقتضيات التزامات إيطاليا الأوروبية والدولية.
ويتجه رئيس الجمهورية سرجيو ماتاريلا المعروف بميوله التقدمية، الذي كان قد قبل على مضض تجديد ولايته مطلع هذا العام، إلى تسريع عملية تشكيل الحكومة التي لا يمكن في أي حال أن تبدأ قبل منتصف الشهر المقبل، عندما يعقد البرلمان الجديد جلسته الأولى بعد مصادقة المحكمة الدستورية على نتائج الانتخابات.
ومن المتوقع أن يواجه الائتلاف اليميني عندئذ امتحانه الداخلي الأول عند انتخاب رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب اللذين جرت العادة على تقاسمهما بين الموالاة والمعارضة.
ويتحدث المقربون من ميلوني عن أن رئاسة مجلس النواب ستكون من نصيب حزب «إخوان إيطاليا»، فيما تكون رئاسة مجلس الشيوخ للحزب الديمقراطي أو حركة «النجوم الخمس»، ما قد يثير أول احتكاك بين ميلوني وحليفيها ماتيو سالفيني الذي تتسع المطالبة بتنحيته داخل حزبه، وسيلفيو برلوسكوني الطامح هو شخصياً لرئاسة مجلس الشيوخ الذي كان قد طرد منه قبل تسع سنوات بسبب حكم قضائي يدينه بتهمة الفساد.
ويستفاد من التسريبات الأولى التي رشحت من الدائرة الضيقة المحيطة بميلوني، أنها تتجه إلى المحافظة على قدر من الاستقرار والاستمرارية في الحقائب الرئيسية؛ حيث يرجّح أن يتولّى حقيبة الاقتصاد المدير العام السابق للمصرف المركزي الإيطالي والمستشار الحالي في المصرف المركزي الأوروبي فابيو بانيتّا، وهو مقرّب من دراغي، وأن يتولّى حقيبة الخارجية الأمين العام الحالي لحزب «فورزا إيطاليا» والرئيس السابق للبرلمان الأوروبي أنطونيو تاجاني الذراع اليمنى لبرلوسكوني.
وتجدر الإشارة إلى أنه برغم رفض ميلوني المشاركة في حكومة دراغي الائتلافية ومعارضتها الشديدة لها في بعض الملفات الداخلية، حافظ الطرفان على الحد الأدنى من التعاون، وتوافقا على بعض الملفات الحساسة وفي طليعتها إرسال المساعدات العسكرية لأوكرانيا وتأييد العقوبات الأوروبية على موسكو، التي كان حلفاء ميلوني في «الرابطة» و«فورزا إيطاليا» يترددون في تأييدها وأحياناً يعترضون عليها.
ومن الملفات الأكثر الحاحاً على الصعيد الأوروبي، إنجاز قانون الموازنة العامة التي يجب أن يكون على مائدة المفوضية قبل منتصف الشهر المقبل. لكن نظراً لأن الحكومة الجديدة لن تتولى مهامها قبل نوفمبر، ستكتفي الحكومة الحالية بإرسال مشروع يتضمن الخطوط العريضة للموازنة، تاركة تفاصيلها لحكومة ميلوني.
وتقول أوساط مطلعة إن ميلوني تميل لتبني الاقتراح الذي أعده دراغي بضبط الموازنة من غير الوقوع في عجز، وذلك على الرغم من الضغوط التي تمارسها «الرابطة» لتخصيص صندوق بمبلغ 30 مليار يورو لمساعدة الأسر والمؤسسات على مواجهة الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، التي يرى فيها «إخوان إيطاليا» مؤشراً على المزايدات المرتقبة من سالفيني الذي سيسعى بكل الطرق للظهور أمام حزبه بأنه ما زال قادراً على التأثير داخل الائتلاف على الرغم من التراجع الكبير في شعبيته، خصوصاً في الدوائر التي تعتبر معاقل تقليدية لحزب «الرابطة» الذي خرج مؤسسه اومبرتو بوسـّي لأول مرة من البرلمان منذ ثلاثين عاماً.
في غضون ذلك، تفيد مصادر دبلوماسية مطلعة بأن رئيس حكومة تصريف الأعمال الإيطالية ماريو دراغي أجرى اتصالات مؤخراً بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين، ليؤكد لهم أن الحكومة الجديدة برئاسة ميلوني ستحافظ على الموقف الحالي من الملفات الثلاثة الرئيسية في العلاقات بين روما والشركاء الأوروبيين. أولاً، مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا والحفاظ على وحدة الصف الأوروبية من العقوبات على موسكو. ثانياً، الالتزام التام بالشراكة الأطلسية ومقتضياتها. وثالثاً، الامتناع عن أي خطوات مالية من شأنها أن تفاقم الدين الإيطالي العام الذي يشكّل مصدر قلق كبير في المحيط الأوروبي.
وتقول هذه المصادر إن اتصالات عدة جرت في الأيام الأخيرة بين ميلوني ودراغي، وإن زعيمة «إخوان إيطاليا» تعهدت بوقف الانتقادات النارية التي حفلت بها حملتها الانتخابية ضد الشركاء الأوروبيين، وتحديداً ضد باريس وبرلين وبروكسل، والتخفيف من التصريحات المؤيدة لفكتور أوربان الذي كان حزبها قد أيدّه في البرلمان الأوروبي مؤخراً، مقابل أن يكون دراغي الضامن لعلاقات مستقرة وبناءة بين الحكومة الجديدة ومراكز القرار الأوروبية.
وتجدر الإشارة إلى أن ميلوني شنّت في السابق حملة قاسية على المفوضية الأوروبية، وصرّحت بأن سيادة المؤسسات الأوروبية موضع نقاش وتحتاج إلى إعادة نظر، وتوعّدت بضرب المحور الفرنسي – الألماني، داعية إلى الاتجاه نحو الشرق الأوروبي لتصحيح الخلل في التوازنات داخل الاتحاد.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟