الحجة ونقيضها.. أخطاء متطرفة في مواجهة التطرف

تحميل بعض المرجعيات السلفية التراثية المسؤولية يخدم التطرف ولا يكافحه

عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)
عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)
TT

الحجة ونقيضها.. أخطاء متطرفة في مواجهة التطرف

عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)
عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)

لم يدعُ رأسمالي في الحقبة المكارثية في الولايات المتحدة لحرق كتب ماركس، كما لم يدعُ أعداء النيتشوية لحرق كتب نيتشه وفيها ما فيها مما أرهص بالحقبة النازية. كما لم يحض تنويري غربي في عصر الأنوار منذ سبينوزا (توفي عام 1677م) في «اللاهوت والسياسة» أو في كتابه «الأخلاق» إلى كانط (توفي عام 1804م) إلى حرق النصوص، بل كانوا من المؤمنين بإمكانية إصلاح الميتافيزيقا (أيا كانت)، عبر تطبيق نظرية المعرفة عليها.
هذا فضلا عن أن خطاب مكافحة التطرف الطارئ دائما في ثقافتنا وتاريخنا، يجري دائمًا على أرضية الديني والوسط الفقهي والعقلي. من هنا نرى أن الأخطاء المتطرفة في الحرب والحرق لبعض المرجعيات السلفية التراثية، أو تحميلهم المسؤولية عن أفعال وممارسات متطرفة بينها وبينهم قرون، يخدم التطرف أو لا يكافحه في أقل الأحوال، وأصحاب هذه الأخطاء أشتات متفرقون، يجمعهم ما يسمى «ذبح التراث» يستهدف بعضهم الشافعي وآخرون البخاري وآخرون ابن تيمية أو الغزالي وبعض آخر ابن خلدون مع تفاوت درجات الحكم!

إن خطورة مثل هذا الخطاب ذيوعه العام ومخاطبته العوام، فضلاً عن وقوعه في العديد من الأخطاء المنهجية والعلمية، التي تسقط منتجه النهائي، وتجعله في موضع السجال والانفصال لا التأثير والاتصال، يمكن أن نحدد بعضها فيما يلي:
1- انفصال هؤلاء شبه الكلي عن خطاب التطرف نفسه واكتفاؤهم بتحميله على مرجعياته التراثية، وهو الأمر غير الصحيح في فهم ظاهرته أو مكافحته؛ فمن ينتقدون الدواعش يتابعون أخبار تنظيماتها دون تنظيراتها الأكثر أهمية مثلا. وتثبت الأخيرة دائما أنها طارئ تاريخي يفتقد الأصالة ويحرفها بغية أهدافه الآنية، وليس أدل على ذلك من عمليات «داعش» الانتحارية التي توسع فيها رغم إقرار منظريه بأنها بدعة غير مسبوقة في الفقه الإسلامي.
2- إن مرجعيات السلف مرجعيات عامة ومشتركة بين الاعتدال والتطرف، ونسبها وحصرها كنزًا وركزًا للتطرف دون الاعتدال الوسطي الغالب، إضافة لمخزون التطرف لا خصم منه.
3- لا يمكن رد خطاب التطرف باستخدام مقولاته وأدواته نفسها، فننتج تطرفًا مضادًا عليه، يزكيه ولا يعالجه، فهنا نستخدم ما يسميه الباحث منير شفيق «الحجة ونقيضها في آن واحد».
4- خطأ قراءة التراث خارج زمنيته وخارج تعدديته الكامنة في بنيته ونصوصه، سواء في خطابات ممثليه أو منظومته بشكل عام. وهو ما ألح عليه إدوارد سعيد في نقده للاستشراق بشكل عام، وابن تيمية فيه ما هو مقبول جدًا كرأيه في الطلاق والكثير من مسائل الأحوال الشخصية، ورأيه في الإمامة التي رفض اعتبارها أصلاً من أصول الدين، ورأيه في مسألة الخروج على الحكام التي رأى عدم القول به من منهج السلف، بل رأيه في المثلة بالأسير والحرق له الذي رفضه ورآه مضرة في الدين والدنيا كما وضح في «منهاج السنة»، ورفضه كلية تكفير المعين وغيرها، والعشرات من المسائل وغيرها! التي يمكن أن تكون ضدا على التطرف المعاصر.
5- عدم التفريق - كما يقول ابن تيمية - في قراءة التراث بين الصحة والصلاحية، فالصلاحية لا تعني الصحة كما أن الصحة لا تعني الصلاحية! يجتمعان ويفترقان، ولكن تظل الأخيرة حكمًا مهمًا في أحكام الواقع.
6- خطورة تجنيد العوام بدعوى حماية المقدسات؛ إذ يستخدم التطرف الجهادي أخطاء التطرف المضاد عبر تصويره عن أنه «حرب على الدين والمقدسات». وهو ما أكد عليه مؤلف «إدارة التوحش» أبو بكر ناجي كجزء في المعركة الإعلامية الضرورية والمصيرية لتنظيماته، عبر زرع الاستقطاب في المجتمع وبين الجماهير، فيقول عن الفريق المحايد المتدين واستقطابه الذي يقدمه على الاستقطاب بالمال، كما يذهب: «علينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، خصوصا أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المعركة الحالية». إن رهان الدواعش على تعاطف المتدينين وحماستهم وغضبهم من المساس بما يرونه مقدسًا، وقد علق المنظر الأردني أبو محمد المقدسي على قرار حظر كتب ابن تيمية في الأردن يوم 8 يونيو (حزيران) الماضي، مع اتهامه لـ«داعش» بسوء فهمها، بأنه حماقة تقابلها وقاحة السماح بما يحارب الدين والأنبياء! وذلك في تغريدة له يوم 10 يونيو الماضي، وهو ما يعني الاستنفار المضاد تجاه فكرة الحظر بمعنى الدفاع عن الدين.
منذ الثالث من فبراير (شباط) 2015 وإحراق «داعش» الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة، تعالت دعوات لحرق كتب ابن تيمية التي استند إليها «داعش» في استناد مزور ومدلس سبق أن أوضحناه في تقرير لهذه الصحيفة بعنوان «التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية» نشر يوم 9 فبراير 2015. وصدر قرار دائرة المطبوعات والنشر الأردنية يوم 8 يونيو الماضي بحظر كتب ابن تيمية، بعد شهور من إقدام بعض الشباب الغاضبين من قتل الشهيد الكساسبة على حرقها في الجامعة، وهي الفتوى التي يثبت أي تحقيق أنها مزورة على الرجل ومدلسة من نصوصه ومقطوعة عن سياقها المنقول عنه كما سبق أن أوضحنا. وهذا كما قلنا إنصاف للعلم وليس لابن تيمية الذي نحاكمه بمعيار الصلاحية لا التصنيم، شأن كل ما هو موروث وتراث في تصورنا.
وتعقيبًا وتأييدًا لهذا القرار الأردني، وردًا على منتقديه، كتب الأكاديمي الإماراتي الدكتور علي بن تميم مقالا بعنوان: «ابن تيمية الذي حفر حفرة لابن حيان فوقع فيها»، على موقع الإمارات 24 يوم السبت 13 يونيو الحالي، زاد فيه بإيراد موقف ابن تيمية من علم الكيمياء ومن عالمها العربي جابر بن حيان، وذكر أن ابن تيمية قد حرق كتبه. وهذا استدلال نرى أنه يحتاج الكثير من النقاش والمراجعة، فالكيمياء في عصر ابن تيمية لم تكن الكيمياء التي نتكلم عنها الآن، كما أن ابن تيمية لم يحرق كتب ابن حيان بل حرق كتب ساحر معاصر له نسب للكيمياء أو الخيمياء، وثالثا أن صورة جابر بن حيان وخلطه كما خلط اليونان بين الكيمياء، علم الصنعة وتحويل المعادن لذهب، كانت محل نقد من أمثال أبي يعقوب الكندي الفيلسوف العربي الأول، وكانت محل إقرار ونقد من كثير من المعاصرين لابن تيمية وقبله وبعده ومن علماء الكيمياء ومؤرخي العلوم قديما وحديثا، كما سنوضح. ويمكننا أن نورد بعض الملاحظات المنهجية والتاريخية على هذا اللبس في موقف ابن تيمية من الكيمياء وجابر بن حيان توضيحا للأمر.
إن القول الذي تكرر في المعركة الأخيرة من أن ابن تيمية أفتى بحرق كتب جابر بن حيان، نقل غير صحيح، فما أفتى به ابن تيمية كان عن رجل معاصر له جادله في أن بعض الأنبياء كان يعمل بعلوم الصنعة وتحويل المعادن. ثم يقول ابن تيمية: «مات هذا الرجل وكان خطيبًا بجامع فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين إلا أقل من عشرة وكان يعاني السحر والسيميا، وكان يشتري كتبًا كثيرة من كتب العلم، فشهدت بيع كتبه لذلك فقام المنادي ينادي على (كتب الصنعة) (مجموع الفتاوى 29 / 378) وبينما كانت هذه تروج وهي كتب سحر وسيماء! ويقولون: هي علم الحجر المكرم وهي علم الحكمة ويعرفونها بأنواع من العبارات، وكان المتولي لذلك من أهل السيف والديوان شهودًا، فقلت لولي الأمر: لا يحل بيع هذه الكتب، فإن الناس يشترونها فيعملون بما فيها» (نفس المصدر - ونفس الصفحة) قد يبدو هذا الموقف تنويريًا في عرف الكثيرين! ولم يكن حرقا لكتب ابن حيان، كما قال الأصدقاء. أما قول ابن تيمية في أبي الكيمياء أنه «جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية فمجهول لا يُعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين« (مجموع الفتاوى7 / 59) فينبغي أن يُقرأ وفق محددات ثلاثة، وليس خلطا بين الحقيقة والدعاية المضادة، وهي:
الأول: موقف الحنابلة والسحر.
إنه رأي فقيه حنبلي حراني، كابن تيمية، في رجل كجابر بن حيان نسب للسحر والتنجيم الذي اختلط بالكيمياء أو الخيمياء، ولعله نقله عن ابن أبي أصيبعة صاحب «طبقات الأطباء» (المتوفى سنة 666 هجرية أو غيره من سابقيه، بمن فيهم «فيلسوف العرب»، وأولهم أبو يعقوب الكندي (توفي سنة 256 هجرية)، الذي انتقد اهتمام بن حيان بالسحر والتنجيم.
الثاني: شخصية ابن حيان نفسه:
كان ابن حيان شخصية مثيرة ومربكة لقرون، فقد أقام عمره في الكوفة ونسب للتشيع والتلمذة لجعفر الصادق (توفي 147 هجرية) كما وصف أنه أحد «الأبواب» عند الشيعة. واقترب من هارون الرشيد كما اتهم بميله إلى البرامكة وأنه هرب بعد مذبحته لهم. ولقد وصفه ابن النديم وغيره بـ«الكتوم» لهروبه وستر حاله خوفًا من ملاحقته، كما نسب للتصوف وللصابئة حينًا، ولكن ما اشتهر عنه ميله للتنجيم والألغاز وكتم ما يفعله، ونسبت له 1300 مخطوطة كما يقول محققوه لا يصح الكثير منها، قديمًا وحديثًا، كما عرف عنه الاهتمام بالتنجيم والألغاز، وغير ذلك. ولقد قال بمثل قول ابن تيمية وأكثر منه ابن خلدون، فقد وصفه في موضع بأنه «أبو الكيمياء أو علم جابر» ولكنه ليس ثناءً هنا، فهي الكيمياء بمفهوم زمانه، فقد قال عنه أيضا أنه «كبير السحرة في هذه الملة» (المقدمة ج1 / 303) ذلك أن الكيمياء كانت تعني السحر في ذلك العصر! وصناعة الذهب المغشوش! وهكذا كان الموقف الغالب الرافض لها إلا من ممثليها، وحسب مؤرخي العلم لم تكن علمًا ربما إلا مع الكندي والرازي بعده، وقد أثنى عليهما ابن تيمية في بعض المواضع.
الثالث: الخلط بين الكيمياء والخيمياء:
لقد ورث العرب اختلاط الكيمياء بعلوم التنجيم والسحر عند اليونان، وهو ما استمر عند ابن تيمية وعند الخوارزمي وعند ابن أبي أصيبعة، بل عند «فيلسوف العرب» أبي يعقوب الكندي. وقبل عصره، كانت الكيمياء رديفًا للسحر والشعوذة ولم تكن هذا العلم المقدر في عصرنا، و(كما سبقت الإشارة) هذا لم يقله ابن تيمية فقط، بل قاله ابن خلدون أيضا الذي استند إليه في مقاله كما قاله ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء»، وقاله أبو علي الخوارزمي في «مفاتيح العلوم»، وذكرته مستشرقة منصفة كزيغريد هونكه في دراساتها عن «تاريخ العلم عند المسلمين» والعشرات قديمًا وحديثا!
بل وصل هذا العداء للخيمياء وفهم الكيمياء بـ«تحويل المعادن وتشبيهها» إلى فيلسوف كبير كأبي يعقوب الكندي الذي كان، خلافًا لابن حيان، مناهضًا معاديا للخيمياء التي كان يعدها معدومة النفع كلية، حتى إنه كتب رسالتين؛ الأولى «تحذير من تضليلات الخيميائيين» والثانية: «دحض مزاعم من يدعون التركيب الصناعي للذهب والفضة»، وهاجم ممارسة الخيمياء ليس لأسباب دينية بل على أسس علمية متينة. وكان يلح على أنه لا أساس لها في الواقع، وإنما فقط في الخيال والأماني بتحويل المعادن إلى ذهب!
ومن هنا أتى الخطأ في اتهام رجل بمعاداة علم الكيمياء، الذي لم يكن علمًا حينئذ، بل اختلط بـ«الخيمياء» أي الشعوذة! كما يرى الخوارزمي أنها تتعلق بعلم الألغاز والكتمان، التي تعني الشعوذة، كما سمى «علم الصنعة وتحويل المعادن» بل كان يهدف لصناعة الذهب المغشوش، والتشبه والتشبيه على الناس، بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، كما يسميه ابن تيمية في «الفتاوى». وهذا ما نظن المنتقدين لابن تيمية يوافقونه عليه، فلا أحد منهم يقبل الذهب المغشوش!
لا نبغي بهذه التوضيحات تصنيم ابن تيمية أو غيره من مرجعيات التراث التي يستند إليها المتطرفون كما يستند إليها كذلك ناقدو التطرف معًا، وهم كثر، ولكن نبغي التحقيق والصحة أولاً، وثانيًا تحرير التراث والإسلام الصحيح من تغول هؤلاء عليه! ولا يمكن في هذا الحال حيث المعركة الفكرية على أرض الدين حرق التراث أو تسفيهه، ولا نقول بحرق كما يقولون! ولا نصنم كما يصنمون! ولكن نحقق قبل أن نتهم ونضيف كثيرًا من مرجعيات التراث المؤثرة والشغالة إلى التطرف وجماعاته ليكونوا سندا لها. وهو ما يمثل حرجًا كذلك للفضاء الديني المعتدل الذي تمثله المؤسسات الدينية والأصوات المعتدلة، التي تنفض عن الدين والتراث تحريف هؤلاء المتطرفين وتأويلهم المنحرف لهذا التراث.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».