لم يدعُ رأسمالي في الحقبة المكارثية في الولايات المتحدة لحرق كتب ماركس، كما لم يدعُ أعداء النيتشوية لحرق كتب نيتشه وفيها ما فيها مما أرهص بالحقبة النازية. كما لم يحض تنويري غربي في عصر الأنوار منذ سبينوزا (توفي عام 1677م) في «اللاهوت والسياسة» أو في كتابه «الأخلاق» إلى كانط (توفي عام 1804م) إلى حرق النصوص، بل كانوا من المؤمنين بإمكانية إصلاح الميتافيزيقا (أيا كانت)، عبر تطبيق نظرية المعرفة عليها.
هذا فضلا عن أن خطاب مكافحة التطرف الطارئ دائما في ثقافتنا وتاريخنا، يجري دائمًا على أرضية الديني والوسط الفقهي والعقلي. من هنا نرى أن الأخطاء المتطرفة في الحرب والحرق لبعض المرجعيات السلفية التراثية، أو تحميلهم المسؤولية عن أفعال وممارسات متطرفة بينها وبينهم قرون، يخدم التطرف أو لا يكافحه في أقل الأحوال، وأصحاب هذه الأخطاء أشتات متفرقون، يجمعهم ما يسمى «ذبح التراث» يستهدف بعضهم الشافعي وآخرون البخاري وآخرون ابن تيمية أو الغزالي وبعض آخر ابن خلدون مع تفاوت درجات الحكم!
إن خطورة مثل هذا الخطاب ذيوعه العام ومخاطبته العوام، فضلاً عن وقوعه في العديد من الأخطاء المنهجية والعلمية، التي تسقط منتجه النهائي، وتجعله في موضع السجال والانفصال لا التأثير والاتصال، يمكن أن نحدد بعضها فيما يلي:
1- انفصال هؤلاء شبه الكلي عن خطاب التطرف نفسه واكتفاؤهم بتحميله على مرجعياته التراثية، وهو الأمر غير الصحيح في فهم ظاهرته أو مكافحته؛ فمن ينتقدون الدواعش يتابعون أخبار تنظيماتها دون تنظيراتها الأكثر أهمية مثلا. وتثبت الأخيرة دائما أنها طارئ تاريخي يفتقد الأصالة ويحرفها بغية أهدافه الآنية، وليس أدل على ذلك من عمليات «داعش» الانتحارية التي توسع فيها رغم إقرار منظريه بأنها بدعة غير مسبوقة في الفقه الإسلامي.
2- إن مرجعيات السلف مرجعيات عامة ومشتركة بين الاعتدال والتطرف، ونسبها وحصرها كنزًا وركزًا للتطرف دون الاعتدال الوسطي الغالب، إضافة لمخزون التطرف لا خصم منه.
3- لا يمكن رد خطاب التطرف باستخدام مقولاته وأدواته نفسها، فننتج تطرفًا مضادًا عليه، يزكيه ولا يعالجه، فهنا نستخدم ما يسميه الباحث منير شفيق «الحجة ونقيضها في آن واحد».
4- خطأ قراءة التراث خارج زمنيته وخارج تعدديته الكامنة في بنيته ونصوصه، سواء في خطابات ممثليه أو منظومته بشكل عام. وهو ما ألح عليه إدوارد سعيد في نقده للاستشراق بشكل عام، وابن تيمية فيه ما هو مقبول جدًا كرأيه في الطلاق والكثير من مسائل الأحوال الشخصية، ورأيه في الإمامة التي رفض اعتبارها أصلاً من أصول الدين، ورأيه في مسألة الخروج على الحكام التي رأى عدم القول به من منهج السلف، بل رأيه في المثلة بالأسير والحرق له الذي رفضه ورآه مضرة في الدين والدنيا كما وضح في «منهاج السنة»، ورفضه كلية تكفير المعين وغيرها، والعشرات من المسائل وغيرها! التي يمكن أن تكون ضدا على التطرف المعاصر.
5- عدم التفريق - كما يقول ابن تيمية - في قراءة التراث بين الصحة والصلاحية، فالصلاحية لا تعني الصحة كما أن الصحة لا تعني الصلاحية! يجتمعان ويفترقان، ولكن تظل الأخيرة حكمًا مهمًا في أحكام الواقع.
6- خطورة تجنيد العوام بدعوى حماية المقدسات؛ إذ يستخدم التطرف الجهادي أخطاء التطرف المضاد عبر تصويره عن أنه «حرب على الدين والمقدسات». وهو ما أكد عليه مؤلف «إدارة التوحش» أبو بكر ناجي كجزء في المعركة الإعلامية الضرورية والمصيرية لتنظيماته، عبر زرع الاستقطاب في المجتمع وبين الجماهير، فيقول عن الفريق المحايد المتدين واستقطابه الذي يقدمه على الاستقطاب بالمال، كما يذهب: «علينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، خصوصا أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المعركة الحالية». إن رهان الدواعش على تعاطف المتدينين وحماستهم وغضبهم من المساس بما يرونه مقدسًا، وقد علق المنظر الأردني أبو محمد المقدسي على قرار حظر كتب ابن تيمية في الأردن يوم 8 يونيو (حزيران) الماضي، مع اتهامه لـ«داعش» بسوء فهمها، بأنه حماقة تقابلها وقاحة السماح بما يحارب الدين والأنبياء! وذلك في تغريدة له يوم 10 يونيو الماضي، وهو ما يعني الاستنفار المضاد تجاه فكرة الحظر بمعنى الدفاع عن الدين.
منذ الثالث من فبراير (شباط) 2015 وإحراق «داعش» الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة، تعالت دعوات لحرق كتب ابن تيمية التي استند إليها «داعش» في استناد مزور ومدلس سبق أن أوضحناه في تقرير لهذه الصحيفة بعنوان «التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية» نشر يوم 9 فبراير 2015. وصدر قرار دائرة المطبوعات والنشر الأردنية يوم 8 يونيو الماضي بحظر كتب ابن تيمية، بعد شهور من إقدام بعض الشباب الغاضبين من قتل الشهيد الكساسبة على حرقها في الجامعة، وهي الفتوى التي يثبت أي تحقيق أنها مزورة على الرجل ومدلسة من نصوصه ومقطوعة عن سياقها المنقول عنه كما سبق أن أوضحنا. وهذا كما قلنا إنصاف للعلم وليس لابن تيمية الذي نحاكمه بمعيار الصلاحية لا التصنيم، شأن كل ما هو موروث وتراث في تصورنا.
وتعقيبًا وتأييدًا لهذا القرار الأردني، وردًا على منتقديه، كتب الأكاديمي الإماراتي الدكتور علي بن تميم مقالا بعنوان: «ابن تيمية الذي حفر حفرة لابن حيان فوقع فيها»، على موقع الإمارات 24 يوم السبت 13 يونيو الحالي، زاد فيه بإيراد موقف ابن تيمية من علم الكيمياء ومن عالمها العربي جابر بن حيان، وذكر أن ابن تيمية قد حرق كتبه. وهذا استدلال نرى أنه يحتاج الكثير من النقاش والمراجعة، فالكيمياء في عصر ابن تيمية لم تكن الكيمياء التي نتكلم عنها الآن، كما أن ابن تيمية لم يحرق كتب ابن حيان بل حرق كتب ساحر معاصر له نسب للكيمياء أو الخيمياء، وثالثا أن صورة جابر بن حيان وخلطه كما خلط اليونان بين الكيمياء، علم الصنعة وتحويل المعادن لذهب، كانت محل نقد من أمثال أبي يعقوب الكندي الفيلسوف العربي الأول، وكانت محل إقرار ونقد من كثير من المعاصرين لابن تيمية وقبله وبعده ومن علماء الكيمياء ومؤرخي العلوم قديما وحديثا، كما سنوضح. ويمكننا أن نورد بعض الملاحظات المنهجية والتاريخية على هذا اللبس في موقف ابن تيمية من الكيمياء وجابر بن حيان توضيحا للأمر.
إن القول الذي تكرر في المعركة الأخيرة من أن ابن تيمية أفتى بحرق كتب جابر بن حيان، نقل غير صحيح، فما أفتى به ابن تيمية كان عن رجل معاصر له جادله في أن بعض الأنبياء كان يعمل بعلوم الصنعة وتحويل المعادن. ثم يقول ابن تيمية: «مات هذا الرجل وكان خطيبًا بجامع فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين إلا أقل من عشرة وكان يعاني السحر والسيميا، وكان يشتري كتبًا كثيرة من كتب العلم، فشهدت بيع كتبه لذلك فقام المنادي ينادي على (كتب الصنعة) (مجموع الفتاوى 29 / 378) وبينما كانت هذه تروج وهي كتب سحر وسيماء! ويقولون: هي علم الحجر المكرم وهي علم الحكمة ويعرفونها بأنواع من العبارات، وكان المتولي لذلك من أهل السيف والديوان شهودًا، فقلت لولي الأمر: لا يحل بيع هذه الكتب، فإن الناس يشترونها فيعملون بما فيها» (نفس المصدر - ونفس الصفحة) قد يبدو هذا الموقف تنويريًا في عرف الكثيرين! ولم يكن حرقا لكتب ابن حيان، كما قال الأصدقاء. أما قول ابن تيمية في أبي الكيمياء أنه «جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية فمجهول لا يُعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين« (مجموع الفتاوى7 / 59) فينبغي أن يُقرأ وفق محددات ثلاثة، وليس خلطا بين الحقيقة والدعاية المضادة، وهي:
الأول: موقف الحنابلة والسحر.
إنه رأي فقيه حنبلي حراني، كابن تيمية، في رجل كجابر بن حيان نسب للسحر والتنجيم الذي اختلط بالكيمياء أو الخيمياء، ولعله نقله عن ابن أبي أصيبعة صاحب «طبقات الأطباء» (المتوفى سنة 666 هجرية أو غيره من سابقيه، بمن فيهم «فيلسوف العرب»، وأولهم أبو يعقوب الكندي (توفي سنة 256 هجرية)، الذي انتقد اهتمام بن حيان بالسحر والتنجيم.
الثاني: شخصية ابن حيان نفسه:
كان ابن حيان شخصية مثيرة ومربكة لقرون، فقد أقام عمره في الكوفة ونسب للتشيع والتلمذة لجعفر الصادق (توفي 147 هجرية) كما وصف أنه أحد «الأبواب» عند الشيعة. واقترب من هارون الرشيد كما اتهم بميله إلى البرامكة وأنه هرب بعد مذبحته لهم. ولقد وصفه ابن النديم وغيره بـ«الكتوم» لهروبه وستر حاله خوفًا من ملاحقته، كما نسب للتصوف وللصابئة حينًا، ولكن ما اشتهر عنه ميله للتنجيم والألغاز وكتم ما يفعله، ونسبت له 1300 مخطوطة كما يقول محققوه لا يصح الكثير منها، قديمًا وحديثًا، كما عرف عنه الاهتمام بالتنجيم والألغاز، وغير ذلك. ولقد قال بمثل قول ابن تيمية وأكثر منه ابن خلدون، فقد وصفه في موضع بأنه «أبو الكيمياء أو علم جابر» ولكنه ليس ثناءً هنا، فهي الكيمياء بمفهوم زمانه، فقد قال عنه أيضا أنه «كبير السحرة في هذه الملة» (المقدمة ج1 / 303) ذلك أن الكيمياء كانت تعني السحر في ذلك العصر! وصناعة الذهب المغشوش! وهكذا كان الموقف الغالب الرافض لها إلا من ممثليها، وحسب مؤرخي العلم لم تكن علمًا ربما إلا مع الكندي والرازي بعده، وقد أثنى عليهما ابن تيمية في بعض المواضع.
الثالث: الخلط بين الكيمياء والخيمياء:
لقد ورث العرب اختلاط الكيمياء بعلوم التنجيم والسحر عند اليونان، وهو ما استمر عند ابن تيمية وعند الخوارزمي وعند ابن أبي أصيبعة، بل عند «فيلسوف العرب» أبي يعقوب الكندي. وقبل عصره، كانت الكيمياء رديفًا للسحر والشعوذة ولم تكن هذا العلم المقدر في عصرنا، و(كما سبقت الإشارة) هذا لم يقله ابن تيمية فقط، بل قاله ابن خلدون أيضا الذي استند إليه في مقاله كما قاله ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء»، وقاله أبو علي الخوارزمي في «مفاتيح العلوم»، وذكرته مستشرقة منصفة كزيغريد هونكه في دراساتها عن «تاريخ العلم عند المسلمين» والعشرات قديمًا وحديثا!
بل وصل هذا العداء للخيمياء وفهم الكيمياء بـ«تحويل المعادن وتشبيهها» إلى فيلسوف كبير كأبي يعقوب الكندي الذي كان، خلافًا لابن حيان، مناهضًا معاديا للخيمياء التي كان يعدها معدومة النفع كلية، حتى إنه كتب رسالتين؛ الأولى «تحذير من تضليلات الخيميائيين» والثانية: «دحض مزاعم من يدعون التركيب الصناعي للذهب والفضة»، وهاجم ممارسة الخيمياء ليس لأسباب دينية بل على أسس علمية متينة. وكان يلح على أنه لا أساس لها في الواقع، وإنما فقط في الخيال والأماني بتحويل المعادن إلى ذهب!
ومن هنا أتى الخطأ في اتهام رجل بمعاداة علم الكيمياء، الذي لم يكن علمًا حينئذ، بل اختلط بـ«الخيمياء» أي الشعوذة! كما يرى الخوارزمي أنها تتعلق بعلم الألغاز والكتمان، التي تعني الشعوذة، كما سمى «علم الصنعة وتحويل المعادن» بل كان يهدف لصناعة الذهب المغشوش، والتشبه والتشبيه على الناس، بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، كما يسميه ابن تيمية في «الفتاوى». وهذا ما نظن المنتقدين لابن تيمية يوافقونه عليه، فلا أحد منهم يقبل الذهب المغشوش!
لا نبغي بهذه التوضيحات تصنيم ابن تيمية أو غيره من مرجعيات التراث التي يستند إليها المتطرفون كما يستند إليها كذلك ناقدو التطرف معًا، وهم كثر، ولكن نبغي التحقيق والصحة أولاً، وثانيًا تحرير التراث والإسلام الصحيح من تغول هؤلاء عليه! ولا يمكن في هذا الحال حيث المعركة الفكرية على أرض الدين حرق التراث أو تسفيهه، ولا نقول بحرق كما يقولون! ولا نصنم كما يصنمون! ولكن نحقق قبل أن نتهم ونضيف كثيرًا من مرجعيات التراث المؤثرة والشغالة إلى التطرف وجماعاته ليكونوا سندا لها. وهو ما يمثل حرجًا كذلك للفضاء الديني المعتدل الذي تمثله المؤسسات الدينية والأصوات المعتدلة، التي تنفض عن الدين والتراث تحريف هؤلاء المتطرفين وتأويلهم المنحرف لهذا التراث.