الحجة ونقيضها.. أخطاء متطرفة في مواجهة التطرف

تحميل بعض المرجعيات السلفية التراثية المسؤولية يخدم التطرف ولا يكافحه

عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)
عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)
TT

الحجة ونقيضها.. أخطاء متطرفة في مواجهة التطرف

عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)
عمال يثبتون صورة للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي قتلة {داعش} حرقا أمام خيمة دعم وعزاء أقيمت في عمان (أ.ب)

لم يدعُ رأسمالي في الحقبة المكارثية في الولايات المتحدة لحرق كتب ماركس، كما لم يدعُ أعداء النيتشوية لحرق كتب نيتشه وفيها ما فيها مما أرهص بالحقبة النازية. كما لم يحض تنويري غربي في عصر الأنوار منذ سبينوزا (توفي عام 1677م) في «اللاهوت والسياسة» أو في كتابه «الأخلاق» إلى كانط (توفي عام 1804م) إلى حرق النصوص، بل كانوا من المؤمنين بإمكانية إصلاح الميتافيزيقا (أيا كانت)، عبر تطبيق نظرية المعرفة عليها.
هذا فضلا عن أن خطاب مكافحة التطرف الطارئ دائما في ثقافتنا وتاريخنا، يجري دائمًا على أرضية الديني والوسط الفقهي والعقلي. من هنا نرى أن الأخطاء المتطرفة في الحرب والحرق لبعض المرجعيات السلفية التراثية، أو تحميلهم المسؤولية عن أفعال وممارسات متطرفة بينها وبينهم قرون، يخدم التطرف أو لا يكافحه في أقل الأحوال، وأصحاب هذه الأخطاء أشتات متفرقون، يجمعهم ما يسمى «ذبح التراث» يستهدف بعضهم الشافعي وآخرون البخاري وآخرون ابن تيمية أو الغزالي وبعض آخر ابن خلدون مع تفاوت درجات الحكم!

إن خطورة مثل هذا الخطاب ذيوعه العام ومخاطبته العوام، فضلاً عن وقوعه في العديد من الأخطاء المنهجية والعلمية، التي تسقط منتجه النهائي، وتجعله في موضع السجال والانفصال لا التأثير والاتصال، يمكن أن نحدد بعضها فيما يلي:
1- انفصال هؤلاء شبه الكلي عن خطاب التطرف نفسه واكتفاؤهم بتحميله على مرجعياته التراثية، وهو الأمر غير الصحيح في فهم ظاهرته أو مكافحته؛ فمن ينتقدون الدواعش يتابعون أخبار تنظيماتها دون تنظيراتها الأكثر أهمية مثلا. وتثبت الأخيرة دائما أنها طارئ تاريخي يفتقد الأصالة ويحرفها بغية أهدافه الآنية، وليس أدل على ذلك من عمليات «داعش» الانتحارية التي توسع فيها رغم إقرار منظريه بأنها بدعة غير مسبوقة في الفقه الإسلامي.
2- إن مرجعيات السلف مرجعيات عامة ومشتركة بين الاعتدال والتطرف، ونسبها وحصرها كنزًا وركزًا للتطرف دون الاعتدال الوسطي الغالب، إضافة لمخزون التطرف لا خصم منه.
3- لا يمكن رد خطاب التطرف باستخدام مقولاته وأدواته نفسها، فننتج تطرفًا مضادًا عليه، يزكيه ولا يعالجه، فهنا نستخدم ما يسميه الباحث منير شفيق «الحجة ونقيضها في آن واحد».
4- خطأ قراءة التراث خارج زمنيته وخارج تعدديته الكامنة في بنيته ونصوصه، سواء في خطابات ممثليه أو منظومته بشكل عام. وهو ما ألح عليه إدوارد سعيد في نقده للاستشراق بشكل عام، وابن تيمية فيه ما هو مقبول جدًا كرأيه في الطلاق والكثير من مسائل الأحوال الشخصية، ورأيه في الإمامة التي رفض اعتبارها أصلاً من أصول الدين، ورأيه في مسألة الخروج على الحكام التي رأى عدم القول به من منهج السلف، بل رأيه في المثلة بالأسير والحرق له الذي رفضه ورآه مضرة في الدين والدنيا كما وضح في «منهاج السنة»، ورفضه كلية تكفير المعين وغيرها، والعشرات من المسائل وغيرها! التي يمكن أن تكون ضدا على التطرف المعاصر.
5- عدم التفريق - كما يقول ابن تيمية - في قراءة التراث بين الصحة والصلاحية، فالصلاحية لا تعني الصحة كما أن الصحة لا تعني الصلاحية! يجتمعان ويفترقان، ولكن تظل الأخيرة حكمًا مهمًا في أحكام الواقع.
6- خطورة تجنيد العوام بدعوى حماية المقدسات؛ إذ يستخدم التطرف الجهادي أخطاء التطرف المضاد عبر تصويره عن أنه «حرب على الدين والمقدسات». وهو ما أكد عليه مؤلف «إدارة التوحش» أبو بكر ناجي كجزء في المعركة الإعلامية الضرورية والمصيرية لتنظيماته، عبر زرع الاستقطاب في المجتمع وبين الجماهير، فيقول عن الفريق المحايد المتدين واستقطابه الذي يقدمه على الاستقطاب بالمال، كما يذهب: «علينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، خصوصا أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المعركة الحالية». إن رهان الدواعش على تعاطف المتدينين وحماستهم وغضبهم من المساس بما يرونه مقدسًا، وقد علق المنظر الأردني أبو محمد المقدسي على قرار حظر كتب ابن تيمية في الأردن يوم 8 يونيو (حزيران) الماضي، مع اتهامه لـ«داعش» بسوء فهمها، بأنه حماقة تقابلها وقاحة السماح بما يحارب الدين والأنبياء! وذلك في تغريدة له يوم 10 يونيو الماضي، وهو ما يعني الاستنفار المضاد تجاه فكرة الحظر بمعنى الدفاع عن الدين.
منذ الثالث من فبراير (شباط) 2015 وإحراق «داعش» الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة، تعالت دعوات لحرق كتب ابن تيمية التي استند إليها «داعش» في استناد مزور ومدلس سبق أن أوضحناه في تقرير لهذه الصحيفة بعنوان «التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية» نشر يوم 9 فبراير 2015. وصدر قرار دائرة المطبوعات والنشر الأردنية يوم 8 يونيو الماضي بحظر كتب ابن تيمية، بعد شهور من إقدام بعض الشباب الغاضبين من قتل الشهيد الكساسبة على حرقها في الجامعة، وهي الفتوى التي يثبت أي تحقيق أنها مزورة على الرجل ومدلسة من نصوصه ومقطوعة عن سياقها المنقول عنه كما سبق أن أوضحنا. وهذا كما قلنا إنصاف للعلم وليس لابن تيمية الذي نحاكمه بمعيار الصلاحية لا التصنيم، شأن كل ما هو موروث وتراث في تصورنا.
وتعقيبًا وتأييدًا لهذا القرار الأردني، وردًا على منتقديه، كتب الأكاديمي الإماراتي الدكتور علي بن تميم مقالا بعنوان: «ابن تيمية الذي حفر حفرة لابن حيان فوقع فيها»، على موقع الإمارات 24 يوم السبت 13 يونيو الحالي، زاد فيه بإيراد موقف ابن تيمية من علم الكيمياء ومن عالمها العربي جابر بن حيان، وذكر أن ابن تيمية قد حرق كتبه. وهذا استدلال نرى أنه يحتاج الكثير من النقاش والمراجعة، فالكيمياء في عصر ابن تيمية لم تكن الكيمياء التي نتكلم عنها الآن، كما أن ابن تيمية لم يحرق كتب ابن حيان بل حرق كتب ساحر معاصر له نسب للكيمياء أو الخيمياء، وثالثا أن صورة جابر بن حيان وخلطه كما خلط اليونان بين الكيمياء، علم الصنعة وتحويل المعادن لذهب، كانت محل نقد من أمثال أبي يعقوب الكندي الفيلسوف العربي الأول، وكانت محل إقرار ونقد من كثير من المعاصرين لابن تيمية وقبله وبعده ومن علماء الكيمياء ومؤرخي العلوم قديما وحديثا، كما سنوضح. ويمكننا أن نورد بعض الملاحظات المنهجية والتاريخية على هذا اللبس في موقف ابن تيمية من الكيمياء وجابر بن حيان توضيحا للأمر.
إن القول الذي تكرر في المعركة الأخيرة من أن ابن تيمية أفتى بحرق كتب جابر بن حيان، نقل غير صحيح، فما أفتى به ابن تيمية كان عن رجل معاصر له جادله في أن بعض الأنبياء كان يعمل بعلوم الصنعة وتحويل المعادن. ثم يقول ابن تيمية: «مات هذا الرجل وكان خطيبًا بجامع فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين إلا أقل من عشرة وكان يعاني السحر والسيميا، وكان يشتري كتبًا كثيرة من كتب العلم، فشهدت بيع كتبه لذلك فقام المنادي ينادي على (كتب الصنعة) (مجموع الفتاوى 29 / 378) وبينما كانت هذه تروج وهي كتب سحر وسيماء! ويقولون: هي علم الحجر المكرم وهي علم الحكمة ويعرفونها بأنواع من العبارات، وكان المتولي لذلك من أهل السيف والديوان شهودًا، فقلت لولي الأمر: لا يحل بيع هذه الكتب، فإن الناس يشترونها فيعملون بما فيها» (نفس المصدر - ونفس الصفحة) قد يبدو هذا الموقف تنويريًا في عرف الكثيرين! ولم يكن حرقا لكتب ابن حيان، كما قال الأصدقاء. أما قول ابن تيمية في أبي الكيمياء أنه «جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية فمجهول لا يُعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين« (مجموع الفتاوى7 / 59) فينبغي أن يُقرأ وفق محددات ثلاثة، وليس خلطا بين الحقيقة والدعاية المضادة، وهي:
الأول: موقف الحنابلة والسحر.
إنه رأي فقيه حنبلي حراني، كابن تيمية، في رجل كجابر بن حيان نسب للسحر والتنجيم الذي اختلط بالكيمياء أو الخيمياء، ولعله نقله عن ابن أبي أصيبعة صاحب «طبقات الأطباء» (المتوفى سنة 666 هجرية أو غيره من سابقيه، بمن فيهم «فيلسوف العرب»، وأولهم أبو يعقوب الكندي (توفي سنة 256 هجرية)، الذي انتقد اهتمام بن حيان بالسحر والتنجيم.
الثاني: شخصية ابن حيان نفسه:
كان ابن حيان شخصية مثيرة ومربكة لقرون، فقد أقام عمره في الكوفة ونسب للتشيع والتلمذة لجعفر الصادق (توفي 147 هجرية) كما وصف أنه أحد «الأبواب» عند الشيعة. واقترب من هارون الرشيد كما اتهم بميله إلى البرامكة وأنه هرب بعد مذبحته لهم. ولقد وصفه ابن النديم وغيره بـ«الكتوم» لهروبه وستر حاله خوفًا من ملاحقته، كما نسب للتصوف وللصابئة حينًا، ولكن ما اشتهر عنه ميله للتنجيم والألغاز وكتم ما يفعله، ونسبت له 1300 مخطوطة كما يقول محققوه لا يصح الكثير منها، قديمًا وحديثًا، كما عرف عنه الاهتمام بالتنجيم والألغاز، وغير ذلك. ولقد قال بمثل قول ابن تيمية وأكثر منه ابن خلدون، فقد وصفه في موضع بأنه «أبو الكيمياء أو علم جابر» ولكنه ليس ثناءً هنا، فهي الكيمياء بمفهوم زمانه، فقد قال عنه أيضا أنه «كبير السحرة في هذه الملة» (المقدمة ج1 / 303) ذلك أن الكيمياء كانت تعني السحر في ذلك العصر! وصناعة الذهب المغشوش! وهكذا كان الموقف الغالب الرافض لها إلا من ممثليها، وحسب مؤرخي العلم لم تكن علمًا ربما إلا مع الكندي والرازي بعده، وقد أثنى عليهما ابن تيمية في بعض المواضع.
الثالث: الخلط بين الكيمياء والخيمياء:
لقد ورث العرب اختلاط الكيمياء بعلوم التنجيم والسحر عند اليونان، وهو ما استمر عند ابن تيمية وعند الخوارزمي وعند ابن أبي أصيبعة، بل عند «فيلسوف العرب» أبي يعقوب الكندي. وقبل عصره، كانت الكيمياء رديفًا للسحر والشعوذة ولم تكن هذا العلم المقدر في عصرنا، و(كما سبقت الإشارة) هذا لم يقله ابن تيمية فقط، بل قاله ابن خلدون أيضا الذي استند إليه في مقاله كما قاله ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء»، وقاله أبو علي الخوارزمي في «مفاتيح العلوم»، وذكرته مستشرقة منصفة كزيغريد هونكه في دراساتها عن «تاريخ العلم عند المسلمين» والعشرات قديمًا وحديثا!
بل وصل هذا العداء للخيمياء وفهم الكيمياء بـ«تحويل المعادن وتشبيهها» إلى فيلسوف كبير كأبي يعقوب الكندي الذي كان، خلافًا لابن حيان، مناهضًا معاديا للخيمياء التي كان يعدها معدومة النفع كلية، حتى إنه كتب رسالتين؛ الأولى «تحذير من تضليلات الخيميائيين» والثانية: «دحض مزاعم من يدعون التركيب الصناعي للذهب والفضة»، وهاجم ممارسة الخيمياء ليس لأسباب دينية بل على أسس علمية متينة. وكان يلح على أنه لا أساس لها في الواقع، وإنما فقط في الخيال والأماني بتحويل المعادن إلى ذهب!
ومن هنا أتى الخطأ في اتهام رجل بمعاداة علم الكيمياء، الذي لم يكن علمًا حينئذ، بل اختلط بـ«الخيمياء» أي الشعوذة! كما يرى الخوارزمي أنها تتعلق بعلم الألغاز والكتمان، التي تعني الشعوذة، كما سمى «علم الصنعة وتحويل المعادن» بل كان يهدف لصناعة الذهب المغشوش، والتشبه والتشبيه على الناس، بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، كما يسميه ابن تيمية في «الفتاوى». وهذا ما نظن المنتقدين لابن تيمية يوافقونه عليه، فلا أحد منهم يقبل الذهب المغشوش!
لا نبغي بهذه التوضيحات تصنيم ابن تيمية أو غيره من مرجعيات التراث التي يستند إليها المتطرفون كما يستند إليها كذلك ناقدو التطرف معًا، وهم كثر، ولكن نبغي التحقيق والصحة أولاً، وثانيًا تحرير التراث والإسلام الصحيح من تغول هؤلاء عليه! ولا يمكن في هذا الحال حيث المعركة الفكرية على أرض الدين حرق التراث أو تسفيهه، ولا نقول بحرق كما يقولون! ولا نصنم كما يصنمون! ولكن نحقق قبل أن نتهم ونضيف كثيرًا من مرجعيات التراث المؤثرة والشغالة إلى التطرف وجماعاته ليكونوا سندا لها. وهو ما يمثل حرجًا كذلك للفضاء الديني المعتدل الذي تمثله المؤسسات الدينية والأصوات المعتدلة، التي تنفض عن الدين والتراث تحريف هؤلاء المتطرفين وتأويلهم المنحرف لهذا التراث.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.