طبع الكتاب على نفقة الكاتب في المغرب.. «نضال إبداعي»

أصبح ظاهرة في المشهد الثقافي ودعوات للحد من فوضى النشر

جانب من فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب في دورة 2015 («الشرق الأوسط»)
جانب من فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب في دورة 2015 («الشرق الأوسط»)
TT

طبع الكتاب على نفقة الكاتب في المغرب.. «نضال إبداعي»

جانب من فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب في دورة 2015 («الشرق الأوسط»)
جانب من فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب في دورة 2015 («الشرق الأوسط»)

على الرغم من تواصل النقاش بصدد أزمة القراءة في المغرب وانحسار تداول الكتاب، يعاند كثير من المبدعين المغاربة تيار إعطاب الوضع الثقافي، عبر طبع إبداعاتهم على نفقتهم الخاصة.
وإذ إن متطلبات نشر الكتاب على نفقة الكاتب، غالبا ما تتم على حساب الاحتياجات الحياتية للمبدع، فإن هذا الاختيار يحول هذه العملية، الميؤوس من عائدها المادي، في ظل انحسار تداول الكتاب، إلى «نضال إبداعي»، يروم دعم القراءة في «مجتمع لا يقرأ»، بشكل يجعل الكاتب - الناشر، برأي البعض، كـ«ناطح صخرة ليوهنها»، في وقت يرى فيه آخرون أن من شأن نشر الكتاب على نفقة كاتبه أن يلغي عددا من حلقات إنتاج الكتاب، خاصة ما يرتبط منها بأدوار لجان القراءة والمصححين.
ويرى الناقد والإعلامي الطاهر الطويل أن «نشر الكتب في المغرب ما زال مغامرة يكتنفها الكثير من الصعاب بالنسبة للمؤلفين، نظرا لعدم وجود بنيات راسخة لتشجيع حركة التأليف والنشر، ونظرا أيضا لضعف الإقبال على الكتاب بسبب استمرار تفشي الأمية وغياب عادة القراءة والتشجيع عليها، وتقصير المؤسسات المعنية عن القيام بأدوارها اللازمة في هذا المجال، ونعني بها وزارات التعليم والثقافة والشباب والرياضة، وكذلك المجالس البلدية والقروية وغيرها. ومن ثم، يميل الكثير من الكتاب المغاربة إلى نشر مؤلفاتهم على حسابهم الخاص، فيما يتحقق لبعضهم ذلك عن طريق دور نشر أو مؤسسات جامعية. وتولي فئة أخرى وجهها نحو الشرق العربي، وبالضبط إلى بعض بلدان الخليج، من أجل تيسير عملية النشر وضمان رواج المؤلفات، إلى حد ما».
وسبق للشاعر المغربي محمد بنيس أن تحدث عن وضعية الكتاب والنشر بالمغرب، تحت عنوان «الكتاب والقراءة في المغرب: نحلم أو لا نحلم؟»، قائلا إن «وضعية الكتاب في المغرب تحتاج إلى تجديد الوعي بمعنى الكتاب في تاريخ الإنسانية والتشبث بالقيم الثقافية والأخلاقية والجمالية التي حافظ عليها الكتاب منذ ثورة غوتنبورغ». وتوقف بنيس، وهو أحد مؤسسي «دار توبقال للنشر»، عند مجموعة من العوامل التي تحكم وضعية الكتاب في المغرب، منها «عدم ميل المغاربة إلى القراءة، لا بسبب ارتفاع نسبة الأمية، بل لانعدام الرغبة في القراءة لدى المتعلمين من جميع المستويات التعليمية وسيادة ثقافة الإعلام والاستهلاك في سائر مجالات الحياة»، مشيرا إلى أن «هذه الوضعية تأثرت، أيضا، بانتشار سريع وسهل لثقافة الإنترنت، لا كمكمل للكتاب أو جسر يؤدي إلى الكتاب، بل نفيا للكتاب واستغناء تاما عنه».
من جهته، يرى الكاتب والشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي أن «الكتب ليست غالية في المغرب، خصوصا بالنسبة لمن يفضل شراء علبة سجائر أميركية، تعادل ثمن رواية أو ديوان شعر»، ملاحظا أن هناك «أقلية، فقط، في المغرب ما زالت تواصل وتواظب على القراءة».
وتتزايد الأسئلة الحائرة بصدد أوضاع القراءة وراهن ومستقبل الكتاب في المغرب، خاصة حين يتعلق الأمر بالشعر، مثلا. ومن المفارقات اللافتة، بصدد نشر وتداول المجاميع الشعرية في المغرب، أن تظهر دراسة إحصائية للباحث المغربي محمد القاسمي أن مجموع ما نشر، منذ 1932 إلى نهاية 2006، ناهز 1185 مجموعة شعرية، وأن ما يقرب من نصفها نشر خلال السنوات الست الأولى من الألفية الثالثة. وسجل القاسمي أن أكثر السنوات إنتاجًا تبقى سنة 2001، بـ79 مجموعة، احتل بها الشعر المرتبة الأولى في الإبداع المغربي.
ويرى الناقد عبد الرحيم العلام أن «مقياس النشر لم يعد، الآن - بعد أن هيمنت في مشهدنا الثقافي ظاهرة الطبع على نفقة الكاتب - المقياس الوحيد والدقيق والملائم لعقد المقارنات وإدراك درجة الأهمية والانتشار لهذا الجنس الأدبي من دون غيره، ولهذا الاسم من دون آخر». وتتزايد حدة انتقاد «الإقبال المفرط»، اليوم، من لدن كتاب كثر، على كتابة الشعر ونشر الدواوين، من جهة أن هذا الواقع يسير، كما يكتب العلام، ضد «السلطة المزعومة» للشعر داخل المجتمع، وأنه يجني على مستقبل الشعر، أيضًا، خصوصًا أن «الأصوات الشعرية القليلة، التي نجد لها بعض الصدى، الآن، في مشهدنا الشعري المغربي، أصبحت تخاف على ذلك الصدى من التلوث، وأن تعجن أسماؤها وسط جعجعة دون طحين». غير أن الشاعر سعد سرحان يرى أنه مهما تكاثر الشعراء، على اختلاف طبقاتهم وأوهامهم، فلن يصلوا أبدا إلى عدد اللصوص وتجار المخدرات والقتل والنخاسين وصيارفة الدم وغيرهم من مفسدي الحياة، وأنه مهما كانت قصائدهم رديئة فإنها لا تشكل على مستقبل البلاد من الخطر إلا ما يشكل الزبد على الشاطئ، أمّا ما ينفع القراء منها فسيمكث، بكل تأكيد، في أرض الأدب.
ودفعت إمكانية نشر الكتاب على نفقة كاتبه، من دون المرور عبر لجان القراءة، التي توفرها دور النشر والمؤسسات المختصة، مثلا، والتي تكون لها سلطة فرز الجيد من الرديء، بالبعض إلى الدعوة إلى الحد من «نزف فوضى النشر»، عبر التحكم في مختلف حلقات إنتاج الكتاب.
وفي محاولة منها للمساهمة في تجاوز هذا الوضع، أطلقت وزارة الثقافة المغربية، برسم 2015، خطة وطنية لدعم قطاع النشر والكتاب، تتغيا خلق صناعة ثقافية وإبداعية، رصدت لها موازنة تصل إلى 10 ملايين درهم (الدولار الأميركي يساوي 9.40 درهم مغربي)، حيث شمل الدعم مجالات نشر الكتاب والمجلات الثقافية، وإطلاق وتحديث المجلات الثقافية الإلكترونية، والمشاركة في معارض الكتاب الوطنية والدولية، ومشاركة الكتاب المغاربة في إقامات المؤلفين، وإحداث وتحديث وتنشيط مكتبات البيع، والقراءة العمومية والتحسيس بها، والنشر الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين بصريا). وهمت الكلفة الخاصة بمجال نشر الكتاب مكونات عملية صناعة الكتاب، التي تشمل واجبات لجان القراءة، وواجبات المصححين، وتكاليف التصفيف والإخراج، وتكاليف الطباعة.
وخلصت لجنة دراسة مشاريع النشر والكتاب المرشحة، برسم دورة هذه السنة، التي بلغ عددها 477، إلى دعم 273 مشروعا، شمل فيها جانب نشر الكتاب منح الدعم لـ204 مشاريع.
ولاحظ عبد الفتاح الحجمري، رئيس لجنة القراءة المكلفة انتقاء المشاريع للاستفادة من الدعم السنوي، أن «مجال النشر والقراءة يعيش مفارقة تتمثل في كونه يشهد حيوية مهمة على صعيد النشر والتوزيع، في مقابل تدني مستوى القراءة وسط المجتمع المغربي»، فيما سجلت تقارير الوزارة أن قطاع النشر والكتاب بالمغرب «يعرف بعض التناقض على مستوى منظومته»، من جهة وجود «غزارة وغنى وتنوع من حيث الإبداع والإنتاج، مقابل سلسلة إنتاجية لا تتحكم في مختلف الحلقات، من جهة ثانية»، الشيء الذي يؤدي إلى «تقليص الوقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي لقطاع النشر والكتاب».



القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
TT

القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن

الأزمات الخانقة التي أصبحت تثقل كاهل الدول الغربية، وصعود الأنظمة اليمينية المتطرفة، لم تعد سراً على أحد، لكن اللافت للانتباه التداعيات الخطيرة لكل هذه التطورات على القطاع الثقافي، فزيادة على ضعف الاهتمام تخلّ كثير من الحكومات عن اتباع سياسات حماية لثقافتها. إنه وضع القارة العجوز الآن؛ حيث نجحت ديون الحكومات المتراكمة، ومشكلات البطالة، والتضخم، والتوقعات المتشائمة لمعدلات النمو، في تغييب الإشكاليات الثقافية، والدفع بها إلى الصفوف الخلفية. الوضع في تدهور مستمر، حتى أصبحنا لا نستطيع مواكبة الأخبار التي تُفيد بقصّ الدعم، وخفض الميزانيات الثقافية لكثرتها.

في فرنسا، دعم الحكومة للمؤسسات الثقافية الكبرى لا يزال قائماً باعتبارها تُسهم بقوة في إنعاش قطاع السياحة، خصوصاً المتاحف والمكتبات الوطنية والمسارح، لكن الميزانية في تراجع مستمر. فمع مطلع 2025 تفقد وزارة الثقافة أكثر من 200 مليون يورو، معظمها اقتطعت من التمويل الذي كان يخصص للتراث والإبداع، وبعضها يخص أعرق المؤسسات الفرنسية؛ كأوبرا باريس، التي خسرت 6 ملايين يورو، ومسرح كوميدي فرنسييز، الذي انخفض تمويله العام بنحو 5 ملايين، ومتحف اللوفر بـ3 ملايين يورو. إلا أن المشكلة ليست في الوزارة فقط، لأنها ليست الداعم الأهم للقطاع الثقافي في البلاد، فمن بين الـ13 ملياراً التي تُشكلها ميزانية القطاع الثقافي في فرنسا لا تمنح الوزارة سوى 4 مليارات، أما البقية، أي أكثر من 9 مليارات، فهي الحصّة التي تسهم بها السلطات المحلية، أي المحافظات «Collectivités locales»، التي تتمتع بميزانيات خاصة بها. والجديد هو أن بعضاً من مسؤولي هذه الهيئات الرسمية شرعوا في تطبيق سياسة التقشف إلى أقصى الحدود، بدءاً بالمؤسسات والمرافق الثقافية والمبدعين؛ حيث حرمتهم من الدعم المادي، عملاً بالمنطق الذي يقول تغذية البطن قبل تغذية العقل.

متحف برلين

من الشخصيات التي واجهت انتقاد الدوائر الثقافية بهذا الخصوص كريستال مورونسي، رئيسة منطقة بايي دو لا روار (pays de la Loire) الواقعة غرب فرنسا، وهذا بعد أن أقرّت خفض ميزانية الثقافة بنسبة 73 في المائة، أي أكثر من 200 مليون يورو، وهي سابقة خطيرة في فرنسا علّقت عليها وسائل الإعلام الفرنسية بكثرة تحت شعار «الثقافة من الضعيف إلى الأضعف». فإجراء مثل هذا يعني توجيه ضربة قاضية لكثير من المؤسسات والمرافق الصغيرة التي تُعوّل في استمرار نشاطها على الأموال العامة، ومنها المهرجانات المحلية والمسارح، والمتاحف، وفرق الرقص والجمعيات. النقابات الثقافية وصفت هذا الإجراء بـ«العنيف». أما رئيسة المنطقة كريستال مورونسي فقد بررته بالديون المتراكمة التي تملي على ضمير أي مسؤول اعتماد التقشف لإنقاذ الوضع.

الوضع ليس أحسن حالاً في ألمانيا؛ حيث قررت حكومة ولاية برلين خفض التمويل المخصص للفنون والثقافة بنسبة 12 في المائة، وهو ما يعادل 130 مليون يورو. القرار أدّى إلى مخاوف من أن تفقد المدينة مكانتها، كونها واحدة من العواصم الثقافية الرائدة في أوروبا، حتى إن بعض المؤسسات أصبحت تواجه خطر الإغلاق، أهمها متحف برلين للفنون التشكيلية، ودار أوبرا كوميش. أما البقية فهي في حالة يُرثى لها، فمتحف برغام الشهير اضطر للغلق بسبب ترميمات طويلة الأمد (14 سنة)، علماً بأنه لم ينفذ فيه أي إصلاحات منذ 1930. عمدة برلين كاي فيغنر برّر تخفيضات الميزانية بوصفها ضرورية لضمان استمرارية برلين المالية بعد عام صعب اتسّم بانخفاض الإيرادات. ونصح المؤسسات الثقافية بالتفكير في إيجاد وسائل تمويل خاصة، على غرار النموذج الأميركي الذي يعتمد على الرعاية، مضيفاً أن «العقليات يجب أن تتغير؛ لأن خزائن الدولة أصبحت فارغة حتى بالنسبة للثقافة»، علماً بأن هذا التخفيض في ميزانية الثقافة يتعارض بشكل حاد مع نهج برلين السابق، المتمثل في تعزيز الاستثمار في فضاءاتها الثقافية. ففي عام 2021، وافقت ألمانيا على مبلغ قياسي قدره 2.1 مليار يورو تمويلاً فيدرالياً للثقافة، بزيادة قدرها 155 مليون يورو على العام السابق. شخصيات من الوسط الثقافي والفني انتقدت بشدة هذه التخفيضات، منها المخرج الألماني المعروف وين واندرز، الذي صرح لقناة «أورو نيوز» بأن «سحب التمويل العام قرار سيئ، أعتقد أن عليهم الاستثمار في الثقافة بدلاً من القيام بالعكس؛ لأنهم على المدى الطويل رابحون».

القطاع الثقافي في بريطانيا يعيش هو الآخر أزمة حادة؛ حيث نقل كثير من التقارير الإعلامية الانخفاض الشديد الذي سجلته الميزانيات المخصصة للثقافة منذ 2017 ولعدة سنوات على التوالي حتى وصلت نسبة الانخفاض إلى 48 في المائة، حسب موقع «أرت نيوز» البريطاني، الذي نشر مقالاً بعنوان: «لماذا تُموّل الحكومة البريطانية تمثالاً للملكة إليزابيث بـ46 مليون جنيه إسترليني، في حين القطاع الثقافي على ركبتيه». وجاء فيه: «عدد من المؤسسات الفنية والثقافية في جميع أنحاء المملكة المتحدة يُكافح من أجل البقاء، بسبب توقف التمويلات، كشبكة متاحف (التيت) التي تسهم فيها الحكومة بنسبة 35 في المائة، التي أصبحت تعاني من عجز في الميزانية للعام الثاني على التوالي، بسبب انخفاض الدعم، وإن كانت شبكة متاحف (التيت) ما زالت تنشط ولو بصعوبة فإن مؤسسات أخرى لم يحالفها الحظ؛ حيث تم إغلاق أكثر من 500 متحف بريطاني منذ سنة 2000، منها متحف إيستلي (Eastleigh) في هامبشاير، ومتحف كرانوك تشيس (Crannock Chase) في ويست ميدلاندز، بالرغم من الحملات الكثيرة التي نظمت لإنقاذ هذه المؤسسات».