«حوارات القرن»... سيرة رواد الأدب العربي ومهارة الإعلام الثقافي

الإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله يُصدر حواراته مع 150 شخصية عربية وعالمية

محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم
محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم
TT

«حوارات القرن»... سيرة رواد الأدب العربي ومهارة الإعلام الثقافي

محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم
محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم

في كتابه الضخم «حوارات القرن»، المكوّن من 3 أجزاء، بعدد 816 صفحة لكل جزء، يضع الإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله، سجلاً ثقافياً زاخراً بالمعاني والأفكار والمواقف والآراء لـ150 شخصيَة عربية، معظمها من جيل الرواد في الأدب والنقد والفلسفة.
الكتاب في أجزائه الثلاثة، الصادر عن «المركز الأكاديمي للأبحاث»، يتعدى الحوارات الإعلامية التقليدية، ليقدم سجالاً فكرياً عميقاً، مع شخصيات مؤثرة في الثقافة والفكر والسياسة، كثير من القضايا التي أثيرت في تلك الحقبة ما زالت حية حتى اليوم.
وقيمة تلك الحوارات على الصعيد المعرفي أنها ما زالت نابضة بالمعنى والدلالة وكاشفة عن خفايا سيرة عدد من الرواد، وعلى الصعيد الإعلامي فإن تلك الحوارات قدمّت تجربة فريدة في العمل الإعلامي عبر الحفر عميقاً في سيرة الشخصيات التي تناولتها الحوارات، وشمولية القراءة العميقة لتجربتها، والبحث المضني عن أفكارها ومواقفها، في وقت كان الصحافي يمارس التنقيب والبحث بنفسه دون الاعتماد على وسائل الاتصال كما هي عليه اليوم.
وعلى الصعيد المهني، خاض الإعلامي محمد رضا نصر الله، القادم من الرياض في السعودية، وهي في ذلك الوقت لم تكن معروفة بوسائلها الإعلامية، ولم تكن صحافتها مداراً لسجالات التيارات الفكرية في العالم العربي. لكن محمد رضا نصر الله تمكن بثقافته الواسعة، وعزيمته الصلبة، وطريقته السلسة من إقناع رواد أمثال نجيب محفوظ وطه حسين بإجراء حوارات مطولة معه، سواء لصحيفة «الرياض» أو للتلفزيون السعودي. وفيما بعد بزغت قناة «إم بي سي» وكان لها وهج جاذبا سهّل مهمة نصر الله، وأعطاه دفعة إضافية لتقديم حوارات ذات صبغة ثقافية بعمق ورصانة.
فكرة الكتاب، جاءت بعد اإلحاح الإعلامي الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، الذي شغل منصب مدير عام التلفزيون في السعودية، وكان إعلامياً ومذيعاً قدّم برنامج «شريط الذكريات» وهو برنامج أسبوعي يوثّق لتاريخ السعودية (1976)، وقبله برنامج «مؤتمر صحافي» حيث أجرى حوارات مع عدد من الوزراء والمسؤولين (1972)، وكان شديد الإلحاح على نصر الله في تفريغ ما سجله من مقابلات وإخراجها في كتاب... وسبق أن قام الشبيلي بتفريغ حواراته وإصدارها كذلك.


... ومع الجواهري

أجرى محمد رضا نصر الله أكثر من 1000 ساعة من الحوارات المتلفزة، من خلال برامجه: «الساعة تدق كلمة» و«هكذا تحدثوا» و«وجهاً لوجه» و«حدث وحوار» و«شؤون الساعة» و«مع المشاهير» و«هذا هو» و«ما بين أيديهم» و«ستون دقيقة سياسة» و«خارج الأقواس».
ومن أبرز الشخصيات الذين حاورهم نصر الله في هذا الكتاب: نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وحمد الجاسر، ومحمد مهدي الجواهري، وعائشة إبراهيم (بنت الشاطئ)، والطاهر وطار، ومحمد حسن عواد، وأدونيس، وعبد السلام المسدي، وعلي جواد الطاهر، وعبد الله البردوني، وفدوى طوقان، ومحمد الفيتوري، وغازي القصيبي، وسعدي يوسف، وسعيد عقل، وعبد الرحمن بدوي، وعبد الله العروي، وطيب تيزيني، وزكي نجيب محمود، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، ود. سعد البازعي، ومحمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، ومحمد أركون، ود. عبد الله الغذامي، وهشام جعيط، وغيرهم.
المثير في هذه اللقاءات هي القصة التي تقف خلف كل لقاء، الصحافي السعودي الشاب بذل جهداً مضنياً في إقناع ضيوفه لخوض حوارات طويلة ومسجلة معه. يكشف نصر الله أن بعضهم كان يتمنع مسكوناً بنظرية المركز والأطراف، وآخرون لم يترددوا في طلب «بديل نقدي» ثمناً لإجراء تلك المقابلات... من بينهم توفيق الحكيم. لكن أغلب الضيوف وقعوا في «هوى» الصحافي الثقافي الذي أثبت حضوره وقدرته على الحوار وثقافته الموسوعية وسعة اطّلاعه وشخصيته الهجومية... حيث نسج شبكة علاقات شخصية مع الضيوف امتدت اللقاءات خلالها لأسابيع كما هو الحال توفيق الحكيم... كما نجح نصر الله في إقناع الفيلسوف عبد الرحمن بدوي بإجراء أول حوار صحافي معه... وربما كان الحوار النادر الوحيد الذي أُجري معه حتى رحيله. وقد نجح في إقناع فدوى طوقان بالحوار معه، وهي المعروف عنها التمنع عن مثل تلك الحوارات. وخلال لقائه الأول مع شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري تمكن من تمديد الوقت الممنوح له من عشر دقائق إلى خمسين دقيقة، تلته لقاءات مطولة أخرى، تكللت باستضافة الجواهري في مهرجان الجنادرية في الرياض.
كذلك فإن أغلب الحوارات كانت تتناول مشاريع ثقافية وفكرية من قبيل الآراء التي احتوتها مؤلفات الرواد ومواقفهم المتعددة، وفيما بعد ساجل رواد المشروعات الفكرية مقدِّماً قراءات تفكيكية ونقدية وأدبية، أمثال: محمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، ومحمد أركون، وعبد الله الغذامي، وسهيل زكّار، ورضوان السّيّد، وعلي حرب، ومن غير العرب: بول فندلي وصموئيل هنتنغتون (صاحب نظرية «صراع الحضارات») وفيتالي نعومكين وغيرهم.
مع توفيق الحكيم
عن بعض لقاءاته قال نصر الله: «سافرت إلى القاهرة صيف سنة 1974م وأنا على عتبة الدراسة الجامعية، لمقابلة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور و... أمل دنقل».
بدايةً كان أمل دنقل، حيث التقاه في مقهى «ريش» الشهير، المتفرع من ميدان طلعت حرب، يقول: «اتفقت وأمل دنقل على إجراء حديث صحافي لجريدة (الرياض)... غير أنه اشترط أن أتكفل بعد الانتهاء من هذه المهمة العسيرة! بعشائه بطبق كباب! وأن يبيت في شقتي بشارع عماد الدين... وبين هذه الليلة وتلك، كان أمل يستجيب لطلباتي في إلقاء قصائده، عندما يكون مزاجه صفواً سلسبيلاً». أما اللقاء مع توفيق الحكيم فكان في شهر أغسطس (آب) عام 1974م، حين التقاه بعد مشوار بحث طويل في كازينو ومطعم بترو اليوناني في محطة سيدي بشر. يقول: «عند آخر درجات السلم وجدت أكثر من نادل، فلم أسأل أحداً منهم عنه... أخذت اتجاه اليمين، وفي الركن المقابل من آخر المقهى والمطعم وجدته هناك، وبنظرة خاطفة اتضحت لي هيئته وهو يخطو نحو الثمانين، إنه كما في الصور، البيريه الذي اعتمره على رأسه منذ كان في باريس، وعصاه المعكوفة منذ أصبح نائباً في طنطا، ومع اقترابي منه رأيت توفيق الحكيم». يضيف: «نسيت الرجل وهالته. سألته: هل أنت توفيق الحكيم؟، وهل هذه بيريه الحكيم؟ وهل هذه عصا الحكيم؟.
لم يتمالك عباس الأسواني الأديب والصحافي -تلميذ العقاد ووالد الروائي علاء الأسواني- نفسه وقد وجدني أتخايل بدشداشتي السعودية الحريرية الناعمة -كما عبّر بعد هذا بأسبوع في مقاله الطويل بمجلة (صباح الخير)- قائلاً: أيها السعودي... هوّن عليك... ألهذا الحد أنت معجب بتوفيق الحكيم؟ أجبته: إنني معجب بـ(فن) توفيق الحكيم».
يضيف: «أخذني الحكيم بيده الحانية وأجلسني إلى قربه، حيّاني بحرارة وبادرني: لعلّك لست من الغاضبين على كتابي (عودة الوعي) حال من وصلني تبرمهم في المملكة ودول الخليج؟ قلت له أتيتك لأسألك عن (حمار الحكيم) وبما أن الحمار الذي تورطت بشرائه بثلاثين قرشاً، وأسكنته غرفتك الفندقية قد مات، فإن العصا ما زالت باقية، فهل لي بحديث عنها؟ واستدركت من فوري متسائلاً: أين نجيب محفوظ؟ فقال: أصلك جيت متأخر. بكرة تعال بدري في العاشرة صباحاً، وسوف ترى نجيب محفوظ وحسين فوزي ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وإحسان عبد القدوس.
قلت له: وهل إذا جئت غداً سوف تقدم لي فنجان قهوة على حسابك؟ أجابني كاسراً صورة البخيل الزجاجية عنه: وحافطّرك! وفي صبيحة اليوم التالي استقبلني بحفاوة، وكان محفوفاً بأبرز كتّاب مصر وأدبائها، مع بقايا من أعضاء حزب الوفد المطربشين، أجلسني إلى جنبه الأيسر، منادياً ثروت أباظة القاصّ المصري من أصل تركي، بأن يطلب لي إفطاراً، مؤكداً أن أباظة مَن سوف يدفع فاتورته بوصفه سكرتيراً لاتحاد الأدباء المصريين! وهكذا ظللت مواظباً على حضور ندوة توفيق الحكيم يومياً لمدة شهرين، منذ العاشرة صباحاً حتى الثالثة عصراً، مسجلاً حواراتي الصحافية مع أعضائها، لنشرها في جريدة (الرياض)... وكان الحوار في الندوة سجالاً بين الحكيم وعناصر من اليسار الناصري حول كتابه الصاعق (عودة الوعي) ليردّ عليه الكاتب الناصري محمد عودة بكتابه (الوعي المفقود)».
نزار قباني
يقول نصر الله: «تعود معرفتي الشخصية بنزار قباني إلى أواخر شهر فبراير (شباط) سنة 1975، إذ كنت من المترددين الأوائل على مكتبة الحاج محمد مدبولي بالقاهرة (...) وذات مساء وأنا بين رفوفها أقلّب جديد الإصدارات المصرية واللبنانية، دخل علينا رجل منهك القسمات بادي الضعف في بنيته الجسمية، فما كان من الحاج مدبولي إلا أن يترك زبائنه، محتفياً به بالغ الحفاوة... وبعدها قدمني إليه: أديب شاب من السعودية. سلمتُ عليه معرفاً باسمي، وكانت دهشتي كبيرة حين ضغط على يدي محيياً، شاكراً مقالتي التي نشرتُها في جريدة (الرياض) عن أحد دواوينه الصادرة وقتذاك... كان ذلك الرجل هو نزار قباني».
شناشيل ابنة الچلبي
لا يكتفي نصر الله بالحوارات، ولكنه ضليع في البحث عن الأسرار وطرح القضايا. حدث أن وجد بين أرفف مكتبته وهو يتناول ديوان «إقبال وشناشيل ابنة الچلبي» إهداءً، من غيلان بدر شاكر السيّاب، موقعاً بعواطف غامرة بتاريخ 23 سبتمبر (أيلول) 1979... قاده إلى التنقيب عن سيرة بدر شاكر السياب.
يقول: «كنت ليلتها في دار السيّاب في البصرة، بعد زيارة إلى (منزل الأقنان) في قريته جيكور مسقط رأسه، وقد التقيت فلاحين من أهله وجيرانه، وصهره فؤاد عبد الجليل، وبنتيه غيداء وآلاء من زوجته إقبال. قبلها كنت قد اكتشفت من خلال قراءتي في كتاب (تاريخ الأقطار العربية الحديث) للمستعرب الروسي الضخم (لوتسكي) أن أسرة السيّاب كانت ذات ماضٍ إقطاعي، إن لم تكن بالمصطلح الماركسي، فكأنها على أي حال، أسرة امتلكت الأراضي الزراعية.
تساءلتُ: هل لهذا يستعيد السيّاب لا وعيه التاريخي هذا في ديوانه (منزل الأقنان)؟ فقد وجدتُ بيت أسرة السيّاب في جيكور فسيح الباحة كبير المساحة، بدا متهاوياً بأطلال مجدٍ غابر، وأصبح الشعراء العرب من زوار مهرجانات بغداد يقفون عليه، كما كان شعراء الجاهلية يقفون على أطلالهم، ويتأملون في (شباك وفيقة) إحدى ملهمات الشاعر، ويا لهنّ من ملهمات».
يضيف: «لم تتردد الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، حين التقيتها في أبوظبي سنة 1996 في الحديث معي عن افْتِتَان السيّاب بجمالها الفاتن، وهما على مقاعد الدرس الجامعي في معهد دار المعلمين العالية ببغداد منتصف الأربعينات الميلادية من القرن المنصرم».
غازي القصيبي
الكتاب يحفل بلقاءات متعددة مع الأديب والوزير السعودي الراحل الدكتور غازي القصيبي، وبمقدار ما ربطت بين القصيبي والإعلامي نصر الله من صلات شخصية، فإن أي إطلالة للشاعر والأديب الراحل كانت تغذّي الفضاء العام بالكاريزما التي كان يتمتع بها القصيبي إنْ على مستوى العمل الحكومي كوزير أو كأديب وشاعر ما برح يمزج بين الصفتين في كل إطلالاته الإعلامية... لم يعتد نصر الله إجراء حوارات كثيرة مع السياسيين والمسؤولين، كان مفتوناً أكثر بالجانب الثقافي والأدبي، وحتى حواراته القليلة مع بعض المسؤولين العرب سرعان ما تتخذ في جانب منها منحى ثقافياً، لكنه مع القصيبي كان يحلّق في حوارية تمزج بين المسؤول الإداري والأديب الشاعر.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.