لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟https://aawsat.com/home/article/3881586/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%C2%AB%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%B3%D8%B1%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82%C2%BB-%D9%85%D9%86%D8%B0-%D9%86%D8%B5%D9%81-%D9%82%D8%B1%D9%86-%D8%9F
لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
د. سعاد كريم
TT
TT
لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
قيل الكثير حول أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وبأشكال مختلفة منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غيره. وعلى رأس هذه الأسباب التكسر المجتمعي الذي خلق من لبنان فسيفساء وموازييك متعدد الاتجاهات والولاءات والنظرات إلى الدولة أو الانتماء أو حتى الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلد، حيث تلعب الولاءات التقليدية والاجتماعية، أكانت عشائرية أو طائفية أم عائلية – قبلية، دوراً مهماً في الحياة السياسية والاجتماعية في هذا العالم.
في البداية لا بد لنا أن نتساءل: لماذا استطاع هذا البلد الصغير، غير المرئي على خريطة العالم تقريباً، أن يجذب انتباه معظم بلدان المعمورة؟ لماذا لبنان تحديداً؟!
يقيناً، البدايات الأولى للمشكلة تعود إلى زمن بعيد، إلى مشكلة «بنك أنترا» عام 1966، وربما إلى قبل ذلك في بداية الستينات. فالازدهار التدريجي الهائل للبنان بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية (الخليج) قد جذب انتباه معظم الدول، وتحديداً أوروبا وأميركا، وبخاصة بعد تسميته «سويسرا الشرق». فقد بدأت هذه البلدان تتساءل: هل يجب أن تؤخذ هذه التسمية في الاعتبار أم لا؟
إن تنافس لبنان مع سويسرا في حقل الصناعة المصرفية قد شكل تهديداً خطيراً للعالم بأسره، خصوصاً عندما حل مكان المصارف الأوروبية والأميركية في جذب الاستثمارات والأموال العربية الخليجية. لذا، تجب إزالة لبنان الخطير هذا كبلد منافس ومهدد، لا سيما أنه مجرد نقطة صغيرة على الخريطة الدولية.
وتسللت المؤامرة عبر نقاط الضعف اللبنانية، من الأديان ومسائل ثانوية أخرى شكّلت على الدوام التربة الخصبة والصالحة لكل أولئك الذين أرادوا إلحاق الأذى بالقطاع المصرفي، وبالتالي الازدهار الاقتصادي للبلد بمجمله لا بالسكان اللبنانيين تحديداً.
هكذا بدأت المؤامرة، ولسوء الحظ، كلما أصبح لبنان قادراً على دحر هذا المخطط ظهرت مشكلة جديدة أمعنت في البلد تدميراً وتحطيماً يبدوان أبديين، والله وحده يعلم متى سينتهيان.
يجب أن نأخذ في الاعتبار الجوانب والمظاهر المتعددة للحرب اللبنانية، ولكن وبالمقارنة مع الأسباب المتعددة للحرب اللبنانية، شكّلت مصالح الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية الأخرى السبب الأكثر أهمية في دمار لبنان ومحنته، حيث كان التدخل الدولي العامل المساعد والمحرك لبداية الحرب الأهلية داخل البلد واستمراريتها.
لما سُمي لبنان «سويسرا الشرق»؟
قبل التوسع، لا بد لنا من ذكر شيء عن سويسرا التي تقع وسط أوروبا، حيث يحيط بها كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. وفي بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939، حارب أدولف هتلر، مستشار ألمانيا الغربية، وغزا أوروبا بمجملها من دون أن يمس حتى حدود سويسرا، ليس بسبب خوفه من الجيش السويسري (الذي لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد آنذاك)، بل لأن لسويسرا دوراً مهماً تلعبه في تمويل العالم بأسره، لأن كل أموال الأثرياء في بقاع الأرض قد وُضعت في البنوك السويسرية. وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، فسيكون من السهل علينا فهم النتيجة.
من المفيد أن نذكر في هذا المجال أن أمم الأرض قد عبّرت عن شكرها وامتنانها لما فعلته وقدمته سويسرا للعالم بأسره إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك بجعل عَلَمها ذي اللونين الأحمر والأبيض رمزاً لما يسمى «الصليب الأحمر».
وهكذا، ولأكثر من قرن مضى، كانت سويسرا الرائدة والسباقة في مجال الصناعة المصرفية وصناعة الساعات حتى ظهر اليابانيون على المسرح يحاولون اجتذاب المستهلكين نحو ساعاتهم الكوارتز الزهيدة الثمن والصغيرة والأكثر دقة على التوقيت وتعمل على البطارية بدلاً من التعبئة اليدوية أو الأوتوماتيكية والتي تميزت بآلات حاسبة وألعاب تسلية وإشارات تنبيه وغيرها من الأشياء، تاركين لسويسرا الصناعة المصرفية تقريباً. وبدأت سويسرا تخسر سوق الساعات العالمية ودخلت اليابان في هذا المجال بكل ما فيها من تطوير وتجديد.
مجمل القول إنه تُرك لسويسرا اختصاص الصناعة المصرفية إلى أن تحرك لبنان إلى الأمام ليصبح منافساً مهماً ووحيداً لسويسرا في اختصاصه وسيرته المصرفية. ففي أواخر الستينات كان في لبنان أكثر من ثمانين مصرفاً (هذا إذا لم نعدد الفروع)، بينما لم يكن لدى سويسرا أكثر من خمسة مصارف كبيرة، مما دفع العالم بأسره إلى التساؤل عما سيحصل للبنوك السويسرية في ظل لبنان كمنافس عملاق لها! هنا نشأت كيفية تخليص ما تبقى من التخصيص السويسري في مجال الصناعة المصرفية، لأن سويسرا كانت مركز المصارف الرائدة، خصوصاً بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية عام 1950.
لذا كان جوهر المؤامرة ضد لبنان العمل على جعل المصارف الأجنبية تبتعد عنه، إما بالنزوح عن لبنان وإما بجعلها تستثمر أموالها في مجال آخر غير القطاع المصرفي. وحيث إن «بنك أنترا» كان يتمتع بمكانة عالية في القطاع المصرفي، فقد تدفقت الأموال العربية، كما ذكرنا سابقاً، عليه محدثةً فائضاً مالياً هائلاً في هذا المصرف الذي يستثمر في فرنسا وفي غيرها من البلدان، وفي قطاع التملك تحديداً، مما جعله أحد أهم المؤسسات المالية في العالم القديم (أوروبا، آسيا، أفريقيا) والجديد (أميركا).
كان الاعتقاد السائد أنه إذا تم تدمير «بنتك أنترا» فإن الودائع العربية لن تتوقف عن التدفق على لبنان فحسب، بل إن القطاع المصرفي سيبدأ في الانهيار، تلك كانت بداية المؤامرة بمجملها.
وفي الواقع، لقد خططت السفارات الأجنبية المختلفة لنشر إشاعات ومكالمات هاتفية ورعب اقتصادي في أول يوم (الاثنين) من أسبوع الجمعة الأسود، وذلك لتحذير المودعين وحضهم على سحب ودائعهم من «بنك أنترا» لأن رائحته بدأت تفوح إلى العلن. واستمرت المأساة أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من عام 1966 (الذي سُمي فيما بعد «الجمعة الأسود»). وعندما فتح المصرف أبوابه في التاسعة والنصف، تدفق جمهور المودعين مطالبين بسحب ودائعهم. ومن الطبيعي أنه لم يكن لدى المصرف السيولة المالية الكافية، فأُعطي المودعون شيكات (حوالات) للبنك المركزي الذي رفضها.
وسرعان ما امتد هذا الوضع بسرعة إلى كل أرجاء العالم، متسبباً بسحوبات من الودائع لا نهاية لها، وبخاصة ودائع الأثرياء العرب. واتصلت إدارة «بنك أنترا» بالبنك المركزي عارضةً رهن كل استثمارات مصرفها في فرنسا، إضافةً إلى سندات الملكية لديه كحصته في شركة «طيران الشرق الأوسط»... إلخ، إلا أن البنك المركزي رفض بصراحة تامة العرض المقدم له. وهكذا لم يكن «بنك أنترا» قادراً على حل هذه المعضلة، فوجد نفسه ملزماً بأن يقفل أبوابه نهائياً. وفعلاً توقف المصرف عن الوجود عند الساعة الحادية عشرة وكانت تلك الخطوة الأولى على طريق نجاح المؤامرة المدبرة ضد لبنان.
الهدف الثاني ضد المصارف كان البنك البريطاني للشرق الأوسط، ثاني أكبر مصرف في لبنان بعد «أنترا». وبدأ مودعوه، بعد تأثير الرعب الذي سببه «أنترا» يطالبون بسحب ودائعهم منه، إلا أن إدارة البنك اكتشفت اللعبة وأوعزت إلى مكتبها الرئيسي في هونغ كونغ فسارع إلى إرسال الأموال وأعلن المصرف أن أبوابه ستُفتح 24 ساعة يومياً بما فيه السبت والأحد. لكنه حذر المودعين بأن كل من يسحب ودائعه سيتوقف إلى الأبد عن كونه زبوناً لدى البنك البريطاني للشرق الأوسط. ومن البدهيّ القول إنه نتيجة لانهيار «أنترا» تم حث الاستثمارات الأجنبية والمحلية على ترك لبنان والذهاب إلى أي مكان آخر، أكانت المصارف السويسرية أو الأجنبية أو غيرها.
وهكذا نجح المخططون في مخططهم. لكن الزمن كان كفيلاً ببلسمة الجراح. ونتيجة لذكاء اللبنانيين، بدأ العرب يتناسون الأزمة التي سبّبها «بنك أنترا» وعادت الأموال تتدفق وتصب في المصارف اللبنانية ثانية. على مر سبعة وأربعين عاماً، استمر التدخل الأجنبي واستمر المخطط في مؤامراته على المصارف في لبنان منذ الحرب الأهلية 1975، كما ذكرنا سابقاً، حتى تاريخه، بأشكال مختلفة وطرق متنوعة حتى تمكن من تحقيق الهدف أخيراً ونجاح المؤامرة ولكن، ويا للأسف، ليس على يده بل على يد سياسيين ومسؤولين وموظفين ومتواطئين لبنانيين، فانهار القطاع المصرفي بسرعة فائقة وبكل سهولة وتم تدميره بالكامل تقريباً ما أدى إلى سحب المودعين الأجانب والعرب وحتى اللبنانيين ودائعهم إلى المصارف الأجنبية. والآن يبحث المسؤولون في الدولة اللبنانية موضوع «الكابيتال كونترول» المنقوص والسرية المصرفية الملتوية بعد أن خسر لبنان ثقة العالم أجمع بنظامه المصرفي وهو الآن يتخبط بفوضى عارمة ويُظهر عدم معرفة، أو بالأحرى عدم إرادة في كيفية إدارة هذا القطاع.
إن الوضع الراهن، وبسبب الأحداث والظروف المؤلمة من ضائقة اقتصادية ومعيشية خانقة وفقدان أبسط سبل العيش الكريم للبنانيين من ماء وكهرباء واتصالات وبنى تحتية وفقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية (حيث كانت 2. 25 ل.ل توازي دولاراً أميركياً قبل الحرب الأهلية، أصبح الآن الدولار الواحد الأميركي يوازي أكثر من 35000 ل.ل) وغيرها من المشكلات الاجتماعية والصحية والتربوية، لا يزال البنانيون يعانون ويتحملون ويعملون جاهدين كي تكون فترة الانتظار قصيرة حتى يتقدموا نحو الحل النهائي، ومَن يدري؟! ربما تتغير تسمية «سويسرا الشرق» إلى «هونغ كونغ الشرق».
يقول البوذيون: «إن الثيران بطيئة الحركة، لكن الأرض صبورة جداً».
* باحثة لبنانية
هشاشة الحدود السورية ترسم علاقات شائكة مع دول الجوارhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5135878-%D9%87%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%B3%D9%85-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%B4%D8%A7%D8%A6%D9%83%D8%A9-%D9%85%D8%B9-%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%B1
هشاشة الحدود السورية ترسم علاقات شائكة مع دول الجوار
جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)
تشكِّل قضية الحدود السورية مع دول الجوار تحدياً كبيراً للإدارة الناشئة للرئيس أحمد الشرع، فهي المعبر الأول لصياغة علاقة سياسية وأمنية مستقبلية بين دمشق ومحيطها، وهي في الوقت نفسه حاجز مفخَّخ بكثير من رواسب النظام السابق.
وتعد الحدود السورية - التركية التي تمتد لأكثر من 900 كيلومتر، الجغرافيا الأبرز للصراع على الموارد والنفوذ، وهي التي شهدت تاريخياً فترات من التوتر والهدوء النسبي. وبعد اندلاع الثورة السورية مطلع عام 2011، كانت هذه الحدود أول خاصرة ضعيفة للنظام السابق. ففي حين بدأت دمشق تفقد السيطرة تدريجياً على مناطق واسعة من البلاد، كانت المناطق الحدودية، خصوصاً الشمالية منها، الأولى التي خرجت سريعاً عن سيطرتها.
وبالكاد انتصف عام 2012، حتى كانت فصائل المعارضة السورية المسلحة تسيطر على نقاط استراتيجية على الحدود مع تركيا؛ أولاها معبر باب الهوى الاستراتيجي على بُعد نحو 50 كيلومتراً غربي مدينة حلب في شمال غربي سوريا. بعده مباشرةً تمت السيطرة على معابر باب السلامة وجرابلس والراعي. وامتدت هذه السيطرة لاحقاً إلى معابر معينة مع العراق والأردن ولبنان، في ظل تراجع قدرة النظام على ضبط حدوده كما في السابق.
ومع تصاعد النزاع ودخول لاعبين دوليين وإقليميين على خط الأزمة، أُعيد رسم خريطة السيطرة على المعابر. فأصبحت تركيا من خلال فصائل سورية حليفة لها تهيمن على معظم الحدود الشمالية، في حين مارست إيران نفوذاً مباشراً عبر ميليشياتها على حدود سوريا مع العراق والأردن. أما «حزب الله» اللبناني ففرض سيطرة شبه كاملة على الحدود اللبنانية. في المقابل، تمركزت القوات الأميركية في الشمال الشرقي ومعبر التنف على المثلث الحدودي مع العراق والأردن.
ورغم تباين القوى المسيطرة على المعابر الرسمية وغير الرسمية، فإن القاسم المشترك بينها هو نشوء كيانات محلية ذات أنظمة أمنية واقتصادية منفصلة، لا تخضع للسلطة المركزية بشكل فعلي، ما أسهم في إضعاف تماسك الدولة ووحدتها.
ورغم ما أُعلن عن سيطرة «هيئة تحرير الشام» على إدارة العمليات العسكرية إثر سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، فإن الحكومة السورية الجديدة ورثت واقعاً هشاً ومعقداً، خصوصاً في إدارة الحدود وتواجه تحديات أمنية جسيمة في هذا ملف.
الحدود اللبنانية: «حزب الله» وشبكات تهريب
تمتد حدود سوريا مع لبنان لمسافة تصل إلى نحو 375 كيلومتراً، وكانت خاضعة بشكل شبه كامل لسيطرة «حزب الله» قبل سقوط النظام. وشكّلت المعابر الرسمية الستة، أبرزها معبر «جديدة يابوس - المصنع» و«الدبوسية - العبودية»، ممرات قانونية وشرعية تخضع عملياً للدولة اللبنانية، في حين سيطرت مجموعات تابعة لـ«حزب الله» والعشائر على نحو 20 معبراً غير رسمي في محافظتي حمص وريف دمشق.
نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (أ.ف.ب)
هذه المعابر شكّلت شبكة تهريب ضخمة للأسلحة والبضائع والمخدرات وتسلل أو عبور المقاتلين. وأكدت مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه الشبكات لا تزال تنشط في ظل ضعف أجهزة الدولة الجديدة، وامتلاك المهربين خبرة طويلة في التعامل مع التضاريس الوعرة والاستجابة المرنة للضغوط الأمنية، وتغيير مساراتهم وفق الحاجة».
وأشارت المصادر إلى أن هذه «الشبكات المدعومة من (حزب الله) لبنانياً والفرقة الرابعة سورياً، أنشأت مستودعات وأنفاقاً في مناطق جبلية، بعضها يعود إلى ما قبل الثورة، تُستخدم لتخزين ونقل الأسلحة والمخدرات، وقد استهدفت إسرائيل بعض هذه الشحنات في غارات متكررة».
وفي هذا السياق، قال مسؤول عسكري في الجيش السوري الجديد، فضَّل عدم الكشف عن اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «لقد فككنا عدداً من شبكات التهريب التي تعمل على جانبي الحدود، ونحن في طور الملاحقة الأمنية وتفكيك تلك الشبكات المعقدة». وأشار المسؤول إلى أن «هناك تعزيزات عسكرية سورية مكثفة تصل إلى الحدود اللبنانية، خصوصاً في المناطق الأكثر عُرضة للخطر، والتي يُحتمل أن يتسلل منها عناصر تابعون لـ(حزب الله)».
وحذر المصدر من «صدامات متكررة مع مجموعات تابعة لـ(حزب الله) كتلك التي حدثت في منتصف مارس (آذار) الفائت»، مؤكداً أن الجيش في حالة «استنفار دائم لتفادي المخاطر الأمنية المحتملة».
صورة ملتقطة في 11 مارس 2025 بقرية حكر الظاهري شمال لبنان تظهر لاجئين سوريين يعبرون النهر الكبير إلى قرية حكر الظاهري اللبنانية هرباً من العنف في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين السوريتين (د.ب.أ)
تحديات المرحلة المقبلة
ورغم عزم الحكومة السورية الجديدة على مواجهة التهريب، لا سيما حين يرتبط بتهريب الأسلحة والمخدرات، فإن ضعف البنية الأمنية، والنقص في عدد العناصر، يشكلان عائقاً حقيقياً أمام ضبط الحدود، خصوصاً في ظل تمدد شبكات التهريب ذات الخبرة الطويلة والمعرفة الجغرافية الواسعة.
وتبقى الحدود اللبنانية - السورية إحدى أبرز بؤر التوتر، في ظل انعدام السيطرة التامة من الحكومتين، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. وتؤكد مصادر أمنية سورية أن معالجة هذا الملف تتطلب تعاوناً مباشراً بين دمشق وبيروت، إضافةً إلى دعم إقليمي لضمان أمن الحدود ومنع تهريب السلاح والمخدرات.
الحدود مع الأردن: ضبط الكبتاغون
كما هو الحال في معظم المناطق الحدودية، فقد النظام السوري سيطرته على الحدود الرسمية مع الأردن، وفي جنوب سوريا لجهة درعا، والقنيطرة، والسويداء، اتخذ الصراع مساراً مشابهاً لما جرى في الشمال، حيث ظهرت هيئات مدنية بديلة وحاربت جماعات مسلحة قوات النظام، مما أدى إلى تراجعه عن مناطق حدودية عدة.
في 2017، ومع تضاؤل الدعم الخارجي تدريجياً حتى توقفه تماماً، عاد النظام السابق ونجح في عقد «مصالحات» أعادت له السيطرة في العام التالي على مساحات واسعة من البلاد وعلى المعابر الحدودية الرسمية مع الأردن.
منذ ذلك الحين، تحولت الحدود السورية - الأردنية إلى ممر منظم لتهريب الكبتاغون إلى الخليج مروراً بالأردن، الذي أصبح منطقة عبور وأحياناً استهلاك. ويعد ذلك من أبرز مظاهر تواطؤ شبكات التهريب والسلطة بعد «استعادة السيطرة» وحتى سقوط النظام لاحقاً.
وتمتد الحدود بين البلدين على نحو 370 كيلومتراً، وتضم معبري نصيب وجابر. وحسب مصادر محلية علمت «الشرق الأوسط» أن عمليات التهريب مستمرة رغم الجهود التي تبذلها الإدارة السورية الجديدة وتعهدها بضبط هذه التجارة. لكن كما هو الحال مع الجانب اللبناني، فإن الشبكات متشعبة ومُلمَّة بالجغرافيا، وفي الحالة الأردنية يستخدم المهربون مُسيّرات صغيرة تنقل ما بين نصف كيلوغرام و3 كيلوغرامات من المواد المخدرة، مما يصعّب رصدها، ويمثل هذا تحدياً أمنياً هائلاً.
وأضافت المصادر أن الأردن يواجه محدودية في الإمكانات، بينما تواصل شبكات التهريب نشاطها، مستفيدةً من ضعف الحكومة السورية في مناطق جنوب البلاد لحسابات أمنية، أبرزها المخاوف من الاحتكاك مع إسرائيل.
كذلك، تُستخدم طرق وعرة في الوديان والمناطق الجبلية لتهريب المواد، مما يعقّد السيطرة الأمنية، ورغم تراجع الكميات مقارنةً بالسابق، فإن النشاط لم يتوقف كلياً.
وتغيّرت طبيعة التهريب من السلاح والكبتاغون سابقاً -بدعم إيراني- إلى التركيز الآن فقط على الكبتاغون، بعد انحسار النفوذ الإيراني. كما تطورت وسائل التهريب لتشمل التضليل بافتعال اشتباكات واستخدام ورش صغيرة وعشوائية للإنتاج بدلاً من المصانع الكبيرة التي دمَّرت وفككت السلطات الجديدة معظمها.
الجولان المحتل... «عيون دولة إسرائيل»
عادت قضية الحدود المشتركة مع إسرائيل إلى الواجهة بعد سقوط نظام بشار الأسد؛ إذ شهدت توغلات إسرائيلية كثيرة، وما كانت لعقود «جبهة باردة» أصبحت اليوم نقطة ساخنة أخرى.
وتتمحور إشكالية الحدود السورية - الإسرائيلية حول مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967 وتعدها جزءاً من سيادتها، ومرتكزاً أساسياً لأمنها القومي ووجودها. بينما تطالب سوريا عبر المجتمع الدولي باستعادة أراضيها المحتلة والعودة إلى ما قبل الحرب.
قصف مدفعي إسرائيلي يطول موقعين في ريف القنيطرة قرب الحدود مع الجولان السوري المحتل (أرشيفية)
وبعد سقوط نظام الأسد، شهدت الحدود السورية - الإسرائيلية، خصوصاً في مرتفعات الجولان والمنطقة العازلة، استغلالاً إسرائيلياً للفراغ الأمني والسياسي في سوريا لتوسيع سيطرتها على مناطق جديدة في جنوب غربي سوريا، خصوصاً في المنطقة العازلة التي تمتد من جبل الشيخ شمالاً حتى جنوب مرتفعات الجولان المحتلة، ورفضها الاتفاقيات السابقة التي كانت تنظّم وقف إطلاق النار. لكن ثمة من يرى إمكانية انسحاب إسرائيل مستقبلاً مع فتح الحكومة الانتقالية قنوات تواصل مع بعض دول الاتحاد الأوروبي التي ترفض الاحتلال الإسرائيلي أو ضم أراضٍ سورية جديدة.
وترفض إسرائيل السماح لأي قوة «معادية» بالتمركز على حدودها في جنوب سوريا في محافظات القنيطرة والسويداء ودرعا، مع مواصلة تعزيز وجودها العسكري في المناطق التي احتلتها حديثاً، وبنت فيها نقاطاً عسكرية مثل قمة جبل الشيخ التي وصفها رئيس وزراءها بأنها «عيون دولة إسرائيل»، فيما تواصل شن مئات الغارات الجوية على مخازن أسلحة بحجة منع وقوع هذه الأسلحة في أيدي جماعات معادية.
ومع إدراك الحكومة الانتقالية واقع «التوازن العسكري» مع إسرائيل، أبدت هذه الحكومة رغبتها «مراراً» في عدم مواجهة إسرائيل، أو السماح باستخدام الأراضي السورية منطلقاً لشن هجمات على إسرائيل أو تهريب الأسلحة عبر حدوها إلى «حزب الله» اللبناني، والتمسك باتفاقية «فصل القوات» الموقَّعة بينها في عام 1974، ومطالبة الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من مناطق التوغل الجديدة. لكنَّ إسرائيل على ما يبدو، تسعى لتكريس واقع جديد لفرض وجود عسكري طويل الأمد مع المراقبة عن «كثب» لتطور الملفات الداخلية، واحتمالات دخول البلاد في حرب داخلية تسهم في «تفتيت» الدولة السورية، وإضعاف قدرة السوريين على المواجهة، مع معطيات عدة تشير إلى تعرض مصدر التهديد الثاني، أي «محور المقاومة»، لضربات «مميتة» أنهت عملياً تهديدات «حزب الله» اللبناني على الأقل مؤقتاً، وتهديدات حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة.
الإشكالية السورية - التركية
شهدت الحدود السورية - التركية تحولات جذرية منذ عام 2011، حيث تحوّلت من منطقة شبه مغلقة إلى بوابة مفتوحة للفارين والمقاتلين، قبل أن تُصبح واحدة من أكثر الحدود مراقبةً في العالم، وكذلك الممر الرئيسي لعبور السلع والبضائع.
2012 – 2014: الانفتاح والفوضى
مع نهاية عام 2012، فقد النظام السوري سيطرته على معظم الشريط الحدودي مع تركيا، لا سيما في شمال حلب وإدلب والرقة. وتحوّلت هذه الحدود إلى ممرّ مفتوح للمقاتلين الأجانب القادمين إلى سوريا، وللفارين من القصف المتصاعد فيها.
في هذه المرحلة، تساهلت تركيا في ضبط حدودها، ففتحت معابر رسمية وأخرى «طارئة» لاستقبال الجرحى المدنيين والعسكريين، وانتعشت حركة تهريب الأفراد من سوريا إلى تركيا بشكل غير مسبوق. وشملت عمليات التهريب أيضاً، الوقود، والدخان، والبضائع الأخرى، وكانت تُدار أحياناً من فصائل من الجيش الحر.
وبين عامي 2011 و2014، بلغت عمليات التهريب ذروتها، كما أصبحت حركة عبور المدنيين إلى تركيا سهلة وتكلف القليل نسبياً، إذ لم تتجاوز تكلفة التهريب حينها 500 ليرة سورية (بضعة دولارات)، مقارنةً بتكاليف تصل اليوم إلى نحو ألفي دولار.
وزير التجارة التركي عمر بولاط خلال تفقده البوابات والمعابر الحدودية مع سوريا يناير الماضي (من حسابه في «إكس»)
2015: التحصين والتشديد
ابتداءً من عام 2015، بدأت تركيا تشديد إجراءاتها على الحدود بعد ضغوط دولية، فشرعت في بناء جدار عازل وسياج أمني على طول الشريط الحدودي، وحوّلت الحدود إلى واحدة من أكثر المناطق مراقبةً عالمياً.
ورغم التشديد، بقيت المعابر الرسمية مفتوحة أمام دخول المساعدات الإنسانية، والبضائع التركية، والحالات الطبية المستعصية. كما تعاملت أنقرة بشكل رسمي مع المعابر الخاضعة لسيطرة الفصائل المعارضة، مع الاعتراف بأختامها لعبور الأشخاص والبضائع. وكان أبرز هذه المعابر باب الهوى، الذي تنقلت السيطرة عليه بين فصائل مثل الجيش الحر، وأحرار الشام، وأخيراً هيئة تحرير الشام.
كما شملت المعابر التي ظلت فاعلة تحت إشراف فصائل «الجيش الوطني» المتحالفة مع أنقرة: باب السلامة، والراعي، وجرابلس، وتل أبيض، في حين أغلقت تركيا معابرها مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
الحدود كورقة سياسية
برزت تجارة التهريب البشري كإحدى أبرز سمات الحدود السورية - التركية، حيث نشأت شبكات تهريب منظمة تسهّل عبور المدنيين باتجاه تركيا ومنها إلى أوروبا. وكانت الفصائل المعارضة المسلحة تستفيد من هذه التجارة عبر فرض رسوم عبور وصلت إلى 25 دولاراً للشخص، تُدفع مقابل «وصل مرور» يسمح بالاقتراب من نقاط التهريب.
لاحقاً، تحوّلت هذه التجارة إلى ورقة ضغط سياسية. ففصائل مثل «هيئة تحرير الشام» أوحت لأنقرة بأنها تتحكم في الحدود ويمكنها فتح الطريق أمام اللاجئين، مما منحها هامشاً للمساومة السياسية. فمنذ أن فرضت هيئة تحرير الشام سيطرتها المطلقة على إدلب، بدأت تُظهر نفسها على أنها لاعب إقليمي يمسك بورقة الحدود مع تركيا، ويستخدمها للمناورة مع أنقرة وأوروبا.
وفي ديسمبر 2019، قدمت الهيئة نموذجاً لهذا الدور عندما منعت مئات المتظاهرين من الوصول إلى بوابة باب الهوى، من خلال إغلاق الطرق بالكتل الأسمنتية، ونشر عشرات العناصر الملثمين، بل استخدام الرصاص الحي بشكل مكثف لتفريقهم. المتظاهرون كانوا يطالبون «الضامن التركي» بالتحرك ضد التصعيد العسكري في ريف إدلب، وفرض الالتزام بتفاهمات سوتشي، لكنَّ تركيا لم تسعَ لمنع هجمات النظام السابق وروسيا، والهيئة من جهتها اختارت أن تكون سداً منيعاً بين الأهالي والبوابة الحدودية مقدمةً نفسها أنها هي من يتحكم في الحدود، وأن على أنقرة التفاهم معها.
بهذا السلوك، أرسلت «تحرير الشام» رسالة واضحة: من يسيطر على المعبر، يملك ورقة ضغط حساسة في وجه تركيا والمجتمع الدولي، سواء كانت على شكل تهديد بانفجار شعبي، أو إدارة تدفق اللاجئين والضغط الأمني.
وبدورها استخدمت تركيا ورقة اللاجئين في مفاوضاتها مع أوروبا، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، كما أسهمت الفصائل المتحالفة معها في ضبط الحدود ومنع الانفلات الأمني.
«كسب»... من التجاهل إلى التفعيل
كان معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا، مغلقاً لسنوات خلال سيطرة النظام السابق. ورغم أنه لم يكن مفعّلاً، فإنه شهد عدداً من اللقاءات الأمنية بين استخبارات أنقرة ودمشق. وبعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، أُعيد فتح معبر «كسب» رسمياً، وأصبحت جميع المعابر الرسمية بين البلدين تحت إدارة حكومة الرئيس أحمد الشرع ما عدا تلك التي لا تزال تحت إدارة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهي موضع تجاذبات ومفاوضات.
معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا (أ.ف.ب)
وقال مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علّوش لـ«الشرق الأوسط» إن «المعابر البرية كافة في سوريا تحت سيطرة الحكومة السورية، ومنها عشرة معابر بدأ العمل بها فعلياً، فيما لا تزال هناك أعمال صيانة على بقية المعابر ليتم افتتاحها بعد فترة قريبة». وأضاف: «في المقابل لا تزال المعابر ابتداءً من معبر عين العرب مع تركيا، حتى معبر اليعربية مع العراق، تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية».
وعن خطط الحكومة السورية لاستعادة هذه النقاط الاستراتيجية، قال علوش: «تسعى الحكومة السورية إلى استعادة السيطرة على جميع المعابر لتعزيز سيادتها وتأمين تدفق البضائع والأشخاص بشكل طبيعي، وتشمل خططها الحالية تسلم المعابر شمال شرقي سوريا من قوات سوريا الديمقراطية بعد الاتفاق الذي جرى توقيعه بين رئيس الجمهورية العربية السورية وقائد قوات سوريا الديمقراطية».
وإذ أكد علّوش أن «هناك تعاوناً كبيراً بين الدول المجاورة والحكومة السورية»، وأن العلاقات يسودها «التفاهم والاحترام المتبادل»، نفى وجود أي تهديدات مباشرة في الوقت الحالي، معتبراً إن الاشتباكات الأخيرة هي «شأن طبيعي».
وفيما يتعلق بخطط إعادة فتح المعابر المغلقة، قال: «توجد خطط لإعادة فتح بعض المعابر المغلقة، تعتمد على التطورات السياسية والأمنية والمفاوضات الجارية مع الدول المجاورة، خصوصاً لبنان، حيث تجري حالياً أعمال صيانة وترميم لمعبر العريضة الحدودي، وسيليه معبر الدبوسية، حيث كانت هذه المعابر قد تعرضت لقصف إسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على لبنان».
وأضاف علّوش: «هناك أيضاً خطط لتسلم معبر التنف الحدودي والبدء بأعمال الصيانة فيه خلال فترة قريبة حتى يتم تجهيزه، ومعبر البوكمال لتسهيل عبور البضائع والمسافرين إلى العراق، وننتظر تسلم المعابر الأخرى من قوات سوريا الديمقراطية، حتى يتم وضعها في الخدمة».
العراق... مقاتلون في اتجاهين
تُعد الحدود بين العراق وسوريا من أكثر المناطق الحدودية هشاشة واضطراباً في المنطقة، وهي هشاشة سبقت حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011 وسقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003. ويعود ذلك إلى الطبيعة الصحراوية الوعرة للمنطقة، وطول الحدود التي تمتد لأكثر من 600 كيلومتر، إضافة إلى ضعف إمكانات الدولتين في ضبطها، سواء في ظل نظامَي البعث في البلدين أو ما بعدهما.
معبر البوكمال على الحدود السورية - العراقية (آ ف ب)
في أواخر التسعينات وبداية الألفية، لعب جهاز المخابرات السورية دوراً فاعلاً في السماح بمرور عشرات المقاتلين الأجانب إلى العراق، خصوصاً بعد الغزو الأميركي في 2003. وقد اتُّهم النظام السوري لاحقاً من واشنطن والحكومة العراقية بتسهيل مرور الجهاديين، ودعمهم، وهو ما عمّق التوتر بين البلدين. المفارقة أن هذين الطرفين، المتخاصمين بالأمس، تحوَّلا إلى حليفين بعد اندلاع الثورة السورية، وأصبحت هذه المعابر نفسها التي ضخت جهاديين سُنة نحو العراق تستقبل مقاتلين من «الحشد الشعبي» والميليشيات الشيعية باتجاه سوريا للدفاع عن نظام بشار الأسد، وهي اليوم نقطة ساخنة أخرى تضاف إلى تحديات الإدارة السورية الجديدة.
ولكن قبل ذلك، وعلى أثر انسحاب قوات النظام السوري السابق من أغلب المواقع الحدودية بحلول نهاية 2013، ملأت قوات سوريا الديمقراطية بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية الفراغ الأمني شمال شرقي البلاد، خصوصاً في محافظة الحسكة. أما في دير الزور، فقد تقاسمت السيطرة فصائل معارضة متنوعة، قبل أن يتمكن تنظيم «داعش» عام 2014 من بسط نفوذه على كامل المنطقة، معلناً قيام «دولة الخلافة الإسلامية» ومُلغياً الحدود بين سوريا والعراق من حلب إلى الموصل.
ثم في أعقاب هزيمة «داعش»، ظهرت على الجانب العراقي قوات «الحشد الشعبي»، والفصائل المرتبطة بإيران، لاعباً أساسياً في إدارة الحدود المشتركة مع سوريا. ومن أبرز هذه الفصائل «لواء الطفوف» و«كتائب حزب الله»، التي تركز وجودها في مناطق استراتيجية مثل القائم وعكاشات، حيث يقع معبر القائم - البوكمال، أحد أبرز المعابر بين البلدين. وقد بات هذا المحور جزءاً مما يُعرف بـ«محور المقاومة» المدعوم من إيران، مما منح طهران نفوذاً مباشراً في إدارة المعبر ومحيطه، رغم عودة السيطرة الاسمية للنظام السوري.
ورغم وجود عدة معابر رسمية أخرى مثل «اليعربية - ربيعة»، و«سيمالكا - فيشخابور»، و«الوليد - الفاو»، فإن أغلبها يخضع حالياً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وبعد سقوط النظام السابق نهاية 2024، أغلق العراق رسمياً معبر القائم، وسط مخاوف أمنية متصاعدة، خصوصاً من عودة نشاط تنظيم «داعش».
وحسب مصادر محلية، فإن مفاوضات تُجرى حالياً بين دمشق وبغداد لإعادة افتتاح المعبر وتنظيم الحركة التجارية، وسط وعود سورية بعدم السماح باستخدام أراضيها نقطة انطلاق لتنظيم «داعش» نحو العراق أو غيره.
وبحسب الباحث العراقي رائد الحامد، وهو رئيس قسم الدراسات الأمنية في مركز العراق للدراسات الاستشرافية، فإن بعض فصائل الحشد الشعبي المرتبطة بإيران لا تُخفي قلقها من هشاشة الوضع الأمني في سوريا، الذي قد يهيئ لعودة «داعش». وأكد الحامد لـ«الشرق الأوسط» أن حكومة محمد شياع السوداني ترى ضبط الحدود أولوية قصوى، إلى جانب مكافحة التنظيم، لا سيما مع اقتراب انتهاء مهمة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل.
زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لبغداد منتصف مارس الماضي، كانت أول زيارة رسمية لمسؤول سوري رفيع منذ سقوط النظام، وهدفت إلى تنسيق المواقف في مواجهة «داعش» وتعزيز ضبط الحدود. وقد وعد الشيباني بأن سوريا لن تكون مصدر تهديد للعراق، لا من خلال «داعش» ولا عبر شبكات التهريب مقابل أن تسعى بغداد من جهتها إلى منع تسلل عناصر الميليشيات أو الضباط السابقين في النظام السوري.
ولم تقتصر هذه الجهود على المحادثات الدبلوماسية وإنما ترافقت بجهود ميدانية، إذ نشرت بغداد كاميرات مراقبة حرارية، وشيَّدت خنادق وسياجاً يمتد لأكثر من 100 كيلومتر، إلى جانب نشر مئات المراصد وعشرات المخافر، مع جهد استخباراتي فاعل يعتمد على السكان المحليين.
ورغم هذا الجهد المكثف، والتعاون مع دول الجوار، فإن جميع المصادر الذين تحدث إليهم «الشرق الأوسط» في هذا السياق تقاطعت عند التحديات الكثيرة التي لا تزال قائمة وستكون مرشحة للتفاقم، في ظل غياب سلطة مركزية قوية في دمشق، وقدرة بشرية موازية، مما يُبقي الحدود ثغرة مفتوحة أمام احتمالات التسلل، وعودة الفوضى مجدداً.