يسعى الباحث الإماراتي الدكتور جاسم محمد الخلوفي في كتابه «المشروع الآيديولوجي الإيراني في الشرق الأوسط» الصادر حديثاً عن دار ميريت للنشر والتوزيع بالقاهرة، إلى تفكيك وتحليل نظام حكم ولاية الفقيه في طهران، وامتداداته الإقليمية، ويحاول بنظرة شمولية وضعه في سياقه التاريخي السياسي لفهم مغاليق النظام الآيديولوجي الإيراني، وقراءة عقله السياسي، وتركيبة نظامه الداخلية المعقدة والعصية على الفهم.
وبمقاربة آيديولوجية صارمة، عمل الخلوفي على توضيح مرتكزات وآليات وأهداف المشروع الإيراني باعتبارها «ضرورة سياسية للتعامل مع طهران، وطرق إدارة العلاقات معها، خاصة أن الحرس الثوري، «ذراعها المسلحة»، هو من يمسك ويدير ملفات المنطقة الخليجية والعربية.
تداعيات الحرب العراقية الإيرانية
يتضمن الكتاب عشرة فصول، مهّد لها المؤلف بتسليط الضوء على طبيعة النظام الإيراني، وأدواته ومؤسساته، وأهدافه ومآلاته، وبالتالي استشراف مستقبله. ثم تناول متلازمة الدولة والثورة، وإشكالية ازدواجية الخطاب الإيراني، ومركزية دور المرشد الإيراني في عملية صنع القرار، وتبعية مؤسسات الدولة للثورة، مشيراً إلى أن إضفاء إيران على الثورة «طبيعة رسالية ذات مهمة إلهية مقدسة أربك وعقَّد من علاقات إيران بالدول المجاورة، وأشعل فتيل الحروب والمواجهات والتوترات في المنطقة».
وأولى الباحث اهتماماً كبيراً لتداعيات الحرب العراقية - الإيرانية التي اندلعت عام 1980، واستمرت ثماني سنوات، على مدركات إيران الأمنية، والتحولات الاستراتيجية التي طرأت على المنظور الأمني الإيراني بعد الحرب، كما قام بتقييم تداعيات احتلال العراق للكويت عام 1990، وأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وتأثيراتهما على المنظور الأمني الإيراني، فضلاً عن تحليل نتائج الاحتلال الأميركي للعراق، عام 2003، وطبيعة الخطاب الإيراني تجاه دول الخليج والمنطقة بعد الاحتلال الأميركي، ثم كيفية تعامل إيران مع موجة الربيع العربي التي اجتاحت العالم العربي عام 2010 - 2011، والتي أحدثت تصدعات جوهرية في هيكل النظام الإقليمي العربي.
نظرة استقطابية
يمثل قيام المشروع الإيراني الآيديولوجي، حسب الخلوفي، تحديّاً كبيراً للوضع الإقليمي القائم، ويثير شكوكاً حول شرعية الدولة الوطنية والهوية الوطنية الجامعة، وقواعد النظامين الإقليمي والعالمي بعد تنصيب حكام إيران أنفسهم أوصياء وحماة للمذهب الشيعي ومقدساته وأتباعه. وطرحت طهران من خلال مشروعها الآيديولوجي نفسها «كمركز وقلب للأمة الإسلامية، ومحور المرجعية الشيعية، وزعيمة الأمة الإسلامية والمستضعفين ضد قوى الاستكبار العالمي، والنظر للشيعة، في مختلف أوطانهم، بوصفهم رعايا تابعين للولي الفقيه، يحظون بالرعاية والحماية الإيرانية ضد (القوى الطاغوتية) التي اغتصبت السلطة منهم».
هذه النظرة الصراعية الاستقطابية الحادة - حسب تعبير الخلوفي - تتعارض، بل تقوض مفهوم الدولة القومية الحدودية الحديثة، وتطرح تساؤلات عديدة حول مسألة الهوية الوطنية، وانتماء الشيعة لأوطانهم وحكوماتهم، وتسعى لخلق ولاء عابر للحدود يسمو فوق الولاء الوطني والهوية الوطنية. وعليه، ترى إيران أن تصدير الثورة إلى الخارج هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الإيراني للمحافظة «على ثورية الإسلام وزخم الثورة». وهذه الرؤية الآيديولوجية الإيرانية إزاء أمنها القومي ساهت في إرباك علاقات إيران الإقليمية والدولية، وانعدام الثقة بمواقفها المعلنة، واتساع الفجوة بين الأقوال والأفعال.
ويشير المؤلف إلى أن ما يزيد الأمر تعقيداً وصعوبة إمساك الحرس الثوري الإيراني وإدارته ملفات الدول العربية وقضايا السياسة والأمن مع دول الخليج والمنطقة العربية. ما يجعل المقاربة الإيرانية مع الملفات الخليجية والعربية تتسم بجرعات كبيرة من الأدلجة، بينما تتسم المقاربة الإيرانية مع ملفات أميركا وأوروبا ودول آسيا بالبراغماتية والمرونة السياسية؛ لأنها تقع ضمن ولاية وإشراف وزارة الخارجية الإيرانية.
ورغم كل هذه المخاوف، يرى الباحث أن مستقبل المشروع الآيديولوجي الإيراني مرهون ببروز وتشكيل نظام عربي إقليمي فاعل يقف في وجه التمدد الإيراني في المنطقة العربية، ومستقبله الذي يظل متوقفاً على قدرة الاقتصاد في طهران على تمويل مشروعه بعد وصول المؤشرات الاقتصادية الإيرانية إلى معدلات خطيرة ومقلقة، وتردي معدلات التضخم هناك إلى مستويات قياسية بلغت 40 في المائة، وفقد العملة الإيرانية أكثر من 70 في المائة من قوتها الشرائية، وسقوط 30 في المائة من الشعب الإيراني تحت خط الفقر، وعدم حصول ثلث عدد الخريجين الإيرانيين على وظائف.
ما بعد احتلال العراق
ويلفت الباحث إلى أن تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق، ليس سقوط النظام البعثي العراقي فحسب، إنما تفكك الدولة العراقية ومؤسساتها، قد أفسحت المجال لظهور الحركات والقوى الإرهابية، ولم يتحول العراق إلى دولة ديمقراطية متقدمة كما وعدت إدارة بوش، ولم تصبح النموذج الديمقراطي الملهم والجاذب لمنطقة الشرق الأوسط، لكن ما تم كان التركيز على تدمير المؤسسات السياسية الوطنية وتفكيكها، خاصة الجيش والشرطة والوزارات، وإحداث فراغات سياسية وفوضى سميت «بالبنَّاءة»، لإعادة ترتيب الأوضاع، وإعادة رسم الخرائط السياسية الداخلية بالعراق حسب رؤية المحافظين الجدد في أميركا، وفرض المحاصصة الطائفية والإثنية على البلد، وإعطاء أدوار كبيرة للشيعة والأكراد، على حساب المكون السني، وإخراجه من العملية السياسية، واستغلال قانون «اجتثاث البعث» لإقصاء العناصر السنية من القرار السياسي.
ويقول الخلوفي، إن إيران رأت في الاحتلال الأميركي للعراق وتدمير القدرات الاستراتيجية لعدوها التقليدي، جائزة استراتيجية لها، خاصة في ظل صعود القوى الشيعية العراقية الموالية لإيران وانحسار المكون العروبي السني في العملية السياسية، وتدمير القدرات الاستراتيجية للدولة وتغيير ميزان القوى الإقليمي لصالح طهران؛ وهو ما حول بغداد لمعبر بري استراتيجي أوصل الإيرانيين إلى منطقة الخليج ومنطقة الهلال الخصيب والبحر المتوسط، وجعل مشروعهم يشهد نجاحات عديدة، فقد استطاعوا تحقيق نفوذ سياسي واقتصادي وأمني واسع داخل العراق، واستثمروا نفوذههم كورقة ضغط ضد أميركا، واستغلوا بغداد كساحة للالتفاف على العقوبات الأميركية، وباتوا الطرف الأقوى نفوذاً وحضوراً، الذي ترغب واشنطن في الحوار معه بشأن مستقبل العراق وتواجدهم العسكري فيه. ومن هنا تركز المشروع الآيديولوجي الإيراني على الحيلولة دون بروز عراق قوي ومستقل يمثل تهديداً لإيران، وحافظ على حكومة حليفة يسيطر عليها الشيعة، وعلى انشغال الولايات المتحدة في المستنقع العراقي لاستنزاف قوتها، واحتواء المشروع الأميركي في بغداد، وتوريطه في حرب استنزاف طويلة الأمد، وعدم إعطائه الفرصة لتكرار تجربة تغيير الأنظمة بالقوة في منطقة الشرق الأوسط.
وعليه، فإن احتلال أميركا للأراضي العراقية لا يمثل في وجهة نظر الخلوفي بداية الكارثة للعراق فحسب، بل بداية لكارثة لمنطقة العربية برمتها، بعد إزاحة الحاجز البري الذي يقف في وجه التمدد الإيراني إلى منطقة الخليج والهلال الخصيب، وتدمير الكفة الموازنة للقوة الإيرانية في ميزان القوى الإقليمي بعد أن تحولت بغداد إلى نظام تحكمه الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، وربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الإيراني، وإيجاد أسواق جديدة كبيرة لتصدير منتجاتها، وزيادة تبعية العراق لطهران اقتصادياً.