عندما هاجم داريوس، ملك بارثيا، المملكة السكيثية (Scythes)، تمنّع هؤلاء عن القتال المباشر، لا، بل انسحبوا نحو الشمال، معتمدين سياسة الأرض المحروقة خلال انسحابهم، مع إبقاء فاصل زمني ليوم واحد بين الجيشين أثناء السير. وكلما تقدم داريوس، رصده سلاح الفرسان الكشافة السكيثيون، ليستكمل انسحابهم نحو الشمال.
تكررت العملية لفترة طويلة بين الكر والفر. وعندها قرر داريوس أن يرسل مبعوثاً مع رسالة إلى ملك السكيثيين تتضمن ما يلي «يا ملك البؤس، لماذا تتهرب دون توقف؟ فإما أن تكون قوياً، وعليه توقف للمواجهة، أو أنك ضعيف جداً، فلتأتِ إلى ملكك بمملكة الماء».
رد عليه ملك السكيثيين بما يلي «الفرضية الأولى التي وضعتها هي الأصح. أما لماذا أتنقل باستمرار؛ فلأن التنقل وعدم الثبات هو طريقة حياتنا. أما لماذا لا أقاتل، فأنا لست مستعجلاً، لأنه ليس لدينا مدن، ولا حضارة ندافع عنها».
وبعد تكرار هذه العملية، استنزف جيش داريوس، فواجه المجاعة مرات عدة. انسحب داريوس ولم يستطع استعمال قواته المتفوقة عدداً وعدّة.
هل يمكن إسقاط هذه الحادثة التاريخية على ما يجري في أوكرانيا؟
امتدت المملكة السكيثية تاريخياً لتضم قسماً مهماً وكبيراً من أوكرانيا الحالية. إذن، قد تكون ثقافة القتال اللاتماثلي (Asymmetric) موجودة في جينات الأوكرانيين. لكن الأكيد أن جينات مقاتلي الكوزاك (Cossacks) لا تزال تجري في عروق الأوكرانيين، وحتى الروس؛ لأنهم من أصل سلافي. فالكوزاك شعب حر، لا يتقيد بمكان أو قائد. لكن في العام 1917، أعدم الآلاف من الكوزاك من قِبل الجيش الأحمر بعد محاكمتهم من محكمة الثورة البولشيفية.
- الهجوم العكسي الأوكراني في الجنوب والشرق
انتظرناهم من الجنوب فأتوا من الشرق. هكذا هي حالة الجيش الروسي بعد أكثر من ستة أشهر من الحرب. كان الهدف الأوكراني استرداد مدينة خيرسون، فتحققت الإنجازات التكتيكية حتى الآن حول مدينة خاركيف. يقول الرئيس الأوكراني، إن قواته استردت أكثر من 2000 كلم2.
فكيف تفسر هذه الإنجازات، وما هو الرد الممكن للرئيس بوتين؟
- تقول بعض المعلومات، إن الهجوم الأوكراني على خيرسون، كان للتغطية على الهجوم في الشرق. ألم يقل صان تسو «إن فن الحرب يقوم على الخداع»؟ فالهجوم على الجنوب سيجبر الروس على تدعيم قواتهم بالعديد والعتاد على حساب جبهة الشرق.
- لكن هذه العملية تتطلب مراقبة دقيقة ومستمرة لحركية القوات الروسية. بكلام آخر، استعلام تكتيكي دقيق. وتقول المعلومات، إن الولايات المتحدة الأميركية كانت المصدر الأساسي لهذه المعلومات، وذلك بالإضافة إلى مراقبة الجيش الأوكراني المستمرة للجبهات، والمعلومات من الأوكرانيين الذين لا يزالون تحت الاحتلال.
- يقول المفكر الاستراتيجي الأميركي ستيفن بيدل، إن الإنجازات في الحرب لا تقوم فقط على «الكم»، بل على الـ«كيف»، أي كيفية استعمال السلاح في ظروف معينة. وشكلت راجمات «الهايمرس» الحل السحري للجيش الأوكراني؛ لأنها ناسبت طريقة قتالهم، كما عاكست وبامتياز طريقة قتال الجيش الروسي. ويقول وزير الدفاع الأميركي، إن هذه الراجمات استطاعت تدمير ما يقارب 400 هدف، وكلها ذات قيمة استراتيجية مهمة للروس (مراكز القيادة، مخازن الذخيرة، والبنى التحتية اللوجيستية). وقد يمكن القول، إن الجيش الأوكراني استخرج من «الهايمرس» كل الفوائد العملانية، إلى الحد الأقصى.
- يعود سبب تعثر الجيش الروسي (أو فشله) إلى عوامل عدة متأصلة في الثقافة الاستراتيجية لهذا الجيش، وهي: النقص في العدد، المعضلة اللوجيستية، القيادة والسيطرة من فوق بطريقة جامدة، فشل القتال المشترك للقوات المتعددة مع بعضها بعضاً، وأخيراً وليس آخراً، القيادة السياسية الأعلى في الكرملين، التي تدير كل المستويات العسكرية حتى المستوى التكتيكي؛ إذ قيل أثناء المرحلة الأولى من الحرب على أوكرانيا، إن الرئيس بوتين كان يتدخل حتى في المستوى التكتيكي.
- حالة النكران التي يعيشها الكرملين، خاصة الرئيس بوتين. فحتى البارحة، وخلال خطاب اقتصادي له في مدينة فلاديفوستوك الروسية على المحيط الهادي، شدد الرئيس بوتين على أن روسيا لم تخسر وسوف تحقق كل الأهداف. لكن كيف يفسر استيراد المسيّرات من إيران، وذخيرة المدفعية والصواريخ من كوريا الشمالية؟
- خطر التقدم الأوكراني في الشرق (انظر الخريطة)
من خلال نظرة بسيطة على خريطة التقدم الأوكراني في الشرق، قد يمكن القول إن الهدف الأساسي للجيش الأوكراني هو عزل القوات الروسية في مدينة إزيوم عن خطوط المواصلات واللوجيستية... لكن كيف؟
- إن استرداد بلدة «بالكليا»، التي تقع شمال - غرب مدينة إزيوم، يضع القوات الأوكرانية على مسافة قريبة من إزيوم.
- إن السيطرة الأوكرانية على مدينة «كوبيانسك» هو تحول مهم جداً في مجرى معركة الشرق. فهي تشكل عقدة أساسية للسكك الحديدية (Hub). وتعدّ هذه العقدة كمركز ثقل لوجيستي أساسي للقوات الروسية في إزيوم، وهي تصل المدينة الروسية بلغورود، كما مدينة فاليوكي بالداخل الأوكراني، وحتى إزيوم.
- إذن، قد يمكن لاحقاً للجيش الأوكراني، إذا ما ثبت تقدمه، أن يقوم بما يلي: (انظر الخريطة) تطويق إزيوم، عزل الجيش الروسي هناك، ورد الجميل لما فعله الجيش الروسي بالجيش الأوكراني في مدينة سيفريدونتسك في إقليم لوغانسك.
- إن استرداد مدينة إزيوم، قد يعني تحرر مدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك، من هاجس التدمير الروسي، وبذلك يضرب مشروع بوتين الأساسي، وهو السيطرة الكاملة على الدونباس.
- كيف سيرد بوتين؟
قد يبدأ الرد بقصف عشوائي لكل المدن الأوكرانية، وبينها كييف، أو قد تعلن الحرب والتعبئة الروسية العامة، أو قد تفتح جبهة بيلاروسيا، أو قد تتم «الحركشة» بدول البلطيق الصغيرة والمنضوية تحت درع «الناتو».
أي الخيارات سيتخذ بوتين؟
إن غداً لناظره قريب...