عاشت الملكة إليزابيث حياتها وفقاً لتقاليد ملكية تعود لقرون، حافظت عليها وعاشت بموجبها حتى آخر لحظات حياتها حيث توفيت في قصرها محاطة بأقرب الناس لها. ولم تتوقف عجلة التقاليد الملكية بعد وفاتها بل استمرت حسب خطة محددة اتبعها الملك الجديد تشارلز بحذافيرها. بدا الملك الجديد مرهقاً وحزيناً حين عاد إلى لندن أول من أمس لقصر باكنغهام ليجد في تجمع الجمهور خارج أسوار القصر الكثير من العزاء وصافح صفوفاً من المعزين متنقلاً بينهم متقبلاً كلمات العزاء وربتات على اليد وحتى قبلة على الخد من امرأة مسنة أعربت عن حزنها بطريقتها، وبعد عشر دقائق تحول الملك وعقيلته ليتفحصا باقات الزهور التي تراكمت أمام البوابات، في لحظة بدا أنه يكتم دموعه وعلق أكثر من مرة لزوجته حول البطاقات المختلفة التي تركها الجمهور.
في كلمته المتلفزة الأولى تعهد أمام الشعب أن يكمل مسيرة والدته الراحلة وأعاد الالتزام بالقسم التي أخذتها الملكة الراحلة على نفسها منذ سبعين عاماً عندما تولت العرش قائلاً: «كما فعلت الملكة بتفانٍ ثابت أتـعهد أمامكم أن أحافظ على المبادئ الدستورية المتجذرة في قلب الأمة خلال العمر الذي يكتبه الله لي». وعبّر عن حزنه بعبارة مست قلوب الشعب مستعيناً بكلمات من شاعر بريطانيا الأشهر شكسبير حيث وجه كلماته لوالدته الراحلة: «أمي الحبيبة وأنت تبدئين رحلتك الأخيرة لتلحقي بأبي العزيز أريد أن أقول: شكرًا. لتصحبك الملائكة بأناشيدها وأنت تطيرين إلى السماء».
- تقاليد من القرن 16 إلى القرن 21
انتظم مجلس الجلوس على العرش أمس في قصر سانت جيمس بلندن للمرة الأولى منذ سبعين عاماً عندما تولت الملكة الراحلة، وقتها كان حدثاً مغلقاً في وجود مستشاري الملك وأهم رجال الدولة ورئيسة الوزراء الحالية إضافة إلى رؤساء الوزراء السابقين وأعضاء البرلمان ورئيس بلدية لندن مع غياب الملك تشارلز وإن كان ولي عهده الأمير ويليام حاضراً مع كاميلا عقيلة الملك. تبعاً للتقاليد انعقد المجلس في أقرب فرصة بعد وفاة الملكة. وقد أقيمت المراسم في قاعة خاصة بقصر سانت جيمس على مرحلتين، المرحلة الأولى غاب عنها تشارلز وقرأ كاتب المجلس اللورد رئيس المجلس، ريتشارد تيلبروك، بصوت عالٍ نص بيان التنصيب وهو نص تميز بصياغته الرسمية وبلغة تعود لقرون مضت «الأمير تشارلز فيليب آرثر جورج هو الآن، بوفاة جلالتها... ملكنا تشارلز الثالث... فليحفظ الرب الملك». وكرر المجتمعون «ليحفظ الرب الملك»، وهو ما تكرر على شرفة قصر سانت جيمس حيث تمت قراءة نص تولي الملك بينما اجتمع عدد كبير من الجمهور، منهم من أحضر أطفاله، في الساحة ليستمعوا للنشيد الوطني الجديد حيث تغير النص ليصبح: «ليحمِ الرب الملك»، عندها توقف مذيع بي بي سي قائلاً: «من الصعب التعود بسرعة على عدم وجود كلمة «الملكة» يثير غيابها غصة في الحلق». اللافت كان السماح لأفراد الجمهور الحضور في مراسم تأبين الملكة التي أقيمت أول من أمس بكنيسة سانت بول وأمس حين سمح لمن يحضر أولاً بالتواجد في ساحة بقصر سانت جيمس للاستماع لإعلان تنصيب الملك.
بعد الإعلان في قصر سانت جيمس، قادت فرقة عسكرية جنوداً ورجالاً يرتدون ملابس احتفالية يحملون الراية الملكية نحو مركز التجارة بمدينة لندن «رويال إكسشانج»، وهو أول مركز تجاري تم تشييده لهذا الغرض في العاصمة يعود تاريخه إلى عام 1566 حيث تمت قراءة الإعلان مرة أخرى. وكالمتبع أطلقت المدافع طلقاتها في هايد بارك وبرج لندن وقلعة إدنبره في اسكتلندا وقلعة هيلزبورا بإيرلندا الشمالية وقلعة كارديف بمقاطعة ويلز قبل عزف النشيد الوطني.
- التلفزيون ينقل للمرة الأولى
المراسم التي بثها عبر التلفزيون أدخلت المشاهدين للمرة الأولى في خضم مراسم ملكية تميزت بالبذخ وبالملابس الشرفية الرسمية، وبالتاريخ العريق. وبالنسبة لمعظم البريطانيين، كان هذا أول حدث من نوعه في حياتهم لأن إليزابيث كانت الملكة الوحيدة التي عرفوها على الإطلاق.
غير أن القديم والأصيل امتزج بالعصري وبالطريف أيضاً، حيث لفتت لحظة توقيع الوثائق الرسمية من قبل الملك الجديد الانتباه وخصوصاً حين حاول مناورة المحبرة التي وضعت على طاولة صغيرة مع علبة أقلام، المحبرة (هدية من ويليام وهاري لوالدهما) تحولت لعائق والتفت الملك للمساعدين لرفعها من فوق الطاولة. وعلق المغردون على أن الملك احتفظ بالقلم بعد التوقيع ما جعل ابنه الأمير ويليام يطلب قلماً آخر ليخط توقيعه هو الآخر.
يرى بعض المعلقين أن تلفزة بعض المشاهد من المراسم الخاصة هي أمر يريده الملك تشارلز لينقل الملكية إلى العالم المعاصر وبدا ذلك واضحاً أيضاً في تصوير أول لحظات من لقاء رئيسة الوزراء ليز تراس مع الملك ليلة أول من أمس. وقد جرت العادة على أن يكون اللقاء بين الملكة ورؤساء وزاراتها المتعاقبين أمراً خاصاً بينهما، وهو أمر حاولت معالجات درامية مختلفة التكهن بمجرياته، ولكن الفيلم القصير الذي عرض على التلفزيون البريطاني قرب الجمهور أكثر من ذلك اللقاء الأسبوعي الذي بدأ بإعلان حاجب يرتدي ملابس تقليدية عن وجود رئيسة الوزراء وقدمها، حاولت تراس أداء الانحناءة الخاصة التي تقوم بها النساء عادة أمام الملك، ولكنها بدت مرتبكة قليلاً ولم تستطع القيام بها بشكل مثالي، غير أن الملك صافحها، وشكرها على «لطفها» وتعزيتها، واصفاً لحظات مؤثرة عاشها أمام القصر مع المعزين قائلاً: «إنها اللحظة التي كنت دائماً أخشى حدوثها».
- عملية «يونيكورن»
بحسب الخطط الموضوعة لجنازة الملكة يتم الآن تفعيل «عملية يونيكورن» وهي الخطة التي تفعل في حال وفاة الملكة في بامورال باسكتلندا. وتبعاً للخطة سيتم نقل جثمانها اليوم إلى قصر هوليروود وهو المقر الرسمي للملكة في إدنبره وبعدها ينقل الجثمان إلى كنيسة سانت جايلز يوم غد الاثنين ويبقى هناك ليتمكن المواطنون من رؤيته، وبعدها سيتم نقله إلى كنيسة ويستمنستر حيث سيبقى لأربعة أيام قبل إقامة الجنازة.