كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»

تحت وطأة تهم الفساد والعداء السياسي داخلياً وخارجياً

كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»
TT

كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»

كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»

منذ ظهور «البيرونية» مع خوان دومينغو بيرون أواسط أربعينات القرن الماضي، لم تعرف الأرجنتين حركة سياسية منسوبة لعائلة حتى العام 2003 عندما ظهرت «الحركة الكيرشنيرية». هذه الحركة نهلت من مشارب «البيرونية»، وقامت على المعتقدات الأساسية لحكم الرئيس الأسبق نستور كيرشنير (حتى العام 2007) وزوجته كريستينا التي خلفته في الرئاسة إلى العام 2019. ومع كريستينا، عادت هذه الحركة إلى السلطة ضمن جبهة تقدمية واسعة جمعت بين أطياف التيار البيروني والنقابات التي تدور في فلكه.

في العام 2003 حل نستور كيرشنير ثانياً في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية، إلا أنه صعد إلى سدة الرئاسة بعدما قرر منافسه الرئيس الأسبق كارلوس منعم التنحي، والإحجام عن خوض الجولة الثانية. ولاحقاً، قبل نهاية ولاية الرئيس كيرشنير في العام 2007 أعلنت زوجته كريستينا فيرنانديز كيرشنير ترشحها للانتخابات الرئاسية التي فازت بها من الجولة الأولى بغالبية ساحقة، وخلفت زوجها لتغدو أول رئيسة منتخبة للأرجنتين.
منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم، لم تنقطع كريستينا كيرشنير عن إثارة الجدل في الأوساط السياسية في البلاد. إلا أنه بلغ ذروته مساء الثاني من سبتمبر (أيلول) الجاري عندما نجت بأعجوبة من محاولة اغتيال تعرضت لها على يد رجل برازيلي بعد أيام عاصفة من المظاهرات التي كان ينظمها أنصارها قرب منزلها في العاصمة بوينوس آيرس احتجاجاً على إحالتها مجدداً للمحاكمة بتهم الفساد المالي.

بداية المشوار

ولدت كريستينا فيرنانديز في مدينة تولوسا الصغيرة في ضواحي العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس عام 1953. وانطلق نشاطها السياسي على مقاعد كلية الحقوق في جامعة لابلاتا الوطنية عندما التحقت بـ«الشبيبة البيرونية» مطلع سبعينيات القرن الماضي. وهناك في الجامعة، تعرفت إلى رفيقها نستور في العام 1974 ليتزوجا بعد سنة ويؤسسا معاً مكتباً للمحاماة متخصصاً في الدفاع عن قضايا العمال، وأيضاً منتدىً سياسياً يحمل اسم الزعيم السابق الراحل خوان دومينغو بيرون.
وفي العام 1989، فازت كريستينا بأول منصب سياسي منتخب عندما دخلت برلمان مقاطعة سانتا كروز عن الحركة البيرونية. ثم فازت بعد ست سنوات بمقعد في مجلس الشيوخ الوطني عن المقاطعة نفسها التي كان زوجها نستور قد أصبح حاكماً لها.
في تلك الفترة كانت كريستينا من أشد المعارضين لحكومة كارلوس منعم ولقد خاضت معارك طويلة ضد المشاريع الاقتصادية الليبرالية التي أطلقها. ثم في العام 1997 فازت بمقعد في البرلمان الوطني ضمن ائتلاف يضم مجموعة من الأحزاب الموالية للحكومة، لكنها سرعان ما انشقت عن الائتلاف لتقود جبهة معارضة بعد إبعادها عن اللجان البرلمانية التي كانت تنتمي إليها. ومن ثم عادت إلى مجلس الشيوخ في العام 2001 لتتولى رئاسة لجنة الشؤون الدستورية التي أشرفت في تلك الفترة على مجموعة من الإصلاحات في النظام القضائي كان لها كبير الأثر في كشف تجاوزات الأنظمة العسكرية السابقة وملاحقة العديد من رموزها.
بعدها، في العام 2001 انتخبت مجدداً في مجلس الشيوخ عن العاصمة بوينوس آيرس، ثم تترشح بعد ذلك لرئاسة الجمهورية عام 2007 خلفاً لزوجها نستور الذي كان قد أعلن أنه لن يرشح نفسه لولاية ثانية لأسباب صحية.

«الرئيسة»... كيرشنير

كريستينا كيرشنير فازت بانتخابات الرئاسة عام 2007، واتسمت ولايتها الرئاسية الأولى بمواجهات شديدة مع النقابات العمالية التي كان بعضها قد لعب دوراً أساسياً في إيصالها إلى الرئاسة. كذلك واجهت سلسلة من الإضرابات في عدد من القطاعات الحيوية، وخاضت صراعاً طويلاً مع مجموعة «كلارين» التي تملك أهم وسائل الإعلام الأرجنتينية وأوسعها نفوذاً.
ولكن رغم الاضطرابات الشديدة التي شهدتها البلاد إبان ولايتها الأولى التي كانت حافلة بالصراعات السياسية الحادة بين التيارات البيرونية التي كانت تشكل دعامتها الانتخابية الأساسية، فإنها عادت لتفوز مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية عام 2011 من الجولة الأولى بما يزيد عن 54 في المائة من الأصوات، محققة بذلك رابع نتيجة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية.
وفي نهاية ولاية كريستينا الثانية عام 2015 أدرجتها مجلة «فوربس» الأميركية المرموقة على قائمة النساء الأوسع نفوذاً في العالم.

في تحالف جديد

وجاء العام 2017، وفيه خاضت الانتخابات العامة على رأس تحالف جديد يهدف إلى إنهاض التيار الكيرشنيري الذي كان يتصدع من الداخل عندما كانت كريستينا تواجه سلسلة من الملاحقات القضائية بسبب تهم الفساد خلال فترة توليها رئاسة الجمهورية. إلا أنها في العام 2019 فاجأت الأوساط السياسية بالاتفاق الذي عقدته مع البرتو فيرناديز، الساعد الأيمن سابقاً لزوجها ورئيس حكومتها الأولى الذي انشق عنها وكان من أشد معارضيها داخل الحركة البيرونية. وحقاً ترشح الاثنان إلى الانتخابات الرئاسية في فريق واحد، هو لمنصب الرئيس وهي لمنصب نائب الرئيس، وهذا مع علم الجميع مسبقاً، أنها هي التي ستكون فعلياً في موقع القيادة. وبالفعل، في الانتخابات التي أجريت ذلك العام، فاز ألبرتو فرنانديز وكريستينا كيرشنير بولاية رئاسية تمتد حتى نهاية العام المقبل.
هنا لا بد من الإشارة، إلى أنه بعد نهاية ولاية كريستينا كيرشنير الرئاسية الثانية في العام 2015، ومن ثم، سقوط حصانتها ضد الملاحقات القضائية، تسارعت وتيرة إعادة فتح ملفات الدعاوى التي كان معارضوها قد رفعوها ضدها في السنوات الماضية. ولكثرة هذه الملفات هددت كريستينا كيرشنير باللجوء إلى «الهيئة الأميركية لحقوق الإنسان» في حال استمرت ضدها تلك الحملة التي أطلقت عليها «المطاردة القضائية»، والتي جمعت حولها تياراً واسعاً من المؤيدين في مواجهة القوى والأحزاب اليمينية التي كانت تسعى إلى إدانتها. وكانت كيرشنير قد اتهمت الرئيس اليميني السابق ماوريسيو ماكري بأنه يقف وراء تلك الحملة للتغطية على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تواجه حكومته.

الملاحقات القضائية وتجميدها

في العام 2017 أصدرت المحكمة العليا قراراً بتجميد الملاحقات القضائية ضد الرئيسة السابقة، وطلبت إعادة النظر في القانون الذي كان صدر قبل أشهر والذي يجيز إعادة فتح الملفات القضائية ضدها. ومن بين أبرز القضايا التي كانت تلاحق كريستينا كيرشنير الاتهام الذي وجهته ضدها النيابة العامة مطلع العام 2015 بإجرائها مفاوضات، إلى جانب وزير خارجيتها آنذاك هيكتور تيمرمان، لتغطية المطلوبين في عملية تفجير المركز اليهودي في بوينوس آيرس وإفلاتهم من العقاب، وذلك تمهيداً لتوقيع «مذكرة التفاهم» مع إيران التي بموجبها تتعهد طهران بشراء كميات ضخمة من الحبوب واللحوم الأرجنتينية مقابل تزويد الأرجنتين بالنفط بأسعار تفضيلية.
وبعدما كان القضاء الأرجنتيني قد قرر إسقاط الدعوى لاعتباره أن «الفعل الجنائي لم يقع»، و«لأن مذكرة التفاهم مع إيران بقيت حبراً على ورق»، عادت محكمة النقض بعد سنتين وقررت إعادة تحريك الدعوى ضد كريستينا بتهمة الخيانة العظمى، بينما كان منسوب العنف السياسي في الأرجنتين يرتفع إلى مستويات لم تعرفها البلاد منذ 40 سنة.

محاولة الاغتيال

في هذه الأجواء المشحونة، وبينما كانت مظاهرات التأييد لكريستينا كيرشنير تتوالى منذ أيام أمام منزلها في العاصمة، ويرفع أنصارها شعارات منددة بالحملة التي تتعرض لها، وقعت محاولة الاغتيال التي دفعت جميع الأحزاب السياسية إلى التضامن معها، بيد أن التوتر في الشارع ظل يتصاعد مهدداً بفصول جديدة من العنف والمواجهات.
أنصار كيرشنير يوجهون أصابع الاتهام إلى المعارضة وإلى وسائل الإعلام بالتحريض ضد الرئيسة السابقة. إلا أن خصومها يزعمون أن محاولة الاغتيال كانت مسرحية مدبرة لإبعاد الأنظار عن الملاحقات القضائية التي تتعرض لها.
في أي حال، تعيش العاصمة الأرجنتينية هذه الأيام حالة من الذهول أمام هذه النقلة النوعية في المواجهات السياسية العنيفة التي أعادت إلى أذهان كثيرين المشاهد التي مهدت للانقلابات العسكرية، وأوصدت أبواب المؤسسات الديمقراطية على أبشع حقبة في التاريخ الأرجنتيني الحديث. كذلك استقطبت هذه الحادثة اهتمام الأوساط السياسية في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، بعدما كانت الأنظار مشدودة إلى الاستفتاء حول الدستور الجديد في تشيلي. وللعلم، كان الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز قد أعلن اليوم التالي لمحاولة الاغتيال عطلة وطنية ليتمكن المواطنون من التظاهر تضامناً مع نائبته، واصفاً الحادثة بأنها الأخطر منذ نهاية العهود الديكتاتورية.
في هذه الأثناء، يقول المقربون من كيرشنير إن نائبة الرئيس تتهم المعارضة اليمينية ووسائل الإعلام الكبرى بالتنسيق مع الولايات المتحدة لمحاصرتها بالملاحقات القضائية من أجل منعها من الترشح مجدداً للانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي هذا السياق ليس مستبعداً أن تعلن كيرشنير قريباً ترشحها للرئاسة، وخاصةً، بعد الخطاب الذي أدلته به يوم الثلاثاء الفائت وأكدت فيه أن «حزب القضاء» الذي قرر إقصائها عن المشهد السياسي لن يثنيها عن مواصلة مسيرتها حتى النهاية. ومما قالته أيضاً إن الملاحقات القضائية لا تستهدفها شخصياً بقدر ما تستهدف الحركة البيرونية، مسترجعة بذلك الحقبة الطويلة التي كانت الحركة محظورة خلال الحكم العسكري.

البيرونيون في الشوارع

وللمرة الأولى منذ سنوات عديدة، عاد البيرونيون إلى التظاهر في الشوارع تحت راية واحدة بعد عقود من التشرذم والصراعات الداخلية التي كان لكريستينا كيرشنير دور بارز في تأجيجها خلال السنوات الأخيرة.
ورغم الدعوات الكثيرة التي صدرت عن القيادات السياسية للتهدئة والتخفيف من حدة الخطاب السياسي، وإصرار أنصار كيرشنير على البقاء في الشارع حتى وقف الملاحقات القضائية ضدها، لم يطرأ أي تعديل على الجدول الزمني لجلسات المحاكمة في الدعوى الجارية ضد الرئيسة السابقة بتهمة الفساد. وبعد أربعة أيام على محاولة الاغتيال، استأنفت المحكمة جلسات الاستماع إلى هيئة الدفاع التي من المقرر أن تستمر حتى نهاية الشهر الجاري، لتفنيد التهم الموجهة إلى كيرشنير في ملف النيابة العامة الذي يشير إلى أنها «... كانت تدير إحدى أوسع شبكات الفساد التي شهدتها البلاد في تاريخها...».
وتحديداً، في مضبطة الدعوى التي أعدتها النيابة العامة، اتهام لكريستينا لكريشنير بتنظيم شبكة للانتفاع الشخصي المباشر من مبالغ ضخمة من المال العام كانت مخصصة لمشاريع البنى التحتية في مقاطعة سانتا كروز، التي تعتبر مهد الحركة الكيرشنرية.
ومن المنتظر أن يصدر الحكم النهائي في قضية الفساد المرفوعة ضد الرئيسة السابقة قبل نهاية العام الجاري، وعندها سيكون للقرار القضائي - سواءً في حال الإدانة أو التبرئة - تأثير مباشر على قرارها الترشح لولاية رئاسية ثالثة في الانتخابات المقرر أن تجرى أواخر العام المقبل.
أخيراً، في حين تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن 70 في المائة من الأرجنتينيين يعتبرون أن كيرشنير ضالعة في قضايا الفساد المرفوعة ضدها، فهي حتى في حال إدانتها، لن تساق إلى السجن، وذلك لأن منصبها كنائب رئيس الجمهورية يمنحها حصانة ضد التوقيف والاعتقال. بناءً عليه، لا بد من محاكمة سياسية لعزلها وتجريدها من المنصب.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».