كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»

تحت وطأة تهم الفساد والعداء السياسي داخلياً وخارجياً

كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»
TT

كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»

كريستينا كيرشنير... أمام تحدي الحفاظ على إرث الأرجنتين «البيروني»

منذ ظهور «البيرونية» مع خوان دومينغو بيرون أواسط أربعينات القرن الماضي، لم تعرف الأرجنتين حركة سياسية منسوبة لعائلة حتى العام 2003 عندما ظهرت «الحركة الكيرشنيرية». هذه الحركة نهلت من مشارب «البيرونية»، وقامت على المعتقدات الأساسية لحكم الرئيس الأسبق نستور كيرشنير (حتى العام 2007) وزوجته كريستينا التي خلفته في الرئاسة إلى العام 2019. ومع كريستينا، عادت هذه الحركة إلى السلطة ضمن جبهة تقدمية واسعة جمعت بين أطياف التيار البيروني والنقابات التي تدور في فلكه.

في العام 2003 حل نستور كيرشنير ثانياً في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية، إلا أنه صعد إلى سدة الرئاسة بعدما قرر منافسه الرئيس الأسبق كارلوس منعم التنحي، والإحجام عن خوض الجولة الثانية. ولاحقاً، قبل نهاية ولاية الرئيس كيرشنير في العام 2007 أعلنت زوجته كريستينا فيرنانديز كيرشنير ترشحها للانتخابات الرئاسية التي فازت بها من الجولة الأولى بغالبية ساحقة، وخلفت زوجها لتغدو أول رئيسة منتخبة للأرجنتين.
منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم، لم تنقطع كريستينا كيرشنير عن إثارة الجدل في الأوساط السياسية في البلاد. إلا أنه بلغ ذروته مساء الثاني من سبتمبر (أيلول) الجاري عندما نجت بأعجوبة من محاولة اغتيال تعرضت لها على يد رجل برازيلي بعد أيام عاصفة من المظاهرات التي كان ينظمها أنصارها قرب منزلها في العاصمة بوينوس آيرس احتجاجاً على إحالتها مجدداً للمحاكمة بتهم الفساد المالي.

بداية المشوار

ولدت كريستينا فيرنانديز في مدينة تولوسا الصغيرة في ضواحي العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس عام 1953. وانطلق نشاطها السياسي على مقاعد كلية الحقوق في جامعة لابلاتا الوطنية عندما التحقت بـ«الشبيبة البيرونية» مطلع سبعينيات القرن الماضي. وهناك في الجامعة، تعرفت إلى رفيقها نستور في العام 1974 ليتزوجا بعد سنة ويؤسسا معاً مكتباً للمحاماة متخصصاً في الدفاع عن قضايا العمال، وأيضاً منتدىً سياسياً يحمل اسم الزعيم السابق الراحل خوان دومينغو بيرون.
وفي العام 1989، فازت كريستينا بأول منصب سياسي منتخب عندما دخلت برلمان مقاطعة سانتا كروز عن الحركة البيرونية. ثم فازت بعد ست سنوات بمقعد في مجلس الشيوخ الوطني عن المقاطعة نفسها التي كان زوجها نستور قد أصبح حاكماً لها.
في تلك الفترة كانت كريستينا من أشد المعارضين لحكومة كارلوس منعم ولقد خاضت معارك طويلة ضد المشاريع الاقتصادية الليبرالية التي أطلقها. ثم في العام 1997 فازت بمقعد في البرلمان الوطني ضمن ائتلاف يضم مجموعة من الأحزاب الموالية للحكومة، لكنها سرعان ما انشقت عن الائتلاف لتقود جبهة معارضة بعد إبعادها عن اللجان البرلمانية التي كانت تنتمي إليها. ومن ثم عادت إلى مجلس الشيوخ في العام 2001 لتتولى رئاسة لجنة الشؤون الدستورية التي أشرفت في تلك الفترة على مجموعة من الإصلاحات في النظام القضائي كان لها كبير الأثر في كشف تجاوزات الأنظمة العسكرية السابقة وملاحقة العديد من رموزها.
بعدها، في العام 2001 انتخبت مجدداً في مجلس الشيوخ عن العاصمة بوينوس آيرس، ثم تترشح بعد ذلك لرئاسة الجمهورية عام 2007 خلفاً لزوجها نستور الذي كان قد أعلن أنه لن يرشح نفسه لولاية ثانية لأسباب صحية.

«الرئيسة»... كيرشنير

كريستينا كيرشنير فازت بانتخابات الرئاسة عام 2007، واتسمت ولايتها الرئاسية الأولى بمواجهات شديدة مع النقابات العمالية التي كان بعضها قد لعب دوراً أساسياً في إيصالها إلى الرئاسة. كذلك واجهت سلسلة من الإضرابات في عدد من القطاعات الحيوية، وخاضت صراعاً طويلاً مع مجموعة «كلارين» التي تملك أهم وسائل الإعلام الأرجنتينية وأوسعها نفوذاً.
ولكن رغم الاضطرابات الشديدة التي شهدتها البلاد إبان ولايتها الأولى التي كانت حافلة بالصراعات السياسية الحادة بين التيارات البيرونية التي كانت تشكل دعامتها الانتخابية الأساسية، فإنها عادت لتفوز مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية عام 2011 من الجولة الأولى بما يزيد عن 54 في المائة من الأصوات، محققة بذلك رابع نتيجة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية.
وفي نهاية ولاية كريستينا الثانية عام 2015 أدرجتها مجلة «فوربس» الأميركية المرموقة على قائمة النساء الأوسع نفوذاً في العالم.

في تحالف جديد

وجاء العام 2017، وفيه خاضت الانتخابات العامة على رأس تحالف جديد يهدف إلى إنهاض التيار الكيرشنيري الذي كان يتصدع من الداخل عندما كانت كريستينا تواجه سلسلة من الملاحقات القضائية بسبب تهم الفساد خلال فترة توليها رئاسة الجمهورية. إلا أنها في العام 2019 فاجأت الأوساط السياسية بالاتفاق الذي عقدته مع البرتو فيرناديز، الساعد الأيمن سابقاً لزوجها ورئيس حكومتها الأولى الذي انشق عنها وكان من أشد معارضيها داخل الحركة البيرونية. وحقاً ترشح الاثنان إلى الانتخابات الرئاسية في فريق واحد، هو لمنصب الرئيس وهي لمنصب نائب الرئيس، وهذا مع علم الجميع مسبقاً، أنها هي التي ستكون فعلياً في موقع القيادة. وبالفعل، في الانتخابات التي أجريت ذلك العام، فاز ألبرتو فرنانديز وكريستينا كيرشنير بولاية رئاسية تمتد حتى نهاية العام المقبل.
هنا لا بد من الإشارة، إلى أنه بعد نهاية ولاية كريستينا كيرشنير الرئاسية الثانية في العام 2015، ومن ثم، سقوط حصانتها ضد الملاحقات القضائية، تسارعت وتيرة إعادة فتح ملفات الدعاوى التي كان معارضوها قد رفعوها ضدها في السنوات الماضية. ولكثرة هذه الملفات هددت كريستينا كيرشنير باللجوء إلى «الهيئة الأميركية لحقوق الإنسان» في حال استمرت ضدها تلك الحملة التي أطلقت عليها «المطاردة القضائية»، والتي جمعت حولها تياراً واسعاً من المؤيدين في مواجهة القوى والأحزاب اليمينية التي كانت تسعى إلى إدانتها. وكانت كيرشنير قد اتهمت الرئيس اليميني السابق ماوريسيو ماكري بأنه يقف وراء تلك الحملة للتغطية على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تواجه حكومته.

الملاحقات القضائية وتجميدها

في العام 2017 أصدرت المحكمة العليا قراراً بتجميد الملاحقات القضائية ضد الرئيسة السابقة، وطلبت إعادة النظر في القانون الذي كان صدر قبل أشهر والذي يجيز إعادة فتح الملفات القضائية ضدها. ومن بين أبرز القضايا التي كانت تلاحق كريستينا كيرشنير الاتهام الذي وجهته ضدها النيابة العامة مطلع العام 2015 بإجرائها مفاوضات، إلى جانب وزير خارجيتها آنذاك هيكتور تيمرمان، لتغطية المطلوبين في عملية تفجير المركز اليهودي في بوينوس آيرس وإفلاتهم من العقاب، وذلك تمهيداً لتوقيع «مذكرة التفاهم» مع إيران التي بموجبها تتعهد طهران بشراء كميات ضخمة من الحبوب واللحوم الأرجنتينية مقابل تزويد الأرجنتين بالنفط بأسعار تفضيلية.
وبعدما كان القضاء الأرجنتيني قد قرر إسقاط الدعوى لاعتباره أن «الفعل الجنائي لم يقع»، و«لأن مذكرة التفاهم مع إيران بقيت حبراً على ورق»، عادت محكمة النقض بعد سنتين وقررت إعادة تحريك الدعوى ضد كريستينا بتهمة الخيانة العظمى، بينما كان منسوب العنف السياسي في الأرجنتين يرتفع إلى مستويات لم تعرفها البلاد منذ 40 سنة.

محاولة الاغتيال

في هذه الأجواء المشحونة، وبينما كانت مظاهرات التأييد لكريستينا كيرشنير تتوالى منذ أيام أمام منزلها في العاصمة، ويرفع أنصارها شعارات منددة بالحملة التي تتعرض لها، وقعت محاولة الاغتيال التي دفعت جميع الأحزاب السياسية إلى التضامن معها، بيد أن التوتر في الشارع ظل يتصاعد مهدداً بفصول جديدة من العنف والمواجهات.
أنصار كيرشنير يوجهون أصابع الاتهام إلى المعارضة وإلى وسائل الإعلام بالتحريض ضد الرئيسة السابقة. إلا أن خصومها يزعمون أن محاولة الاغتيال كانت مسرحية مدبرة لإبعاد الأنظار عن الملاحقات القضائية التي تتعرض لها.
في أي حال، تعيش العاصمة الأرجنتينية هذه الأيام حالة من الذهول أمام هذه النقلة النوعية في المواجهات السياسية العنيفة التي أعادت إلى أذهان كثيرين المشاهد التي مهدت للانقلابات العسكرية، وأوصدت أبواب المؤسسات الديمقراطية على أبشع حقبة في التاريخ الأرجنتيني الحديث. كذلك استقطبت هذه الحادثة اهتمام الأوساط السياسية في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، بعدما كانت الأنظار مشدودة إلى الاستفتاء حول الدستور الجديد في تشيلي. وللعلم، كان الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز قد أعلن اليوم التالي لمحاولة الاغتيال عطلة وطنية ليتمكن المواطنون من التظاهر تضامناً مع نائبته، واصفاً الحادثة بأنها الأخطر منذ نهاية العهود الديكتاتورية.
في هذه الأثناء، يقول المقربون من كيرشنير إن نائبة الرئيس تتهم المعارضة اليمينية ووسائل الإعلام الكبرى بالتنسيق مع الولايات المتحدة لمحاصرتها بالملاحقات القضائية من أجل منعها من الترشح مجدداً للانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي هذا السياق ليس مستبعداً أن تعلن كيرشنير قريباً ترشحها للرئاسة، وخاصةً، بعد الخطاب الذي أدلته به يوم الثلاثاء الفائت وأكدت فيه أن «حزب القضاء» الذي قرر إقصائها عن المشهد السياسي لن يثنيها عن مواصلة مسيرتها حتى النهاية. ومما قالته أيضاً إن الملاحقات القضائية لا تستهدفها شخصياً بقدر ما تستهدف الحركة البيرونية، مسترجعة بذلك الحقبة الطويلة التي كانت الحركة محظورة خلال الحكم العسكري.

البيرونيون في الشوارع

وللمرة الأولى منذ سنوات عديدة، عاد البيرونيون إلى التظاهر في الشوارع تحت راية واحدة بعد عقود من التشرذم والصراعات الداخلية التي كان لكريستينا كيرشنير دور بارز في تأجيجها خلال السنوات الأخيرة.
ورغم الدعوات الكثيرة التي صدرت عن القيادات السياسية للتهدئة والتخفيف من حدة الخطاب السياسي، وإصرار أنصار كيرشنير على البقاء في الشارع حتى وقف الملاحقات القضائية ضدها، لم يطرأ أي تعديل على الجدول الزمني لجلسات المحاكمة في الدعوى الجارية ضد الرئيسة السابقة بتهمة الفساد. وبعد أربعة أيام على محاولة الاغتيال، استأنفت المحكمة جلسات الاستماع إلى هيئة الدفاع التي من المقرر أن تستمر حتى نهاية الشهر الجاري، لتفنيد التهم الموجهة إلى كيرشنير في ملف النيابة العامة الذي يشير إلى أنها «... كانت تدير إحدى أوسع شبكات الفساد التي شهدتها البلاد في تاريخها...».
وتحديداً، في مضبطة الدعوى التي أعدتها النيابة العامة، اتهام لكريستينا لكريشنير بتنظيم شبكة للانتفاع الشخصي المباشر من مبالغ ضخمة من المال العام كانت مخصصة لمشاريع البنى التحتية في مقاطعة سانتا كروز، التي تعتبر مهد الحركة الكيرشنرية.
ومن المنتظر أن يصدر الحكم النهائي في قضية الفساد المرفوعة ضد الرئيسة السابقة قبل نهاية العام الجاري، وعندها سيكون للقرار القضائي - سواءً في حال الإدانة أو التبرئة - تأثير مباشر على قرارها الترشح لولاية رئاسية ثالثة في الانتخابات المقرر أن تجرى أواخر العام المقبل.
أخيراً، في حين تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن 70 في المائة من الأرجنتينيين يعتبرون أن كيرشنير ضالعة في قضايا الفساد المرفوعة ضدها، فهي حتى في حال إدانتها، لن تساق إلى السجن، وذلك لأن منصبها كنائب رئيس الجمهورية يمنحها حصانة ضد التوقيف والاعتقال. بناءً عليه، لا بد من محاكمة سياسية لعزلها وتجريدها من المنصب.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
TT

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، ستنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان، في ظل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يخوض «حرباً ستكون طويلة لتغيير خريطة الشرق الأوسط». ومع ذلك، كانت معظم التحليلات تتكلّم عن «مأزق» إسرائيل «المأزومة»، وعن خلافاتها في الداخل ومع الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة، ما سمح للبعض بالترويج أن أهداف هذه الحرب لم تتحقق، وقد لا تتحقق، سواء في غزة والأراضي الفلسطينية، أو في لبنان. لكن على أرض الواقع، كان من الواضح أن ما حقّقته إسرائيل حتى الآن من حربها على غزة يتجاوز كثيراً الردّ على «هجوم أكتوبر».

بعدما نجحت إسرائيل في تعزيز «صورة» ربط حربها التهجيرية في غزة بأنها «صراع وجود» مع إيران وأذرعها الساعين إلى تدميرها، وفّرت تلك الحرب للإسرائيليين أيضاً غطاءً دولياً واسعاً، ليس لإطالة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين فقط، بل الانتقال أيضاً إلى حرب إبادة أخرى ضد لبنان.

هذا الأمر طرح تساؤلات عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه أهداف إسرائيل، وعمّا إذا كانت حربها لتغيير «المشهد الإقليمي» ممكنة من دون موافقة أميركية. بيد أن الوقوف على المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على سياسة واشنطن يظهر تغييراً كبيراً في مقاربتها ونظرتها تجاه إيران، مع التغييرات التي طرأت على المشهد الدولي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

«فرصة استراتيجية» لأميركا

قبل الدخول في ما عدّه البعض «تجاهلاً» من تل أبيب للمساعي الأميركية لفرض وقف لإطلاق النار في حربها المتصاعدة ضد «حزب الله»، روّجت تحليلات العديد من الصحف الأميركية ولا تزال لـ«خلافات» بين واشنطن وتل أبيب. إلا أن دينيس روس، المبعوث الرئاسي السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، رأى أن ما جرى حتى الآن «يُعد فرصة استراتيجية لأميركا، ليس لتغيير المنطقة فقط، بل تغيير الوضع في لبنان أيضاً بعد اغتيال حسن نصر الله وإضعاف (حزب الله)». وخلال ندوة في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، حضرتها «الشرق الأوسط»، يوم الأربعاء، وشاركت فيها دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب، أضاف روس: «بات بمقدور أميركا اتخاذ إجراءات رادعة مباشرة، ليس ضد إيران فقط، بل المشاركة قبل ذلك في ضرب أذرعها مباشرة وملاحقتهم».

وبحسب روس، فإنه بعدما تمكّنت إسرائيل من ضرب و«تحييد» الخطر الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»، يمكن لواشنطن الآن «ضرب وملاحقة الحوثيين، كإشارة إلى أننا قادرون على تعريض ما نعتقده نحن مصالح مهمة لها، وخصوصاً برنامجها النووي، وليس المصالح التي تعتقد إيران أنها مهمة بالنسبة لها فقط».

تغيير مسار المنطقة

من جهتها، قالت سترول، إن إرسال الأصول العسكرية الأميركية، منذ اندلاع الحرب قبل نحو سنة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة «لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً». وأضافت: «كل الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى الآن، بما فيها تصفية قوة (حماس) وضرب (حزب الله) وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها. لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد 7 أكتوبر».

من ناحيته، قال شينكر: «ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة». وأردف أنه بمعزل عن الإدارة الجديدة التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترمب، لا شك أنه «سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي». وأكد أن أميركا «ستلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان».

وهكذا، أمام هذه «الرؤية» التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على اعتباره إذعاناً وارتباكاً أميركياً أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة «التحولات» التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.

تقديرات مختلفة للحرب في لبنان

كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها «العملية» العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد «حزب الله»، وعن قدراته العسكرية الحقيقية التي جرى تضخيمها. ولكن، بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات، انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها - بزخم مذهل - إلى إضعاف «حزب الله». وهو ما بدا أنه يتناسب مع نمط إدارة بايدن، التي لطالما تدرّجت في التعبير عن مواقفها من الأحداث السياسية الخارجية.

إذ بعدما تحثّ إسرائيل على لجم اندفاعاتها، كانت لا تلبث أن تتراجع لاحقاً. وبعدما أوضح بايدن رغبته في «الوقف الفوري» للقتال في لبنان، وتحفّظه عن التوغّل البرّي، ظهر انقسام بين المسؤولين الأميركيين حول «الحكمة» من الحملة الإسرائيلية ضد «حزب الله»، خاصة منذ مقتل زعيمه حسن نصر الله، في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي. ففي حين ركّز البعض كثيراً على المخاطر، قال آخرون إنه إذا أمكن توجيه ضربة قوية للحزب من دون إثارة صراع إقليمي أوسع يجذب إيران فإن ذلك قد يُعدّ نجاحاً.

واليوم، يذهب كثيرون إلى القول إن وجهة النظر الأخيرة هي التي تغلبت في النهاية، وعبّرت عنها تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، «غير المعهودة» من كبير الدبلوماسيين، حين تكلّم عن «العدالة» التي نفّذت بحق نصر الله.

الضغط العسكري يدعم الدبلوماسية

يوم الاثنين الماضي، قال ماثيو ميللر، الناطق باسم الخارجية للصحافيين: «نحن بالطبع نواصل دعم وقف إطلاق النار، ولكن في الوقت نفسه، هناك أمران آخران صحيحان أيضاً: الضغط العسكري يمكن في بعض الأحيان أن يمكّن الدبلوماسية. وطبعاً، قد يؤدي أيضاً إلى سوء التقدير... يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة، ونحن نتحادث مع إسرائيل حول كل هذه العوامل الآن».

وحقاً، حتى الاتفاق الذي قيل إنه حصل بين أميركا وفرنسا وإسرائيل ودول عدة توصُّلاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، لمدة 3 أسابيع، بدا أن واشنطن قد تخلت عنه.

هذا ما بدا بعدما رأى مسؤولون في إدارة بايدن أن إسرائيل تحاول توجيه ضربة حاسمة لـ«حزب الله» عبر اغتيال زعيمه، بعد الضربات الساحقة التي نفّذتها على امتداد الأشهر الماضية، وتوجّت بما سُمي بهجوم «البيجر»، وبتصفية العديد من قياداته العليا والوسطى.

ورغم اتهام بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي عاد عن الاتفاق الذي وافق عليه، فإن «الصمت» الأميركي الذي تلا اغتيال نصر الله، كاد يؤدي إلى تأجيل حتى إلغاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، التي أصرّ قصر الإليزيه عليها في نهاية المطاف، تعبيراً عن «غضب» فرنسا، الذي قابلته إسرائيل بقصف هدف في العاصمة بيروت، للمرة الأولى يوم الأحد الماضي.

الحسم في تفكيك بنية «حزب الله»

بعدها، يوم الاثنين، في إشارة واضحة لحسم التردد ودعم العملية الإسرائيلية، قال «البنتاغون» إن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «على ضرورة تفكيك البنية التحتية الهجومية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، لضمان عجز (حزب الله) عن شنّ هجمات على غرار هجمات 7 أكتوبر على المجتمعات الإسرائيلية في تلك المنطقة». وأردف «البنتاغون» أن أوستن «راجع التطورات الأمنية والعمليات الإسرائيلية» مع غالانت، وأكد مجدداً «دعم الولايات المتحدة لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران و(حزب الله) و(حماس) والحوثيين وغيرها من المنظمات الإرهابية المدعومة من إيران».

ورغم تأكيد أوستن على أهمية «التحول في نهاية المطاف من العمليات العسكرية إلى المسار الدبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن»، فإنه أوضح أن واشنطن في وضع جيد للدفاع عن أفرادها وشركائها وحلفائها في مواجهة تهديدات إيران والمنظمات الإرهابية المدعومة منها، وأنها عازمة على منع أي جهة فاعلة من استغلال التوترات أو توسيع الصراع. كذلك ناقش أوستن مع غالانت ما سمّاه «العواقب الوخيمة» التي ستتحمّلها إيران في حال اختارت شنّ هجوم عسكري مباشر ضد إسرائيل.

ومقابل تركيز إدارة بايدن كثيراً من مساعيها منذ ما يقرب من سنة على منع التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»، أعجب بعض المسؤولين بالإنجازات الإسرائيلية. ومع شلل الحزب وتراجع قدراته «الإقليمية»، بات هؤلاء يعتقدون أن الوضع بات الآن مختلفاً تماماً، مشيرين إلى أن إسرائيل في أقوى موقف لها منذ بدأ الجانبان تبادل إطلاق النار منذ 8 أكتوبر بعد فتح «جبهة الإسناد» لغزة.

ولكن، مع ذلك، قال مسؤولون كبار إنهم كانوا ينصحون إسرائيل بألّا تشنّ غزواً برّياً للبنان، ويحذرون من أن خطوة كهذه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، تتمثّل ببناء الدعم السياسي لـ«حزب الله» داخل لبنان وإطلاق العنان لعواقب غير متوقعة على المدنيين والتدخل الإيراني.

لا كلام عن وقف التصعيد

من جهة ثانية، مع الهجمات الصاروخية الإيرانية «المحسوبة» ضد إسرائيل، رداً على قتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله، بدا لافتاً أن الرئيس بايدن لم يتكلّم - للمرة الأولى - عن ضرورة «وقف التصعيد» و«ضبط النفس». بل العكس، أكّد أن واشنطن «تدعم بالكامل» إسرائيل بعد الهجوم الذي جرى صدّه بدعم أميركي و«أثبت انعدام فاعليته»، وأن المناقشات مستمرة مع إسرائيل بشأن الردّ، مضيفاً أن «العواقب على إيران لم تُحدد بعد».

موقف بايدن لم يكن وحيداً، إذ اندفع المشرّعون الأميركيون من الحزبين مؤيدين مواقف أكثر حزماً من إيران، وداعين إلى تبني سلسلة من التدابير المحددة والمصمّمة لشلّ القوى العسكرية لطهران ووكلائها، وإلى تمرير تمويل إضافي لإسرائيل في أعقاب هجوم إيران.

وبالفعل، يرى كثرة من المسؤولين الأميركيين اليوم، أن إدارة بايدن تحوّلت من محاولة منع اتساع حرب غزة إلى إدارة «الحرب الشاملة»، في ظل رؤية غدت موحّدة مع إسرائيل تجاه الأهداف المأمول تنفيذها. وتساءلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن المدى الذي يمكن أن تبلغه الحرب، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستنخرط فيها بشكل مباشر، في ظل مخاوف من احتمال أن ترد إسرائيل على صواريخ إيران باستهداف منشآتها النووية، ما قد يؤدي إلى خروج الحرب عن السيطرة.

لكن بايدن عاد وأوضح، يوم الأربعاء، أنه لا يدعم أي استهداف إسرائيلي للبرنامج النووي الإيراني، فاتحاً المجال أمام تكهنات عن بدء مفاوضات للتوصل إلى تسوية بين الطرفين. وهذا، بالتوازي مع تقديم مزيد من المساعدات لإسرائيل لإنهاء الحرب ضد «حماس» في غزة، والتصدّي للهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في اليمن ضد إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر والمضائق الدولية القريبة، ودعم غزوها البرّي للبنان «لتفكيك البنية التحتية» لـ«حزب الله».

تساؤلات مع تغيير أميركا نبرتها واستراتيجيتها

> وسط تحذيرات من أن يكون لبنان هو ساحة «الحرب الشاملة» بين إسرائيل وإيران، أشار مسؤول أميركي كبير إلى المشاورات الواسعة النطاق مع إسرائيل، بما في ذلك مع مكتب بنيامين نتنياهو لصوغ الاستجابة المناسبة، من دون أن يشير إلى «الخلافات» القديمة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو على طريقة تعامل إسرائيل مع حرب غزة، وانتقال المعركة إلى لبنان. وأضاف المسؤول: «لكن بعد دخول إيران المعركة بشكل مباشر، التي تشكل (تهديداً مدمراً) لإسرائيل، تغيّرت نبرة أميركا واستراتيجيتها». أما «النيويورك تايمز» فنقلت عن جوناثان بانيكوف، مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي»، قوله إن «الحرب الشاملة حتى الحرب الأكثر محدودية، يمكن أن تكون مدمّرة للبنان وإسرائيل والمنطقة. ولكن من خلالها ستأتي فرص غير متوقعة أيضاً لتقويض النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة، من خلال عرقلة جهودها لإعادة تشكيل (حزب الله)، مثلاً. وبالتالي، ينبغي للإدارة الجديدة أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرص». لكن مع المفاجأة التي تعرّضت لها إسرائيل أخيراً خلال «توغّلاتها» البرّية، وسقوط العديد من جنودها بين قتيل وجريح من قبل مقاتلي (حزب الله)، طرح العديد من التساؤلات... منها عمّا إذا كانت ستعيد النظر بخططها العسكرية وبحساباتها فيما يتعلق بكيفية إقامتها «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 1701؟ وأيضاً، هل ستكثّف قصفها الوحشي والتدميري، بما يؤدي بتلك التوغّلات إلى احتلال جديد، أو تحويل المنطقة إلى «أرض محروقة»؟ وهل سيكون متاحاً مرة أخرى أمام الحزب واللبنانيين عموماً، إعادة تنظيم «مقاومة» ما، على قاعدة توافق سياسي ينهي سلطة «حزب الله» لمصلحة الدولة... أم أن المقوّمات مستعصية في ظل الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان؟