نظرة إلى مسيرة الحركة البيرونية

كانت الحركة البيرونية منذ نشأتها مصدراً غزيراً للمشاعر والانفعالات المتطرفة والمتضاربة التي ما زالت إلى اليوم ترخي بظلالها على المشهد السياسي والاجتماعي في الأرجنتين. ويكفي التذكير بالغارة التي شنتها طائرات سلاح البحرية على تظاهرة بيرونية حاشدة في وسط بوينوس آيرس عام 1955 وادت إلى وقوع 308 قتلى وآلاف الجرحى، أو بالولع الذي ما زال يشعر به الكثير من الأرجنتينيين تجاه إيفا بيرون «إيفيتا»، الزوجة الأولى لمؤسس الحركة، وما دار من مسرحيات وأفلام سينمائية وكتب حول شخصيتها.
نشأت هذه الحركة السياسية الشعبوية في أربعينيات القرن الماضي على يد خوان دومينغو بيرون، العسكري الذي تولى رئاسة الأرجنتين ثلاث مرات بين العامين 1946 و1974. وهي حركة تقوم على الدفاع عن العدالة الاجتماعية وحقوق العمال، وإعطاء الدولة الدور الأساسي في إدارة الاقتصاد وممارسة السيادة السياسية والاقتصادية، بعكس السياسات الإمبريالية التي كانت سائدة في شبه القارة الأميركية اللاتينية. كان بيرون قد بدأ مسيرته السياسية كوزير للعمل باتخاذ قرارات كانت تعتبر ثورية يومذاك، منها: اعتراف الدولة بالاتفاقات الجماعية المعقودة بين العمال وأصحاب العمل، ووضع قانون ينظم العمل في القطاع الزراعي، وتعويضات للمصابين في حوادث خلال فترة العمل، ومعاشات تقاعدية للعديد من المهن الحرة. وادت تلك التدابير إلى ارتفاع شعبيته بسرعة، وارتقى إلى مناصب أعلى في الحكومة العسكرية التي كانت قد استولت على الحكم في العام 1943. إذ تولى منصب وزير الدفاع ثم منصب نائب الرئيس، قبل أن يتخذ الرئيس الفعلي أدلنيرو فاريل قراراً بعزله من منصبه وتجريده من صلاحياته، ثم أمر باعتقاله في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1945 في جزيرة مارتين غارسيا.
ولكن بعد خمسة أيام من إدخاله السجن، خرجت مظاهرة شعبية حاشدة في وسط العاصمة تطالب بالإفراج عنه، ما اضطر الحكومة العسكرية إلى إطلاق سراحه بعد حصوله على وعد بإجراء انتخابات عامة حرة، وهذا بينما كانت شعبيته ترتفع في جميع أنحاء البلاد لتنشأ معها الحركة السياسية التي تحمل اسمه.
شعبية بيرون بلغت ذروتها حقاً عندما ترشح للانتخابات الرئاسية في العام التالي، وفي هذه الانتخابات حقق فوزاً ساحقاً على تحالف واسع من الراديكاليين والمحافظين والاشتراكيين والشيوعيين ليبدأ ولايته الأولى كرئيس للجمهورية.
شكلت الولايتان الأولى والثانية من رئاسة خوان بيرون ما يعرف بـ«البيرونية الأولى» - أو الكلاسيكية - التي تميزت بتدخل واسع ومباشر للدولة في إعادة توزيع الثروة، وتأميم القطاعات الإنتاجية الأساسية، وتصنيع قطاعات مثل الحربي والنقل والنسيج والصلب. أما على الصعيد الدولي فقد وقفت «البيرونية الأولى» على مسافة واحدة من الكتلتين الرأسمالية والاشتراكية في الحرب الباردة، وحافظت على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
فيما بعد، على أثر سقوط بيرون ومنعه من مزاولة النشاط السياسي ونفيه في العام 1955، ظهرت تيارات سياسية عديدة داخل الحركة البيرونية، مثل «البيرونية الجديدة»، و«البيرونية النقابية»، و«اليسار البيروني» الذي تفرعت عنه ذراع عسكرية في المنظمة الثورية المعروفة «مونتونيروس». أما «البيرونية الثالثة» التي تشكلت بعد عودة الزعيم المنفي إلى البلاد في العام 1972، فقد شهدت صراعاً عنيفاً بين الجناحين اليميني واليساري داخل الحركة. وبعد وفاته جنح هذا الصراع نحو مرحلة دموية على يد منظمة يمينية متطرفة، إلى أن سقطت آخر الحكومات العسكرية الأرجنتينية وعادت الديمقراطية في العام إلى البلاد 1983. وعندها بدأت تظهر تيارات جديدة داخل الحركة البيرونية، كانت أبرزها «الكيرشنيرية» التي تقودها اليوم نائبة رئيس الجمهورية.