يعلو صراخٌ ويدوّي تصفيق بدخول كاظم الساهر على أنغام «زيديني عشقاً»؛ رائعته. تعترف مُحاورته منى الشاذلي: «أنا من ملايين العربيات الهائمات حباً بأغنياتك»، وتُرفق الاعتراف بعبارة «عادي»، كمَن يُنصف بالحق روّاد الفن الأنيق. تحتفل به في برنامجها، هو المُحلَّى ببعض الخجل وبتواضع نادر. تسمّيه «مرسال المحبة» وترحّب بالحاضرين من محافظات بعيدة من أجل سهرة يغلب فيها الحبُ العتبَ.
يحظى برنامجها «معكم منى الشاذلي» (سي بي سي) بحوار صادق مع فنان ليس بحاجة للتزلّف. القناع الوحيد الذي ارتداه بكامل إرادته هو «ماسك» الوقاية من الوباء، فمنحه متعة التجوّل في الأسواق وبين الناس، مُرفِقاً إياه بقبعة ونظارات. سمّاه قناع الحرية وهو «هبة من الله». عدا ذلك، يُسقط الأقنعة ويأتي مجرّداً من المظهر الخدّاع والنفس المريضة بالضوء. يكشف عن رجل من معاناة حوّلها بالإصرار الشخصي والتحمّل المبكر للمسؤولية جوهرة من العراق إلى العالم.
بحرارة، يرحّب المصريون بكاظم جبار إبراهيم، المُختار لفنّه اسم عائلة آخر مناقضاً لواقعه. فهو ليس الساهر ولا حيلة له في السهر وطول الليالي. كان لا بدّ من رنّة مغايرة، بعد سخرية صوَّرته «بائع عصير» بوحي من الاسم الأصلي. وهو وفيّ للأوطان حيث أحباؤه وسخي في اللقاءات. تمتدّ الحلقة طويلاً ببهجة تكبح الملل وتُنسي الوقت؛ فيها يغنّي، يصافح الحاضرين، يردّ على أسئلتهم ويستمع إلى شاعر بين الجمهور يلقي قصيدته.
فيها أيضاً يجيب بصدق. تُغدقه منى الشاذلي بحب يجعل الحوار من القلب. تُذكّره بشوق أهل مصر له، هو الغائب عن إحياء الحفلات على أرضها منذ عقد، فحضر وعوَّض. وتحاوره بما يمسّ روحه لتُطلق المستور وتُحلّق عالياً بالبوح. حدّثها عن عزلته ورحيل أم أولاده، وعن عشق الحفيدتين وآلام بغداد. كان لقاء الرقي الإنساني.
الكاذبون يسهل القبض عليهم من نظراتهم، فالنقاق لا يُخفى. على العكس، يطلّ «القيصر» ببساطة فلاح يفاخر بالانتماء إليه. يفضّل عزلته في مزرعته بين الأشجار والتراب، على بذخ السهرات واللهو العابر. أحبُّ الشجر إليه هو النخيل، وإن حصلت مباراة في أسمائه وأنواعه لكَسَب. العلاقة بالأرض تجعله قلقاً على مصيرها... «أين ستذهب موسيقاي من بعدها؟»؛ يتساءل مُنذراً بخطر التغيّر المناخي.
مكانه في غرفته حيث يُلحّن بهَمّ إرضاء جمهور يتطلّع إليه من مرتبة الذوق الصعب ورفع السقف. كان في السادسة عشرة حين لحّن «المذهب» لـ«زيديني عشقاً»، وتركها ترتاح. خلال الخدمة العسكرية، أخرجها من الاستراحة إلى مسمع أحد «المتذوّقين»، فتذمّر وقلَّل من الشأن. لطيبة «القيصر»، صدَّق ورماها. تتنهّد منى الشاذلي وهي تسمعه يتكلم عن فقر أمكن صدّه لو أخرج الأغنية إلى الضوء. تأخّر الصدى الكبير 12 عاماً، وقدر القصيدة بديعةُ اللحن التفوّق على الزمن.
كاظم الساهر خلاصة ذكريات محفورة في العمق. بدأ العمل براتب مساوٍ لإيجار البيت، فطرق باب أكثر من مهنة. يبتسم لقدر تجهّم لجعْله يمتنُّ لما يُحقق، ويروي الحكايات بطرافة جمَّل بها اللقاء وارتفعت بنتيجتها الهيصة، كما جمّل الأجواء بغنائه «الدكتورة» للمرة الأولى عزفاً على العود.
لم تحتج مُحاورته إلى إزميل للحفر واستخراج الرواسب. اطمأن إلى مكانتها في المشهد الإعلامي وسلّم لها ما أمكن من نفسه. عاد ولداً يتركه أهله في عهدة جيران الحي فيتولّون جزءاً من تربيته؛ وفتى لا يخجل من الشقاء لتأمين كرامة العيش؛ وشاعراً يلحّن على وَقْع القنابل، فيترك الألحان في غرفة وينام في أخرى. لا يزال كابوس عمره سنوات يطارده، فتكرّر العذابُ قبل أشهر وهو يرى نفسه جندياً في الجيش، عليه الركض والاستعداد لردع القصف... «عشنا بأصعب ظرف. النسيان محال»؛ يقول بحكمة مَن يستمد الصلابة من القهر.
يقدّم أمثولة في الوفاء وإن حلّ الفراق. ترمي مُحاورته أسئلتها، فيتلقفها ليُخرج إجابات تؤكد سموّ الأخلاق. بأناقة، يتحدّث عن زوجته السابقة المُتألّم عميقاً على رحيلها. لم يدم الزواج؛ بل دامت المودّة. من أجل العائلة، يترفّع الرابط عن الأحقاد والصغائر. لا يمكن لرجل يغنّي المرأة بجميل القصيدة أن يأتي بتصرّف مناقض في الواقع. صحيح أنه ينصح الشباب باستشارة العقل في قرارات القلب، لكنه ينحني لفضل المرأة في حياة الرجل ويرى مَن يحاكيها بعنف جسدي أو لفظي «أكبر جبان»؛ تتبدّل ملامحه نحو الازدراء وهو يتصوّر ضعفه.
تشكره الشاذلي على الحوار، فيردّ بامتنان: «مين يشكر مين؟». تعلم أنه يرتبك من الإطراء، فتقدّمه بلا التسبُّب في حرج؛ ذلك لأنها تقول الحقيقة وتعبّر عن صريح المشاعر. رغم الإبهار، أرادت حلقة تُقيّم مشروع الضيف بالنظر إلى سياقه وتاريخه، وليس فحسب إلى بهاء الأغاني. حضرت بغداد، وأوطان لا تغيب عنه، يحترم جمهورها ويخجل من الغناء بلا جديد يقدّمه له.
مُلهم في اتخاذ مسافة من الضوء وهو في عمقه. وفي صناعة حياة على قياسه: يستيقظ قبل السابعة صباحاً... يتناول فطوره ويرتاد النادي؛ مُتنفّسه. يُجاور الألحانَ تقريباً في المكانة، فهي جدوى الروح والرياضة علاجها.
منى الشاذلي تحتفل بكاظم الساهر «مرسال المحبة»
يعود إلى حفلات مصر بعد غياب 10 سنوات
منى الشاذلي تحتفل بكاظم الساهر «مرسال المحبة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة