«صحافة التوقعات» خدمة جماهيرية تطل في المواسم

نشطت خلال الانتخابات و«كوفيد ـ 19»... وعزّزت وجودها داخل غرف الأخبار

مذيع قناة «سي بي إس» الأميركية يجلس أمام كومبيوتر يونيفاك عام 1952
مذيع قناة «سي بي إس» الأميركية يجلس أمام كومبيوتر يونيفاك عام 1952
TT

«صحافة التوقعات» خدمة جماهيرية تطل في المواسم

مذيع قناة «سي بي إس» الأميركية يجلس أمام كومبيوتر يونيفاك عام 1952
مذيع قناة «سي بي إس» الأميركية يجلس أمام كومبيوتر يونيفاك عام 1952

«يبدو أن الآلة تثور على العناصر البشرية»... كان هذا ما قاله مذيع قناة «سي بي إس» الأميركية عام 1952، عندما ظهر على الشاشة أمام جهاز كومبيوتر ضخم يدعى «يونيفاك» استخدمته المحطة للتنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، فيما أصبح يعرف اليوم بـ«صحافة التوقعات» أو «الصحافة التنبؤية»، والتي ما زالت تجد مكاناً لها داخل غرف الأخبار بعد مرور 70 سنة على استخدام «يونيفاك».
تُعرف صحافة التوقعات بأنها «دمج المعلومات التي تتضمن تنبؤات بالأحوال المستقبلية، في عملية إنتاج التقارير الصحافية، باستخدام تكنولوجيا تحليل البيانات، وغيرها من الأدوات». وعلى مدار السنوات الماضية استخدمت في عدة مجالات منها السياسة، والرياضة، والأرصاد الجوية، والعلوم أيضاً. وفي الآونة الأخيرة عززت جائحة «كوفيد - 19» وجودها داخل «غرف الأخبار» للإجابة على تساؤلات الجمهور بشأن المدى الزمني المتوقع لاستمرار الجائحة، وعدد الوفيات المتوقع، وغيرها. وبالمناسبة، عادة ما تُقدم صحافة التوقعات بشكل تفاعلي عبر صور ورسوم بيانية تقربها من الجمهور.
في دراسة نشرتها كلية الصحافة بجامعة كولومبيا الأميركية خلال أبريل (نيسان) الماضي، ذكر الباحث نيكولاس دياكوبولوس أنه «سواء كان الأمر يتعلق بمن سيفوز في الانتخابات المقبلة، أو كيف ستنتشر الجائحة الشهر المقبل، أو ما نخطط لتناوله على الغداء، فإن البشر مهووسون معرفياً بالتفكير في المستقبل». وأردف أن «صحافة التوقعات هي نوع من صحافة البيانات (المُعطيات)، التي تركز على توليد تنبؤات قائمة على الأدلة يمكن أن تساعد في سد حاجة هذا الجمهور».
ووفقاً للدراسة التي أجراها دياكوبولوس فإن «السياسة تستحوذ على الجزء الأكبر من هذه الخدمة بنسبة 40 في المائة، خاصة ما يتعلق بالانتخابات، تليها الصحة والعلوم بنسبة 39 في المائة، وهي تتألف في الغالب من تنبؤات متعلقة بفيروس (كوفيد - 19). ثم الرياضة بنسبة 11 في المائة، والقضايا الاجتماعية الأخرى بنسبة 6 في المائة». وتابع أن «صحافة التوقعات يمكن أن تقدم قيمة صحافية في عدة نواحٍ عبر تقديم معلومات تسهم في التفكيرين النقدي والتفسيري للأحداث».


- تأثير على المصداقية
من ناحية أخرى، رغم وجود صحافة التوقعات داخل غرف الأخبار منذ أكثر من نصف قرن، يعتبر بعض خبراء الإعلام تقديم هذه الخدمة ليس بالضرورة من مهام الصحافي. وهنا توضح د. أروى الكعلي، أستاذة الإعلام في معهد الصحافة وعلوم الأخبار بتونس لـ«الشرق الأوسط»، في لقاء معها أن «مهمة الصحافة الأساسية تتعلق بطرح المسائل المرتبطة بالحاضر، والماضي، وهذا لا يخل بفكرة أن التوقعات يمكن أن تشمل أموراً لا نعرفها حدثت أمس، أو اليوم. لكن المقصود هنا هو أن عمل الصحافي عادة يتعلق بنقل ما يعرف أنه حدث لا ما يتوقع أنه قد حدث».
وفق الكعلي ينطوي التوقع على «مخاطرة»، وتضرب مثلاً بواقعة كانت صحيفة تونسية معروفة طرفاً فيها، إذ نشرت تقريراً تضمن توقّعات إحصائية بشأن إعداد وفيات «كوفيد - 19» خلال الأشهر القليلة الأولى من الجائحة، ولكن بعد مرور سنتين على الجائحة لم تصل أعداد الوفيات إلى الرقم الذي تحدثت عنه الصحيفة في ذلك الوقت، بل - كما تقول الباحثة التونسية - يبيّن الواقع أن الأرقام الحالية بعد معاناة المواطنين من الجائحة ومتحوراتها ما زالت بعيدة جداً عن الرقم الذي توقعته الصحيفة.
يوين ماكاسكيل، الصحافي البريطاني الاستقصائي ومراسل جريدة «الغارديان» البريطانية السابق، الذي يعمل حالياً موجهاً للمتدرّبين في مؤسسة «رويترز» للصحافة يؤيد رأي الكعلي. إذ يرى أن «الدور التقليدي الذي يتدرب عليه الصحافي هو كيفية متابعة ما حدث، أو ما يحدث الآن، وليس التنبؤ بالمستقبل. بيد أن الصحافي يقع دائماً تحت ضغط محاولة توقع الأحداث، وذلك نتيجة لشعور الناس بأن لديهم معرفة داخلية بالأحداث وتطوّراتها». ويضيف ماكاسكيل لـ«الشرق الأوسط» قائلاً إنه «أياً كانت الضغوط يجب على الصحافي مقاومة الانغماس في التوقعات، وإن كان من الممكن لكتّاب الرأي والمعلقين أن يفعلوا ذلك. إن إحدى القواعد الأولى التي على الصحافي تعلمها تحاشي إصدار تنبؤات». ويستطرد أن «نشر التوقعات يؤثر على مصداقية وسائل الإعلام».
حسب ماكاسكيل: «ليس هناك أي فائدة تعود على الصحافي من محاولته التكهّن بما سيحدث، فكثيرون من الصحافيين في الولايات المتحدة الأميركية لم يتوقعوا فوز الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2016، وفي بريطانيا أيضاً لم يتوقّع معظم الصحافيين أن يصوّت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016».

- مواسم صحافة التوقعات
في أي حال لصحافة التوقّعات مواسم، حين تعجّ وسائل الإعلام، مقروءة ومسموعة ومرئية وإلكترونية، مع بداية كل عام، بسيلٍ من التقارير والبرامج التي تتحدث عن توقعات العام الجديد. وهي طبعاً تزدهر في فترات الانتخابات، عبر مقالات تحليلية وإحصائية ورسوم بيانية تحاول التنبؤ بنتيجة الانتخابات ونسب الإقبال على التصويت. ولقد كانت جائحة «كوفيد - 19» واحدة من الأسباب التي دفعت الصحافة بشكل أكبر تجاه التوقعات، باعتبارها قصة «ضخمة وغامضة»، ولّدت العديد من الأسئلة لدى الجمهور من قبيل إلى متى ستستمر؟ وهنا يقول ماكاسكيل: «في هذه الحالات من الممكن للصحافي أن يقتبس آراء وتنبؤات المتخصصين، من أطباء وأكاديميين، وباحثين، ومسؤولين، شريطة ألا ينجرف هو بنفسه للإدلاء بتوقعاته».
ورغم تفضيلها لبقاء الصحافية في نطاق ما هو كائن لا ما يمكن أن يكون، تؤكد الكعلي أن «التعامل مع التوقعات أصبح أمراً واقعاً يصعب تجنبه، في ظل ما نشهده من تطور على مستوى حضور وحجم البيانات، مصحوباً بتطور تقنيات الذكاء الصناعي في غرف الأخبار». وهي ترى أن «ثمة مجالات تفرض التوقّعات نفسها عليها بالضرورة، كالنتائج الأولية للانتخابات، التي يسارع الصحافيون إلى إعلانها، إلى جانب نتائج استطلاعات الرأي التي تتناول نيات التصويت».

- معضلات أخلاقية
من جهة أخرى، تخلق صحافة التوقعات معضلات أخلاقية، حول كيفية استقبال الجمهور لها، فعلى سبيل المثال، كانت التوقعات في الانتخابات الأميركية لعام 2016، لصالح المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وربما يكون ذلك قد دفع بعض مؤيديها لعدم التوجه لصناديق الاقتراع ظناً منهم أن النتيجة محسومة لصالحهم، وأن تصويتهم لن يحدث فارقاً كبيراً. وحقاُ، رأت دراسة نشرتها جامعة شيكاغو عام 2020. أن «توقعات الانتخابات قد تدفع المصوتين للإحجام عن الذهاب لصناديق الاقتراح حسب الطريقة التي تقدم بها». وهو ما يتطلب من الصحافيين تقدير حجم التأثير الذي يمكن أن تتسبب به توقعاتهم.
ويضع ماكاسكيل شروطاً يجب على الصحافي اتباعها إذا ما كان مضطراً للكتابة عن حدث مستقبلي، من بينها جمع وتقديم عدة خيارات واحتمالات، وتفادي الاعتماد على رؤية واحدة. ويوضح: «يمكن للصحافي الاحتفاظ بمصداقيته وقيمه المهنية عبر تقديم أكبر عدد من الاحتمالات، وترك الساحة للجمهور ليعمل عقله. الصحافة الحرة والمستقلة صحافة تعددية تقدم مجموعة واسعة من وجهات النظر، لا وجهة نظر واحدة. ثم إن الجمهور سيتذكر الأخطاء التي وقع فيها الصحافي، أو الصحيفة، عند محاولة تنبؤه بالمستقبل، لكنه لن تسعفه ذاكرته بنفس القدر لو صدقت توقعات الصحافي».
بدورها تشدد الكعلي على أنه «في كل الحالات ومهما كان السياق الذي تأتي فيه هذه التوقعات، يجب توخي حذر مضاعف في التعامل معها، بالتزامن مع تدريب الصحافيين على التعامل مع هذا النوع من البيانات»، وتضيف أن «التوقعات يمكن أن تكون غير دقيقة، أو غير موثوقة، الأمر الذي يفتح الباب أمام نمط جديد من التضليل في الأخبار والمعلومات، يتطلب بدروه مهارات جديدة في التدقيق والتحري... إذ يصعب على الوحدات الصحافية المتخصصة في تدقيق المعلومات الجزم فيما إذا كان أمر ما سيحدث أم لا. وسيكون عليها أن تتمرس أكثر في التدقيق في منهجية التوصل إلى هذه التوقعات، وهو ما يتطلب الاستثمار في مهارات مهنية جديدة». وتختتم: «مهما كانت التوقعات سليمة، فهي لن تكون أبداً دقيقة بنسبة 100 في المائة، الأمر الذي يستدعي مهارات خاصة عند التعامل مع مواضيع من هذا النوع، لضمان معرفة الجمهور بحدودها ودقتها». وهنا يوصي دياكوبولوس - في بحثه - «بالتأكد من دقة المعلومات قبل نشرها، وإجراء دراسات لتقييم تأثيرها على الجمهور».
في نهاية المطاف، أياً كانت التحذيرات والمخاطر، فهذا لن يحد من وجود صحافة التوقعات في «غرف الأخبار»، خاصة أن البعض يراها «مستقبل» المهنة. ولقد تحدث إتش أو مايكوت، رئيس وحدة التكنولوجيا في صحيفة «تكساس تريبيون»، في مقال نشره معهد «نيمان لاب»، التابع لجامعة هارفارد الأميركية في إطار توقعات عام 2016. عن «أهمية صحافة التوقعات في منح الجمهور مؤشرات حول ما يمكن أن يحدث، وتمكينهم من توقع الأحداث قبل وقوعها»، مشيراً إلى أن «المستقبل لصحافة التوقعات التي ستمكن الصحافي من أن يكتب اليوم عناوين القصص الخبرية التي ستحدث في الغد».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».