فينيسيا: محمد رُضا
للمخرج نوا بومباك طريقته الخاصة، كما حاله في بعض أفلامه السابقة مثل «قصة زواج» قبل عامين وفي هذا الفيلم. إنه يسرد الحكاية لكنها تبقى غير قادرة على الإيحاء أو وضع الخطوط الصحيحة تحت مفارقاتها.
بالتالي، إذا ما كان هناك طرح مستمد من الحكاية فإن ما نراه منه يأتي في سياق السرد وليس في تأسيسه كوضع لافت. وإذا كانت هناك من سخرية مقصودة فإنها آيلة لأن تمر مثل سيارة مسرعة لا يصدر منها سوى صوت محركها.
مشهد من فيلم الافتتاح «ضجة بيضاء»
«ضجة بيضاء» الذي افتتح الدورة الحالية من مهرجان فينيسيا مأخوذ عن رواية صدرت بنجاح سنة 1985 كتبها دون ديليللو وسعت هوليوود - كما كتبنا عنها سابقاً - لتحقيقها مرّتين من قبل أن يقع المشروع بين يدي بامباك. المفارقة هي أن غالبية نقاد الكتب وجدوا أن الرواية تتميّز بقدرتها على معالجة فكرتها ضمن أسلوب يوحي بالسخرية في الوقت الذي تعمد فيه إلى عرض وضع جاد. إنه الوضع عندما تحاول عائلة تحاشي احتمالات الموت. بذلك تعيش في حذر تعتنقه على أنه الواقي من المخاطر من دون أن ترى تأثير ذلك على حياتها هي.
الخطر يحيق بها، أو هكذا تعتقد، عندما يتسرب غاز ضار في الحي الذي تقطنه العائلة. هذه لن تنتظر لكي تتأكد من أن المادة خطيرة فعلاً بالفعل، بل ستهرع إلى سيارتها وتبتعد. هذا مثال على جديّة عدم الاتزان الذي تعيشه بسبب هاجس الموت الدائم.
لقطة من «عظام وكل شيء»
فيلم بامباك يسرد الحكاية، وفي مطلعه يضع الأساس لعمل اجتماعي أراده أن يكون جاداً وساخراً معاً. المشكلة هنا أن ذلك لا يتبلور جيداً، بل يسقط في فجوة بين الحالتين تصيب المُشاهد بوضع مماثل. نصف الساعة الأولى لا تقول شيئاً فريداً لأنها تمهيد لقبول عائلة مؤلفة من ستة أفراد. هناك الزوج جاك (آدم درايفر) المتخصص في الدراسات الهتلرية وزوجته بابيت (غريتا غرويغ) اللذان أنجبا معاً ابناً لكن كل واحد منهما جلب للبيت المريح الذي يعيش فيه أولاده من زواج سابق.
في عمله كمدرّس، يتحدث عن هتلر، كما لو كان يعرف كل شيء عنه رغم أنه لا يعرف الألمانية، وعن الخطّة التي تم كشفها لقتله، ثم ننتقل من هذا الحديث الجاد إلى آخر لاه عندما يستعرض جاك وزميله موراي (دون شيدل) ما يجمع بين المغني ألفيس برسلي وأدولف هتلر. العناصر المشتركة ليست سخيفة فقط، بل لا جدوى منها. من بينها أن والدة كل منهما كانت تدلل ابنها. هذا ثابت في بعض البيوغرافات عن ألفيس لكنه ليس أمراً مثبّتاً بالنسبة لهتلر. وحتى لو كانت فهي مقارنة غير مهمّة لتمضية دقائق طويلة من الحوار. فيلم اعتمد لغة الحوار الذي لا يتوقف حول أشياء لا تتبلور. طويل ومضجر وبالتأكيد لم يكن يستحق افتتاحاً لولا أنه من بطولة على ممثلين أرادهما المهرجان حتى يشتغل الإعلام الفوتوغرافي بهما. كممثلين، كل منهما يبدو مثل غير قادر على تطوير ملكية درامية لشخصيته. درايفر، على الأخص، يمارس أداءه المسطح ذاته.
صور بلا دلالات
مثل مومباك في عدم القدرة على إيصال الأبعاد الذهنية بصورة طبيعية أو موحية أو حتى فنية، هناك المخرج الإيطالي لوكا غوادانينو الذي قدّم، في المسابقة أيضاً، جديده «عظام وكل شيء» (Bones and All) حول فتاة شابّة (تايلور راسل) تلتقي بزميلاتها في سهرة. تصغي إلى إحداهن وتميل برأسها إلى كتفها. وعندما ترفع زميلتها يدها لتشير لها بخاتم زواجها تنقض الفتاة على أصبعها بغية بتره وأكله.
من هنا ولاحقاً الفيلم، كمشهده الأول، مقرف أكثر منه مخيفاً. نراها تترك الكلية وحين تصل ليلاً إلى بلدة أخرى يستقبلها آكل لحوم بشر آخر (مارك رايلانس) فتصاحبه إلى منزله. تقول له إنها تحاول الابتعاد عن هذه العادة (عادة أكل اللحم البشري) لكنه يؤكد لها أن ذلك ليس ممكناً، بل ستزداد حاجتها للطعام بالتدريج. ما هذه الرائحة الصادرة من غرفة علوية؟ تسأله. كان الأجدر به أن يجيبها أنها رائحة فيلم ليس لديه ما يوفره للمشاهدين من أبعاد، لكنه يكشف لها أن هناك ضحية كان بدأ التهامها ويدعوها لمشاركته.
سيمضي الفيلم بعد ذلك لاختبار علاقتها بشاب اسمه لي (تيموثي شالامات) الذي يحب السماع إلى أغاني الهارد روك (نموذج أغنية Lick it Up لفرقة The Kiss). قصّة حب ترافق الأحداث غير المهمّة التي امتلأت بها دقائق الفيلم (130 دقيقة). حتى مسألة أن الفتاة تبحث عن أمها لتكتشف أنها أيضاً تحب أكل البشر لا يقدّم أو يؤخر كثيراً في الفيلم.
لي هي المحور هنا وسعيها لكي تتوقف عن أكل البشر ثم وقوعها في غرام من نوع قاتم مع شاب في المتاهة ذاتها مطروحة كمشاكل إنسانية. لكن الفيلم يسرد حكايته بلا توقف يذكر عند ما يمكن الاشتغال عليه لتحويل ذلك إلى تراجيديا. التراجيديا الوحيدة هنا هو الفيلم ذاته.
شالامات كان أحد بطلي فيلم غوادانينو الأسبق Call Me By Your Name الذي نال مديحاً لا يستحقه. البطل الآخر كان آرمي هامر الذي اتهم بعد ذلك بأنه يحب أكل أصابع الأقدام البشرية. لحين خطر لي أن يكون المخرج استلهم الحكاية من تلك التهمة (عالقة لكنها محتملة) لولا أن الحقيقة هي أنه استلهم الحكاية من رواية. «عظام وكل شيء» يفتقد إلى مبرر ويفشل في وصول إلى مفادات عميقة (أو حتى مجرد ملاحظات ذات معنى). عودة شالامات للعمل مع المخرج تطرح، فيما تطرح، حقيقة أن كليهما يتمتع حالياً بشهرة غير مُستحقّة.