إفلاس العراق

تتعدد على نحو فريد سبل الفساد في العراق رغم تعدد الجهات والمؤسسات المعنية في محاربته. فمن ديوان الرقابة المالية إلى لجنة النزاهة البرلمانية، بالإضافة إلى هيئة النزاهة المستقلة ومكاتب المفتشين العموميين في الوزارات ومؤسسات الدولة، كلها وسائل بيروقراطية وضعت لكن لا توجد أي بوادر مثلما يردد كبار المسؤولين في الدولة العراقية وصغارهم في حل معضلة الفساد التي نخرت ولا تزال في جسم الدولة منذ ما بعد عام 2003 والاحتلال الأميركي للعراق.
وفي وقت كان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي يتحدث فيه عن إجراءات وسياقات لمحاربة الفساد، كان الغطاء المالي الذي تمتع به العراق خلال السنوات الماضية بسبب الارتفاع الكبير لأسعار النفط يصد التأثير المباشر لأوجه الفساد المختلفة ويؤجل فتح الملفات المهمة. فلطالما تتوفر دائما وفرة مالية في الموازنة تجاهل الساسة تبعات الفساد على إدارة الدولة.
هذه الوفرة المالية جاءت عن طريقين، الأول الزيادات المستمرة في أسعار النفط وهو ما يعني أنه عندما يتم احتساب الموازنة العامة للدولة على أساس بيع برميل النفط بسعر 80 دولارا، فإن ارتفاع الأسعار إلى أكثر من 110 دولارات للبرميل الواحد يضاعف المردودات ويلغي العجز المخطط والحقيقي ولكنه لا يتخم موازنة الدولة بل يذهب إلى جيوب الفاسدين ومعظمهم مسؤولون كبار في الجهاز الحكومي.
الطريق الثاني عبر الأموال التي ترصد إلى الوزارات والمحافظات لأغراض تنموية وخدمية لا يجري في الغالب إنفاق سوى نسب قليلة منها بسبب الفشل الإداري وغياب التخطيط مما يؤدي نهاية السنة المالية إلى إعادة أكثر من نصف تلك الأموال إلى خزينة الدولة.
وفي وقت لم يجر فيه النهوض بالخدمات وهو ما يعني استمرار معاناة المواطنين العراقيين على كل المستويات الخدمية، مثل الماء والكهرباء والطرق والجسور والمعامل والمصانع وسواها من الخدمات وفي الوقت نفسه عدم اللجوء إلى صناديق استثمار أو صناديق أجيال مثلما تعمل الكثير من الدول ومنها دول الخليج العربي مما يوفر غطاء ماليا للبلاد يساعدها عند الحاجة. بل إن غالبية الأموال التي لا تنفق في العراق تهدر ثانية في مشاريع وصفقات وهمية.
وطوال الأعوام من 2004 حيث أعدت موازنات العراق بعد الاحتلال وحتى عام أوائل عام 2014 لم يجر الحديث عما بات يطلق عليه فيما بعد «إفلاس العراق».
كان الحديث يجري عن الفساد المالي والإداري فقط، حتى إن المنظمات الدولية المعنية بمحاربة الفساد المالي ظلت تصنف العراق في مراتب متقدمة في هذا المجال. وفي مجال الشفافية يأتي العراق دائما في مراتب متدنية. وفي إحصائها للعام 2014. قالت منظمة «الشفافية الدولية» إن العراق الدولة الـ170 الأكثر فسادا من 175 دولة، تتقدم فقط على دول مثل الصومال وأفغانستان. وخلال الحكومتين السابقتين برئاسة نوري المالكي بين عامي 2006 و2014، كانت الحكومة تنكر وجود فساد مالي أو إداري في البلاد. وحتى لو اعترف بعض الوزراء بجزء منه، فكثيرا ما كانت الحكومة تعتبر التقارير الدولية بأنها موجهة ضدها ومدفوعة من قبل جهات لأهداف سياسية.
لكن رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي التزم حتى الآن حيال شركائه السياسيين بمبدأ التعامل بالشفافية والمكاشفة على هذا الصعيد. انخفاض أسعار النفط مع النصف الثاني من عام 2014 هو الذي بدأ يدق ناقوس الخطر في العراق. حيث بدأت تنكشف الحقائق المرة عن الوضع الاقتصادي والمالي في العراق. فموازنة 2015 تم احتساب سعر النفط فيها على أساس 56 دولارا للبرميل الواحد مع وجود عجز مالي حقيقي كبير. وفي هذا السياق يقول الدكتور مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي لـ«الشرق الأوسط» إن «سقف الأنفاق العام في موازنة 2015 المقبل، هو 123 تريليون دينار عراقي، التشغيلي منه يبلغ 63 تريليون دينار، والاستثماري 37 تريليونًا، في حين يبلغ العجز 23 تريليون دينار».
ويذكر أن سعر صرف الدينار العراقي على الدولار الأميركي 1400 دينار مقابل الدولار الواحد، بعد أن كان الدينار العراقي يوازي 3 دولارات أميركية في الثمانينات من القرن الماضي. وبحسب صندوق النقد الدولي، تراجعت الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي العراقي من 78 مليار دولار في نهاية 2013 إلى 66 مليار دولار في نهاية 2014 بسبب انخفاض الإيرادات النفطية وارتفاع مستوى الواردات.
ويضيف صالح أن «موضوع سلم الرواتب يعتمد على أسعار النفط، إذ إن سعر البرميل منه قدر في الموازنة بستين دولارًا، على أساس طاقة تصدير قدرها 3 ملايين و300 ألف برميل يوميًا». وفي ضوء العجز الكبير في الموازنة يقلل صالح من أهمية الارتفاع الطفيف في أسعار النفط، قائلا إن «الارتفاع الطفيف الحالي لأسعار النفط في الأسواق العالمية لا يعالج العجز المالي للموازنة الاتحادية لعام 2015 والبالغ 25 تريليون دينار، بواقع 56 دولارا للبرميل الواحد»، موضحا أن «الكميات المصدرة من النفط الخام لم تصل حتى الآن مستوى الطموح المرجو للتصدير، بسبب الأوضاع الأمنية».
ويشرح الخبير الاقتصادي باسم بطرس أنطوان لـ«الشرق الأوسط» أن «ما يمر به العراق هو ما تواجهه في العادة الدول الريعية التي تعتمد على اقتصاد وحيد الجانب مثل النفط دون الالتفاف إلى ميادين أخرى مثل الزراعة والصناعة والسياحة وسواها بالإضافة إلى الإدارة العشوائية للاقتصاد». وهذه العراقيل تأتي وسط مشاكل سياسية وأمنية تزداد تعقيدا مع الوضع الاقتصادي الراهن.
رئيس اللجنة المالية في البرلمان العراقي أحمد الجلبي يرسم صورة قاتمة جدا للمستقبل لدرجة أنه يحذر من أن «الدولة العراقية يمكن أن تعجز في غضون عشر سنوات عن تغطية نفقات المتقاعدين في حالة استمرار طريقة إنفاق العوائد الريعية من دون خطة تنمية مستدامة». وأضاف أن «العراق ليس بلدًا مفلسا لكن يجب ضغط النفقات وتقليصها لتجاوز المرحلة العصيبة الراهنة». وفي مقابل ذلك يسعى وزير المالية العراقي هوشيار زيباري إلى رسم صورة أكثر تفاؤلا مما هي على أرض الواقع. ففي بيان له يقول زيباري إن «العراق ليس بلدا مفلسا أو لا يمتلك الإمكانات من موارد مالية أو بشرية ولكن يجب تعاون الجميع في تجاوز هذه المرحلة الصعبة». ويضيف زيباري أن «عجز الموازنة المالية لعام 2015 يقدر بـ40 مليار دولار وسيكون لقطاع الأمن وللجيش الحصة الأكبر من هذه الموازنة». ويشدد زيباري على «ضرورة الترشيد في الأنفاق لوجود وضع مالي صعب في العراق وهذا يحتاج إلى اقتصاد في النفقات إلى أبعد حد ممكن لانخفاض أسعار النفط».
أوجه الفساد ومستوياته
في سياق تبريره العجز الهائل في الموازنة الذي أدى إلى إعلان محافظات عراقية عدة إفلاسها آخرها محافظة بغداد، فقد فجر رئيس الوزراء حيدر العبادي قنبلة من الوزن الثقيل حين كشف أمام جلسة للبرلمان العراقي عن وجود ما أطلق عليه 50 ألف «فضائي» (جندي وهمي) في الجيش العراقي وبالذات في أربع فرق عسكرية (الجيش العراقي يتكون من 17 فرقة). وما إن كشف العبادي هذه الأرقام، تسارعت عمليات الكشف عن الفضائيين في مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها من قبل نواب ومسؤولين في البرلمان والحكومة ولجان النزاهة. وبعملية حسابية أولية فإنه لو افترضنا أن عدد الفضائيين هو 50 ألفا فقط فإن مرتبات هؤلاء تصل إلى 420 مليون دولار سنويا بواقع 700 دولار شهريًا كحد أدنى.
وإذا أضفنا له مخصصات طعام هؤلاء الجنود الوهميين بمعدل ثلاث وجبات تكلف الدولة (مع نسبة الفساد فيها) ما لا يقل عن 150 دولارا شهريا للفرد، فهذا يعني 90 مليون دولار سنويا أي بما مجموعه 510 مليون دولار. وإذا ضربناها في أربع سنوات هي فترة الحكومة السابقة فالرقم يصل إلى قرابة المليارين ونصف المليار دولار. مع ذلك فإن الأمر لم يقتصر حيث إن هناك فضائيين خارج المؤسسة العسكرية. وطبقا لما يقوله النائب مشعان الجبوري لـ«الشرق الأوسط» فإن «هؤلاء الفضائيين الذين هم خارج المؤسسة العسكرية لا يقلون فسادًا عنها وهم الفضائيون من المتقاعدين». الجبوري يضيف قائلا إن «هناك 23 ألف متقاعد فضائي يتقاضون رواتب تقاعدية منذ خمس سنوات، وإن مجموع ما تقاضوه من مبالغ تصل إلى مليار دولار».
والجبوري أكد أن «هناك مستويات مختلفة من الفساد في كل مؤسسات الدولة وبالتالي فإن الأمر لا يقتصر على المؤسسة العسكرية فقط وهو ما يتطلب عملا جديا في هذا الاتجاه لوقف الهدر في المال العام». وفيما تتوجه أصابع الاتهام في هدر المال العام طوال السنوات الثماني الماضية أو عدم محاربة الفاسدين إلى رئيس الوزراء السابق المالكي فإنه وبعد أن أصبح نائبا لرئيس الجمهورية عبر عملية ترضية شملت كلا من أسامة النجيفي وإياد علاوي فإنهم تحولوا طبقا لما يراه رئيس البرلمان الأسبق محمود المشهداني بمثابة فضائيين خمس نجوم.
المشهداني وفي تصريح جريء له قال إن «نواب رئيس الجمهورية فضائيون لأن مناصبهم بلا صلاحيات علما أنهم يتقاضون رواتب ومخصصات وامتيازات ضخمة بالإضافة إلى حماياتهم ومستشاريهم». ورغم أن المشهداني ينتمي إلى الكتلة التي يتزعمها إياد علاوي فإنه لم يتوان عن وصفه في لقاء تلفازي بأنه «فضائي».
غير أن الأمر بالنسبة لرئيس كتلة التحالف المدني الديمقراطي في البرلمان العراقي مثال الآلوسي لم يتوقف عند حدود التشخيص بل ذهب في حديثه إلى «الشرق الأوسط» إلى ما هو أبعد من ذلك قائلا إن «التحالف المدني الديمقراطي وهو الكتلة الوحيدة المعارضة في البرلمان العراقي قررت أن تقدم طعنا للمحكمة الاتحادية بوجود 3 نواب لرئيس الجمهورية». الآلوسي يرى أن «الدستور العراقي ينص على وجود نائبين لرئيس الجمهورية، ولا يجوز وجود 3 نواب».
الأمر لم يقف عند هذا الحد. فعند الحديث عن إفلاس العراق وأسبابه فلا بد من متابعة ما يقوله كبار المسؤولين بمن فيهم القادة العسكريون الذين كانوا يحظون بثقة شبه مطلقة من قبل المالكي القائد العام السابق للقوات المسلحة. وفي هذا السياق يقول الفريق علي غيدان قائد القوات البرية السابق لدى استضافته أمام اللجنة التحقيقية الخاصة بسقوط الموصل إن «مكتب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي كان على علم بملف الجنود الفضائيين في وزارتي الداخلية والدفاع». غيدان أضاف أن «نسبة ثابتة تصل إلى 40 في المائة من رواتب الفضائيين كانت تستقطع وترسل إلى مكتب القائد العام للقوات المسلحة السابق».
ويضيف أن «هؤلاء الفضائيين كانوا موزعين على أمراء الفرق والألوية والأفواج وحتى ضباط السرايا والفصائل، وبواقع 250 جنديا لآمر الفرقة و200 لآمر الفوج و75 لأمر السرية وعدد أقل لأمراء الفصائل والسرايا». وأوضح غيدان أنه «أخبر المالكي شخصيًا بذلك وأن مكتب القائد العام يستقطع أموالا من رواتب جنود وهميين لا وجود لهم لكن رئيس الوزراء السابق أمرني بعدم إثارة هذه القضية مرة أخرى لأن البلد يمر بحالة حرب ولا نملك الوقت والجهد لمتابعة مثل هكذا قضايا بسيطة كما أنه أمر لي بمكافأة 25 مليون دينار لتنبيهه على هذا الموضوع دون أن يتخذ أي إجراء فعلي». لكن الفساد والهدر المالي الذي أدى إلى خواء الميزانية مع عدم وجود إرادة لمحاربة الفاسدين والاقتصاص منهم لم يقف عند حدود الداخل. بل تعداه إلى الخارج. ومن خلال التحقيق الذي أجرته لجنة تقصي الحقائق لـ«صندوق تنمية العراق» DFI فقد شككت بأن أموال الفساد المالي تهرب إلى الخارج عن طريق حوالات بيع مزاد البنك المركزي. رئيس اللجنة الجلبي قال خلال مؤتمر صحافي إن «مجموع ما دخل على العراق في سنوات 2006 وحتى 2012 من إيرادات النفط زاد عن 370 مليار دولار أميركي، كما بلغت مبيعات البنك المركزي في مزاد الدولار لتلك الفترة أكثر من 207 دولار»، مبينًا أن «نسبة مبيعات البنك المركزي تبلغ 56 في المائة من إيرادات العراق في تلك الفترة». وأضاف الجلبي أن «هذه النسبة تمثل أضعاف ما استورده القطاع الخاص العراقي»، معتبرًا أن «الفرق بين ما استورده العراق وما تم تحويله لأغراض مشروعة تخص المواطن هو غسل أموال».
وأوضح الجلبي أن «اللجنة اختارت فترة عشوائية من 15 أبريل (نيسان) 2012 وحتى 15 يونيو (حزيران)، وتبين لها أن مجموع مبيعات مزاد البنك المركزي بلغ نحو سبعة مليارات دولار وكانت مجموع حصة خمسة بنوك من شراء الدولار بلغت نحو أربعة مليارات دولار»، مشيرًا إلى أن «نسبة ما تم تحويل من الدولار من قبل البنوك بلغ 57 في المائة معظمها مشتريات إلى بنوك عربية». ولفت الجلبي إلى أنه «يتضح مما ورد من أرقام أن علينا أن نصل إلى المستفيد النهائي من هذه الحوالات»، معربًا عن شكه أن «أموال الفساد المالي تهرب إلى الخارج عن طريق حوالات بيع مزاد البنك المركزي».