شيعة لبنان.. المختلفون

معارضو «حزب الله» في الطائفة يشكون من تهديداته لكن يفشلون بالاتحاد لصده

شيعة لبنان.. المختلفون
TT

شيعة لبنان.. المختلفون

شيعة لبنان.. المختلفون

قد يعتقد البعض أن الوقت الآن مناسب للاستفادة من «التململ الشيعي» في لبنان جراء انخراط «حزب الله» في الحرب السورية وتكلفتها العالية على الشارع الشيعي، أمنيا وسياسيا وبشريا، مع توالي الجنازات في القرى الشيعية في لبنان، لكن الشارع الشيعي اللبناني أثبت - حتى اللحظة - أنه لا يزال عصيا على الاختراق من قبل خصومه. فكيف بزمرة قليلة من الناشطين الشيعة الذي يواجهون الحزب بمنطق يختلف عن منطقه الذي يحظى بشعبية واسعة في الأوساط الشيعية التي كانت خائفة من إسرائيل، ثم انتقلت اليوم إلى الخوف من إسرائيل و«التكفيريين» وهي التسمية المعتمدة للتنظيمات المتطرفة أمثال «داعش» و«جبهة النصرة».
يعاني الشيعة اللبنانيون المعارضون لـ«حزب الله» من وقوعهم بين مطرقة الحزب وسندان معارضيه. فالحزب الذي انتقل من عدم الاعتراف بهم، إلى تهديدهم، كان في بعض الأحيان أكثر رأفة بهم من خصومه الذين «استعملوا» هؤلاء كفلكلور للتعددية الوطنية في المناسبات، ثم لجأوا إلى «حزب الله» للتحاور معه عند وقوع الخطر من الفتنة السنية - الشيعية باعتباره الممثل الوحيد لشيعة لبنان. ولعل نقطة الضعف الأبرز لدى هؤلاء، هي خطابهم الوطني في زمن الطوائفيات. فغالبية المعارضين للحزب يرفضون أن يكونوا «مشروعا شيعيا» في مواجهة مشروع «حزب الله»، مفضلين التزام خيار الدولة والخطاب الوطني.
وأتت برقيات «ويكيلكيس» التي نشرتها عدة صحف قبل أربع سنوات، من بينها صحيفة «الأخبار» اللبنانية لتلقي الضوء على مواقف مجموعة من الشيعة اللبنانيين كانوا يتناقشون مع أركان السفارة الأميركية في الوضع السياسي الداخلي، وتأثير «حزب الله» في الشارع الشيعي، وكيفية مواجهة هذا التأثير. وقد شهر الإعلام الموالي للحزب بهؤلاء، وتم تصنيفهم على أنهم «خونة»، وأعطوا اسما هو «شيعة السفارة» أو «شيعة فيلتمان» بالإشارة إلى السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان.
وقد تسلط الضوء على المعارضين الشيعة، بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري في عام 2005، فخرج هؤلاء إلى العلن لأول مرة، وألفوا ما عرف بـ«اللقاء الشيعي» الذي ضم معارضين للحزب. غير أن هذا اللقاء تعرض لضربة قاصمة من قبل «14 آذار» بذهابها في وقت لاحق إلى تحالف انتخابي مع «حزب الله» وحركة «أمل»، القوة الشيعية الثانية. ويتهم الكاتب والصحافي قاسم قصير تيار «المستقبل» بتفشيل اللقاء. ويعدد قصير، الملم بملف الحركات الإسلامية، لـ«الشرق الأوسط» عدة أسباب لعدم قدرة المعارضين للحزب على إثبات أنفسهم في المواجهة المفتوحة معه، أبرزها «تشتت هذه القوى وانقسامها وعدم وجود قاسم مشترك بينها»، مشيرًا إلى أن عددا من هؤلاء تم استعمالهم من قبل تيار المستقبل وقوى «14 آذار» للاستفادة منهم تكتيكيا من دون دعم حقيقي. ويضيف قصير سببا جديدا هو النظام الانتخابي الأكثري الذي يمنع هؤلاء من التمثل في البرلمان، بالإضافة إلى «سوء خطاب المعارضين الذي لا يراعي حساسيات البيئة الشيعية التي يمثلها»، معتبرًا أن هؤلاء همهم الأساسي هو انتقاد «حزب الله» وحركة «أمل» من دون الانتباه إلى ما يفكر به المواطنون الشيعة وما يراعي هواجسهم. وأوضح أن «اقتصار عمل هؤلاء على الجانب النخبوي أثر على حركتهم وقلل من وصولهم إلى الناس»، متحدثا عن عامل آخر هام هو الفساد المالي وإساءة التصرف بالأموال التي تلقاها بعض هؤلاء لتنفيذ مشاريع. ولفت إلى أنه لم يتم تنفيذ أية مشاريع ملموسة لها علاقة بتحسين أوضاع الناس، بغض النظر عن عدم دقة مقارنة قدراتهم بقدرات «حزب الله».
ويقر منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار فارس سعيد أن المعارضين الشيعة «مظلومون» من قبل 14 آذار، إلا أنه أكد أنهم ليسوا وحدهم فـ«أيضا الأرمن المعارضين للطاشناق مظلومين وغيرهم أيضا». وقال سعيد لـ«الشرق الأوسط»: «كل من يظن أنه قادر أن يغير قوى الأمر الواقع داخل طائفته غلطان. لذلك في أي حلحلة تصبح مع حزب الله لا يمكن أن يكون للمعارضين الشيعة دور، رغم أننا نسعى لذلك». وأضاف: «نحن نعترف بهذا التقصير ونعمل من أجل حلحلة الوضع عبر إنشاء المجلس الوطني لقوى (14 آذار) ونريد أن يكون دورهم فعالا أكثر في الأيام المقبلة».
ويرى الكاتب اللبناني محمد شبارو أن ما جعل «شيعة السفارة»، بالمفهوم المعارض لـ«حزب الله»، لقمة سائغة للحزب وتهديداته واعتداءاته، هي «14 آذار» بحد ذاتها، بأحزابها وتياراتها، المتفردة دومًا بالقرار، والرافضة لأي صوت مضارب، وهو عمليًا ما أدى إلى سقوط فكر «14 آذار»، كقوى عابرة للمناطق والطوائف والمذاهب، وتحولها إلى مجلس ملّي لبعض الأحزاب المسيطرة على شارع طائفي معين. وقال: «في عام 2005، ومع انطلاق ثورة الأرز، لم يكن الشارع الشيعي خارج (الثورة)، كان حضوره من حضور باقي الطوائف، سنّة ودروز وموارنة، وإن خارج القيد الطائفي. في ذلك الوقت، شاركت أعداد ضخمة من الشيعة المعارضين للوجود السوري، في لبنان، والذين رأوا في جماهير ساحة الشهداء خير ممثل لهم ولنظرتهم إلى لبنان. لكن بعد عام 2005، انتهجت أحزاب السيادة والاستقلال سياسة إقصائية واضحة، لم تراعِ فيها أي حيثية تذكر لـ«شيعة السفارة»، بدءًا من الحلف الرباعي، مرورًا بكل السياسات المتبعة مع «حزب الله» وحركة «أمل» والتي كرستهما ممثلين وحيدين للطائفة الشيعية. ولفت إلى أنه «حتى على أبواب الانتخابات النيابية عام 2009، دخلت إلى بيت الطائفة، إما بأسماء إقطاعية، أو بأسماء هامشية غير قادرة على خرق الشارع، ولا حتى تقديم أي برنامج أو فكر مضارب، نظرًا إلى سمعتها وصيتها المعروف بقاعًا وجنوبًا». ورأى أن أحزاب وتيارات «14 آذار» لم تقدم مشروعًا واحدًا للعبور الجدي إلى الدولة المدنية. على العكس، قدمت منذ عام 2005 مشروع الدولة الطائفية المركبة وفق المحاصصة بين تيارات يمثل كل منها طائفة. تماهت مع السائد لبنانيًا حدّ العمى، بدلاً من أن تقدم جديدًا يسهم في العبور إلى الدولة. قدمت مشروعًا يضم «المستقبل» عن السنّة، و«القوات» و«الكتائب» عن الموارنة، وبقية غبّ الطلب انتخابيًا أو للمناكفة مع «حزب الله» وحركة «أمل».
ويقول الكاتب والصحافي اللبناني علي الأمين، أحد المصنفين من «شيعة السفارة» إنه لا يمكن وصف حال الشيعة المعترضة على «حزب الله» بأنها «قوى شيعية تريد أن تشبه حزب الله وتنافسه على القرار السياسي للطائفة». ويضيف الأمين الذي يدير موقع «جنوبية» المتخصص بشؤون الجنوب اللبناني: «معظم القوى الشيعية تعتبر نفسها في البعد السياسي منتمية إلى أطر وطنية تبتعد عن الجانب الآيديولوجي المذهبي - الطائفي. وإذ يشدد لـ«الشرق الأوسط» على أن لا مشروع شيعيًا لهذه القوى، يجزم بأنها تنتمي بطبيعتها إلى الهوية اللبنانية وعنوانها السياسي الذي يجعل لبنان وطنا، والهوية الوطنية هي الهوية المتقدمة على كل الهويات. ويرى الأمين أن حزب الله أوغل في هويته الآيديولوجية التي تجعله يعتقد أن من حقه أن يكون موجودا أينما احتاج الأمر، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا، وهذا غير موجود لدى معارضيه الشيعة وجزء كبير من الشيعة غير المسيسين.
ويعتبر الأمين أن أحد أهم عناصر قوة حزب الله، إضافة إلى العسكر والمال والسياسة، هو أنه يتغذى بنفوذه من العناصر المتطرفة في المقابل، فيستفيد من «داعش» كما يستفيد «داعش» وغيره من المتطرفين من الحزب لخلق النفوذ في بيئاتها. وهذا ما يجعل الحزب يذهب بعيدا في المزيد من التعبئة المذهبية التي تجعل الناس تعيش الخوف من الخطر الوجودي، مما يجعل من الصعوبة بمكان أمام الخيارات المعتدلة أن تثبت وجودها.
ويشير الأمين إلى أن التيارات المعارضة للحزب في البيئة الشيعية هي «أطراف لها هويتها العربية والوطنية ولدى بعضها الصفة الشيعية». ويقول: «إنها قوى متنوعة منها ما له عنوان وطني، ومنها عنوان تقليدي (العائلات الكبرى) ومنها أيضا عنوان ديني يختلف مع «حزب الله» في رؤيته. لكن هذه القوى على اختلافها عارضت تدخل حزب الله في سوريا»، معتبرا أن مخاطر هذا التدخل بدأ الناس يتلمسونها اليوم، خصوصا أن الحزب بدأ بخطاب الدفاع عن الأسد، ووصل به الأمر اليوم إلى خطاب الدفاع عن لبنان، موضحًا أن الخسائر البشرية الكبيرة غير المتوقعة تلعب دورها. وقال: «هناك نوع من القلق وسؤال (إلى متى؟) بات موجودا داخل الطائفة، وهذا قد يؤدي إلى إمكانية سماع الأصوات المعتدلة. واستدرك: «لا أريد أن أقول إن هناك تحولا، لكننا في لحظة تأمل، خصوصا أن الحزب انتقل من خطاب القوة إلى لغة مختلفة فبدأ يتحدث عن أنه (لو ذهب نصفنا أو ثلاثة أرباعنا سنكمل) وهذا مؤشر على خطاب الخوف أو التخويف القائم بعدما كان يعد دائما بالانتصارات». وإذ يرى أنها «لغة لها تأثير سلبي على الجمهور»، مشيرا في المقابل إلى أن لها تأثير آخر يساهم بالمزيد من إمساك الحزب للقرار داخل الطائفة.
وفي جميع الأحوال، يرى الأمين أن ثمة فرصة الآن للقوى المعارضة للحزب للتعبير عن موقفها، وفرصة أكبر لخطوات عملية نحو المزيد من التأكيد على العودة إلى الدائرة الوطنية، وهذا هو الخيار الاستراتيجي لهذه القوى في سعيها إلى حماية لبنان وتحصينه من الداخل وحماية الطائفة من التداعيات المحتملة للتغيير الحقيقي في سوريا. ويشدد على أن يكون هذا كله في سياق تأكيد على الهوية اللبنانية كهوية متقدمة، على أساس الشراكة كمجموعات طائفية ومذهبية، مما يفرض على الجميع أن يحترم حقوق الشراكة الوطنية».
ويشدد الأمين على أن خيارات الطائفة الشيعية في لبنان هي تلك التي عبر عنها الإمام موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والقيادات الشيعية اللبنانية الأخرى التي كان لها دور في تثبيت الكيان اللبناني والتأكيد على الهوية الوطنية اللبنانية.
على الصعيد الشخصي، يرفض الأمين الذي يعيش ويعمل في ضاحية بيروت الجنوبية، أن يدخل في «ادعاءات» حول الضغوط التي يتعرض لها. مكتفيا بالقول إنها «تجربة مكلفة». ويقول: «من المؤكد أن كل من يريد أن يأخذ موقفا معارضا يعي أنها مسألة مكلفة»، ويبرر ذلك بالقول: «الناس لديها مصالحها، وحزب الله يمسك بمصالح الناس، وقد تخطى بذلك الرئيس نبيه بري الذي تراجعت خصوصيته. فالمعارض (للحزب) إذا أراد أن يذهب لمراجعة البلدية في بعض شؤونه سيلاقي مصاعب، وكذلك في مؤسسات الدولة الرسمية وحتى القطاع الخاص. ليخلص إلى القول إن تكلفة معارضة الحزب هي «تكلفة عالية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا».
وفي الإطار نفسه، يشير الناشط السياسي، وعضو تجمع «لبنان المدني» مالك مروة إلى أن صحيفة «الأخبار» كانت أول من استعمل تعبير «شيعة السفارة»، معتبرا أن هذه التسمية يمكن أن تستعمل مع أي شخص يختلف مع «حزب الله» وهي طريقة لتخوينه وهدر دمه في مكان ما. ويرى مروة أن مضمون ما نشر في برقيات «ويكيليكس» عن الشخصيات الشيعية المعارضة لا يمكن أن يقارن بما قاله حلفاء «حزب الله» في هذه البرقيات. ويفضل مروة استعمال تعبير «المختلفون» بدلا من المعارضين، معتبرا لـ«الشرق الأوسط» أن غالبية هؤلاء خيارهم هو الدولة والعودة إليها، وبناء وطني يتسع فيه الجميع. ويشدد على أن هؤلاء لا يمتلكون مشروعا شيعيا ثانيا، لكنهم مضطرون أن يتحدثوا اللغة الطائفية، وأن يتكلموا كشيعة لأن النظام السياسي في لبنان يصنف الناس وفق انتماءاتها الطائفية.
ويلمح مروة إلى أن عدم تأطير «المختلفين الشيعة» عملهم في هيئة أو حزب، مرده أن هذا التأطير سيجعلهم في مواجهة الخطر المباشر. ويقول: «فضل الكثيرون العمل على الصعيد الفردي تجنبا لمخاطر العمل كمجموعة»، ويشدد مروة على أن الخروج من الاستقطاب الطائفي القائم يحتاج إلى مساهمة كبيرة جدا. ويرى أن الشيعة في لبنان، وغيرهم من الأقليات في المنطقة، يحتاجون إلى الخطاب السني المعتدل. وإذ يؤكد أن غالبية السنة في المنطقة هم معتدلون، يرى أن الظواهر المتشددة تستهدف الاعتدال السني بالدرجة الأولى. ويأخذ على المكونات السياسية والطائفية الأخرى في لبنان عدم اعترافها بوجود شيعة يختلفون عن «حزب الله»، ويحصرون حوارهم معه، مما يضعف دور المختلفين الذي يواجهون باللحم الحي ماكينة سياسية عسكرية اقتصادية تدفع ملايين الدولارات سنويا. ويضيف: «الشيعة المستقلون في لبنان، هم أكثر أناس تركوا، وهم يتابعون نضالهم من دون كلل أو ملل» معتبرا أن تأثير هؤلاء بات كبيرا إلى حد أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله اعترف بخطرهم، بعد أن كان يتجاهلهم طويلا ويعتبرهم غير موجودين.
ويؤكد مروة أن «الإيرانيين والسوريين ابتدعوا مسألة (حصرية المقاومة)، ووضعوها بيد (حزب الله) وبقية المكونات صفقت له، واعترفت له بهذا الحق، مما أعطاه مشروعية معينة في نظر الناس العاديين». واعتبر أن المواجهة لا تكون بخطاب شيعي مضاد، بل بخطاب وطني. وعبر مروة عن شعور متنامٍ بين أبناء الطائفة الشيعية في لبنان حين قال: «نحن نقف ضد حزب الله حرصا عليه وعلى الشيعة ولبنان. وتلويث يده بالدم السوري مرفوض تمامًا، وهو مشروع خاسر، ونقول له دائما: «سلم سلاحك للجيش اللبناني، ولنبحث في كيفية حماية أنفسنا».
ويبدي مروة أسفه لأن خصوم حزب الله يحاولون استعمال الشيعة المستقلين في المواسم التي يحتاجونهم فيها، كالانتخابات أو عند حصول مشكلات في البلد، أما عندما يريدون حل المشكل، فيذهبون إلى «حزب الله».
ومع هذا كله، يرى مروة بارقة أمل «لأن وهم القوة جربته كل الطوائف اللبنانية قبل الشيعة، وكان الخاسر دوما لبنان واللبنانيين، وهذا ما سيكتشفه الشيعة آجلا أم عاجلا». مشيرًا إلى أن الحل الثاني هو «حروب أهلية لا تنتهي».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.