رحلة تاريخية وفلسفية وفيزيائية في بُعدٍ غامض ومدهش

في البحث عن الزمن وطبيعته الإشكالية

دان فالك
دان فالك
TT

رحلة تاريخية وفلسفية وفيزيائية في بُعدٍ غامض ومدهش

دان فالك
دان فالك

كان الزمن، وسيظلُّ، موضوعاً لدراسات بحثية معمّقة على الأصعدة التاريخية والثقافية والفلسفية والفيزيائية. أسبابٌ كثيرة تسوّغُ استمرارية هذه الدراسات، منها:
- الزمن موضوعٌ تتقاطعُ فيه معظم الحقول المعرفية.
- الزمن هو أساس تجربة الوعي البشري.
- الزمن تركيب عقلي في نهاية المطاف وليس كينونة مادية مشخّصة توجد بمعزل عن الذات المُدْرِكة (أو العقل الواعي بالتعبير الفلسفي التقني).
- بقدر ما يبدو الزمن كينونة مألوفة وملازمة للوجود البشري فإنه مفهوم يكتنفُ بأشدّ الغموض والتعقيد.
- الزمن هو أعظم ما يهتمُّ لشأنه البشر حتى لو لم يعرفوا هذا. تجربة العمر –مثلاً– والاستحالات التي تترك أثرها على الناس لا يمكن نكرانها أو إغفالها من جانب أي شخصٍ بصرف النظر عن خلفيته العلمية والثقافية.
- الزمنُ ليس كينونة انفرادية بذاتها بل يتلازم دوماً في هيئة ثنائيات: الزمن والمكان، الزمن والوعي، الزمن والذاكرة؛ ومن هنا سحره الطاغي وجاذبيته البحثية.
نحنُ –باختصار– مخلوقات الزمن، ومتجذّرون فيه.
* * * * *
كثيرة هي الكتب التي تناولت مفهوم الزمن، ومنها كتبٌ تمّ التعريف بها في ثقافية «الشرق الأوسط»، أذكر منها –مثلاً– كتاب «نظام الزمن» للفيزيائي العالمي كارلو روفيللي. قد يَردُ مفهوم الزمن في فصول محدّدة من بعض الكتب، مثل كتاب «العالم كما تفهمه الفيزياء» للفيزيائي جم الخليلي؛ لكنّ الكتاب الحديث المنشور عن «دار المدى» بعنوان «في البحث عن الزمن: رحلاتٌ في بُعدٍ مدهش In Search of Time: Journeys in a Curious Dimension»، لمؤلفه دان فالك Dan Falk بترجمة أنيقة للدكتورة رشا صادق التي أضافت الكثير من الهوامش التعريفية للكتاب وساهمت في تعزيز مادته... يختلف هذا الكتاب عن الكتب الأخرى بكونه يقدمُ تناولا شاملاً لمفهوم الزمن في سياق تاريخي وفلسفي وفيزيائي، وهذا ما يمنحُ الكتاب قيمته الإثرائية للقراء. من المثير أنّ المؤلف يمتلك تحصيلاً دراسياً في الفيزياء والصحافة والكتابة العامة لجمهور القرّاء؛ وعليه فإنّه يحكي من داخل المشغل الفلسفي والفيزيائي وليس متطفلاً عليهما.
يكتبُ المؤلف في تمهيده للكتاب عن الطبيعة الإشكالية للزمن فضلاً عن تأليف كتابٍ عنه:
«قُلْ للناس إنّك تؤلّف كتاباً عن الزمن وستتلقى ردود أفعالٍ مدهشة! هل ستكتب عن السَّفَر عبر الزمن؟ أؤكّد لهم أنّ كتابي يطرح أسئلة ساحرة عن طبيعة الزمن نفسه وعن الفضاء وعن قوانين الطبيعة. بعضُ الناس يخمّنون أنني أكتبُ كتاباً عن (الفيزياء)، ولا بد أنه سيكون تقنياً متخصصاً، فيه الكثير عن الإنتروبيا وحدود العالم وما إلى هنالك. أطمئنُ هؤلاء: هذا الكتاب، على الأقل، ليس كتاب فيزياء فحسب. هدفي هو مقاربة أوسع للغز الزمن من اتجاهات متعدّدة...».
يحتشدُ الكتاب بمفردات تقنية فلسفية كثيرة؛ لكنّ فرادة المؤلف تكمنُ في قدرته على تحويل هذه المفردات من الفضاء التجريدي التقني إلى الفضاء العام عبر سرديات حكائية يمتلك زمام قيادتها بغية الإمساك باهتمام القارئ. يضمُّ الكتاب اثني عشر فصلاً، تختصُّ الفصول الأربعة الأولى منها بموضوع تاريخ الزمن، ومن عناوين هذه الفصول: دورات الزمن الطبيعية، والبحث عن التقويم المثالي، وتقسيم اليوم، والزمن والثقافة. الفصول الباقية تختصُّ بفيزياء الزمن وفلسفته. ولن يخفى على القارئ هذا التلازم الوثيق بين فيزياء الزمن وفلسفته إلى حدٍّ لا يعود معه ممكناً تناول فيزياء الزمن بمعزل عن فلسفته، ولعلّ هذه الحقيقة تؤكّد الرأي الشائع أنّ الفلاسفة الحقيقيين في عصرنا هذا هم فيزيائيون بالضرورة. نقرأ في عناوين فصول الجزء الفيزيائي – الفلسفي: الذاكرة جسر عبر الزمن - زمن إسحق (نيوتن) - زمن ألبرت (آينشتاين) - العودة إلى المستقبل - البحث عن فجر الزمن – ما قبل البغ بانغ (الانفجار الكبير) - كل شيء يجب أن يموت - الوهم والحقيقة. لا بأس من الإشارة إلى حقيقة أنّ مفهوم سهم الزمن Arrow of Time –بكلّ أشكاله– يلعبُ دوراً مركزياً في هذه الفصول، وسيشهد القارئ أطروحات مثيرة في كيفية تعشيق هذه الأشكال بعضها مع بعض.
من الأفكار المثيرة في الكتاب تلك الخاصة بفكرة كلّ من نيوتن ولايبنز عن الزمن:
«اعترض عددٌ من الفلاسفة على فكرة الزمن (النيوتني) المطلق، وجادلوا لمصلحة مفهوم علائقي relational للزمن؛ أي بمعنى أنّ الزمن له معنى فقط من خلال علاقته بحركة جسم مادي. أحد أبرز مناصري هذا الرأي كان فيلسوفاً ورياضياتياً ألمانياً معاصراً لنيوتن هو غوتفريد لايبنز (1646 – 1716)... الزمن وفقاً للنظرية العلائقية هو –ببساطة- طريقة لمقارنة حدث ما مع حدث آخر وليس مستقلاً عن العناصر المادية التي تشكّل الكون...».
حرص المؤلف على إيراد الكثير من الأفكار في سياق سردية روائية محببة للقارئ، حتى لكأنّ القارئ يكادُ يرى المشهد السردي حياً أمامه. هاكُم مثال:
«التقيتُه (جوليان باربور) في منزله، وهو منزل ريفي عمره ثلاثمائة وخمسون عاماً، ذو سطحٍ من القش، مبنيٌّ في قرية ساوث نيو إنغتون شمال أكسفورد شاير. دعاني إلى الحديقة حيث شربنا الشاي وتحدّثنا عن الزمان والمكان، عن الحركة والتغيّر، وعن ماخ ومينكوفسكي. انطباعي عن باربور أنّه عالم وجنتلمان إنجليزي ريفي في آن واحد. تمّ لقاؤنا في أواخر الربيع، الشمس ساطعة وفق المعايير البريطانية، ورائحة أزهار الويستريا تفوح في الجو... ثم انتقلنا إلى داخل المنزل كي نتناول عشاء من الهليون والخبز والزبدة والجبنة...».
هاكمُ مثال ثانٍ يختصُّ بآينشتاين:
«في بيرن يتجوّل الزوّار في الشقة المتواضعة التي عاش فيها آينشتاين خلال ذروة قدراته الإبداعية، ويزورون الغرفتين حيث تناول وجبات بسيطة مع زوجته، وهدهد ابنه الرضيع كي ينام، وعزف على الكمان، وتخيّل كوناً جديداً. كان أصدقاؤه يزورونه على العشاء، ويتناقشون مطوّلاً. تحدّثوا عن الميكانيك والكهرباء، عن الساعات والأطر المرجعية، عن الفيزياء والفلسفة... في دوّامة تلك النقاشات التي غذّتها السجائر والقهوة التركية بدأت بذور النسبية الخاصة تتولّد في عقل آينشتاين...».
يمكنُ للقارئ بعد إتمام هذا الترحّل المدهش في الزمن أن ينتهي إلى خلاصة تتجوهر فيها آراء فلاسفة العلم والفيزيائيين المعاصرين، مفادُ هذه الخلاصة أنّ ملايين من سنوات التطوّر البيولوجي، فضلاً عن آلاف السنوات من التطوّر الثقافي واللغوي، شكّلت عقولنا بطريقة تجعلنا نتخيّلُ «جريان» الزمن رغم أنّ هذا الجريان غير موجود على أرض الواقع. إنه وهمٌ ليس أكثر، وقد خلق هذا الوهمُ معضلة يشترك فيها الفلاسفة وعلماء النفس. ربما سيتّضحُ لنا آخر الأمر أنّ (جريان الزمن) معضلة شديدة التعقيد تنتمي إلى صنف المعضلات الكبرى في حقلَي الفلسفة وعلم النفس، وهي معضلاتٌ على شاكلة: ما الذات؟ وما الوعي؟
يختتم المؤلف كتابه بعبارة مؤثرة وذات قيمة دلالية كبيرة وردت في رسالة عزاء كتبها آينشتاين بتاريخ 21 مارس (آذار) 1955 لعائلة أحد أصدقائه الحميمين، ميشيل باسو، الذي عمل معه في مكتب براءات الاختراع في بيرن، العاصمة السويسرية، قبل أن يصبح آينشتاين نجماً لامعاً. كتب آينشتاين في عبارته تلك:
«الآن، وقد غادر (ميشيل) هذا العالم الغريب قبلي بقليل، هذا لا يعني شيئاً بالنسبة لنا نحن الفيزيائيين المؤمنين. الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهمٍ عنيد».
صدق آينشتاين في نبوءته تلك؛ فقد لحق بزميله القديم بعد أقلّ من شهر عقب إرساله رسالة التعزية.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.