عبد الغني طليس... تجربة متنوعة لم ينصفها النقاد

وظف موهبته بمجالات عدة وظل الشعر في طليعة اهتماماته

عبد الغني طليس... تجربة متنوعة لم ينصفها النقاد
TT

عبد الغني طليس... تجربة متنوعة لم ينصفها النقاد

عبد الغني طليس... تجربة متنوعة لم ينصفها النقاد

منذ فوزه بالمركز الأول عن فئة الشعر في برنامج «استوديو الفن» في سبعينات القرن الماضي، لم يكف الشاعر اللبناني عبد الغني طليس عن تأكيد حضوره الفاعل والمتنوع في الحياة الثقافية اللبنانية. والواقع أن البرنامج المذكور، وإن كان قد وفّر للشاب البقاعي الممتلئ حيوية وطموحاً، قدراً غير قليل من الشهرة، فهو قد حمّله من جهة ثانية عبء البحث عن معنى للكتابة، أبعد غوراً من الانتشار العابر وبريق النجومية الخلّبي. ومع ذلك؛ فإن طليس، وقبل أن تشق هويته الإبداعية طريقها إلى التبلور، قد آثر أن يختبر قدراته الكامنة عبر غير مجال أدبي وإبداعي، فخاض إلى جانب الصحافة الفنية والأدبية، غمار التلحين وكتابة الأغاني والتمثيل، وتقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية، حيث لا يزال يقدم برنامجه الثقافي «مسا النور» على إحدى المحطات المرئية اللبنانية، منذ عقدين ونيف من الزمن.
على أن هذه الخلطة المتنوعة من مواهب طليس واهتماماته، لم يكن لها أن تغيّب عن باله حقيقة أن الشعر، دون سواه، هو الفن الألصق بوجدانه، بقدر ما يمثل بالنسبة إليه هويته الإبداعية الحقيقية. وهو ما يفسره تأخر طليس الواضح في النشر، وإحجامه لسنوات عدة عن إصدار قصائده ونصوصه المتنوعة في كتب وأعمال مستقلة.
والأرجح أن الأمر ليس عائداً إلى المزاج الشخصي فحسب؛ كما يذكر طليس في إحدى مقدمات دواوينه، بل إلى شعوره؛ وقد تأخر في النشر، بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه من جهة، وإلى ارتباط الشعر عنده بعنصر المشافهة والأداء الصوتي، قبل أن يصل إلى الاستنتاج أن التدوين؛ دون سواه، هو ما يوفر للنصوص فرصة المواجهة الحاسمة مع الزمن.
وإذا كان عبد الغني طليس قد شاء لكتابه الأول «ما تيسر من عبد» أن يكون خليطاً متنوعاً من النقد والسياسة وأدب السيرة والشعر المحكي والفصيح، فهو سرعان ما أوقف أعماله اللاحقة على الشعر وحده، بوصفه الفن الأكثر فرادة وتطلباً، والأقل قابلية للشراكة والتقاسم. ومع ذلك؛ فإن طليس الضجر من القوالب النهائية للخيارات والمأخوذ بهاجس التنوع، لم يتوان عن نقل نزوعه «التعددي» ورغبته في التنوع، إلى داخل الشعر نفسه، فارتأى أن يكتب بعض نصوصه باللغة المحكية، وأن يوزع قصائد الفصحى بين النسق الكلاسيكي الخليلي وبين الشعر الحر، أو ما سمي «قصيدة التفعيلة».
ومع أن هذه المقالة لا تتسع لتقصي خيارات طليس الثلاثة، والوقوف المفصّل على أبعادها الرؤيوية والأسلوبية، فإن أية قراءة متأنية لأعماله العديدة، لا بد من أن تقودنا إلى الاستنتاج أن قصائد الشاعر المكتوبة بالمحكية، هي الترجمة الفعلية لانحيازه إلى لغة المشافهة التي تنتقل بشكل فطري من القلب إلى اللسان، ومن اللسان إلى الورقة البيضاء. وإذا كان الحب في تلك المرحلة هو موضوع الشاعر الأثير، فإن المرأة المعشوقة عند طليس لا تحضر مجردةً من «جماليات المكان» وتجلياته المتعددة، كما يقول باشلار. وعلى نسق التجارب الريادية لميشال طراد والأخوين رحباني وطلال حيدر وغيرهم، تُظهر نصوص طليس ميله الواضح إلى استلهام التراث والفلكلور الشعبي، كما ينعكس في قصائده نوع من جدلية الصورة - الصوت، إضافة إلى ثنائية الإنسان - المكان.
وليس من قبيل الصدفة بالطبع أن تحتل قصيدة الشطرين الخليلية الجزء الأكبر من نصوص طليس ودواوينه؛ بدءاً من مجموعاته الأولى ووصولاً إلى عمله الأخير «سماوات الحب العشر» الذي يكاد يقتصر على النماذج الشعرية الكلاسيكية. وليس الأمر عائداً إلى حساسية الشاعر الفطرية تجاه الأوزان فحسب؛ بل إلى إصراره المستمر على عدم الخضوع لما يعدّه «رهاب» الحداثة، وقبض سدنتها المحكم على عنق الكتابة الشعرية. وهو تبعاً لذلك لم ير في بحور الشعر خطيئة ينبغي التبرؤ منها، عادّاً أنها تحمل من ضروب الجوازات وأنظمة النبر الإيقاعي ما يستعصي على النفاد.
وإذا كان عبد الغني طليس ينطلق من الفكرة القائلة إن الشعر الحقيقي لا تحدده الأشكال وحدها؛ بل رؤاه ومعانيه وكشوفه، فإن إصراره على كتابة القصيدة الخليلية هو ضرب مزدوج من ضروب التحدي. فهو إذ يريد الإثبات للآخرين أن الشكل الشعري الكلاسيكي ما زال قادراً على استيلاد لغته وتجديدها، وفقاً لموهبة مستخدميه، يحاول من جهة أخرى أن ينازل من غير زاوية ومكان، رموز الكلاسيكية الكبار؛ بدءاً من المتنبي؛ ووصولاً إلى سعيد عقل. وهو ما يظهر واضحاً في ديوانه «أغني لعودة الملك»، حيث يدعو في قصيدته «ليسمح المتنبي لي» إلى إنزال أبي الطيب من خانة الأسطورة إلى خانة الواقع، كما يدعو الشعراء الجدد إلى محاورة المتنبي من موقع الشراكة الندية، إن لم يكن من موقع التجاوز والمغايرة، بعد قرون طويلة من تقليده وتبجيله ومحاكاته. وهو ما يعكسه قوله:
وصار ألف لزامٍ أن نسابقه
في ما استطعنا إلى إدراكه سُبُلا
وفي الإطار ذاته يقيم الشاعر حواراً مماثلاً مع سعيد عقل، الذي يسميه «حامل الكواكب» ويخاطبه بالقول:
وهذا هو الدهرُ العظيم مسلّمٌ
بكفّيه كفّيك اللطاف كتابا
فمن رقَصات النثر رقرقتَ أنهراً
وعن آلهات الشعر شلْتَ نِقابا
شهدتكَ في المجهول فُكّ حجابه
شهدتكَ في المعلوم صار حجابا
شهدتكَ حتى الموت والموتُ لعبةٌ
يصير بها درب الذهاب إيابا
وإذا كنا نعثر في قصائد طليس الخليلية على كثير من اللقى الرؤيوية والجمالية، خصوصاً حين يخلد الشاعر إلى ذاته العميقة وأسئلته الميتافيزيقية، فإن نصوصه لا تستقيم في سوية واحدة، خصوصاً تلك التي تتحول إلى سرديات وشروح ذهنية لبعض العناوين والموضوعات الاجتماعية والأخلاقية، التي يتقصد الشاعر معالجتها والإجابة عنها، كما في مقطوعته القصيرة «ربّ العمل» على سبيل المثال لا الحصر، حيث يقول:
أقلعْ عن خوفٍ أو دجلِ
واعلمْ هذا قبل الأجلِ
في أرفع أو أدنى عملٍ
لا ربّ له ربُّ العملِ
لكن من الضرورة بمكان ألا أختم هذه المقالة دون التوقف قليلاً عند التجربة المتقدمة والمتميزة التي يقدمها عبد الغني طليس في إطار النسق التفعيلي. فرغم أن كثيراً من الشعراء المتمرسين في القصيدة الكلاسيكية، يقعون في مزالق الوهن والافتعال الممجوج حين يقاربون قصيدة الشعر الحر، بحيث تبدو كتابتهم لها نوعاً من المجاراة لموجة الحداثة السائدة، يُظهر صاحب «فوق رؤوس العالمين» في قصائده التفعيلية امتلاكاً واضحاً لناصية النص الحداثي، سواء في إطار حرصه الدؤوب على اقتفاء أثر المعنى ومنعه من التشتت، أو في إطار حرصه المماثل على رفد الشكل بكل ما يلزمه من أسباب المرونة والدينامية الأسلوبية والانسياب التلقائي للإيقاع. وهو ما يظهر جلياً في ديوان «فوق رؤوس العالمين»، وعلى الأخص في قصائد «هذيان» و«سيرة ذاتية» و«حوار من طرف واحد مع الموت»، أو في القصيدة المهداة إلى زوجته وبناته الأربع، أو في قصائد الحب التي رفدت قلبه بنيران الشغف والافتتان، وأترعت مخيلته ببروق الاستعارات، وبالأطياف المخاتلة للمرأة المعشوقة، التي يخاطبها الشاعر على شفير الاختناق، بقوله:
لا تطلبي شيئاً
ولا تتخيلي أني سأطلب منكِ شيئاً،
واسمعي ماذا يدور على حوار اللمس فينا
والهواء يكاد ينضبْ
ولدتكِ نفسكِ فانتبهتِ وما انتبهتُ،
وكنتِ وحدكِ تمنحين معالمي حبّاً
يعود إلى كنوز الفطرة الأولى
وفوق معابر الأقدار يُصلبْ
ولدتكِ نفسُكِ كي أصدّقَ أن لي يوماً
إليه الآن أذهبْ


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».