اسم المبنى «ورشة الأضواء»، ويقع في الدائرة الحادية عشرة من باريس. ويطيب للقائمين على هذه الورشة أن يصفوها بأنها مركز للفنون الرقمية. وفيها يجد الجمهور نوعاً مبتكراً من العروض الفنية يعيد تقديم روائع كبار الرسامين من وجهة نظر ضوئية، إذا جاز التعبير.
من هنا يأتي المعرض المقام في الورشة، حالياً، بعنوان «سيزان سيد الأقاليم». وهو معرض ينسجم مع الموسم الصيفي الذي تسطع فيه شمس دافئة ويبحث فيه الزائر والسائح عن أفياء تجدد الدورة الدموية وتشحن بطارية الروح استعداداً لخريف غائم وشتاء ثقيل. إنه يعرف الرسام الفرنسي سيزان وربما شاهد لوحاته الشهيرة في متاحف الفن الحديث والكتب المصورة، لكنه سيراها هنا مشغولة بريشة العصر وبما تتيحه التقنيات الحديثة من إمكانات. فلوحات مثل «السابحات الكبيرات» و«لاعبو الورق» و«طبيعة ساكنة بالتفاح»، ستخرج من إطاراتها المحددة وأشكالها المعروفة في المتاحف لتتحول إلى جداريات كبيرة يعاد إنتاجها بأضواء كهربائية تبعث فيها روحاً جديدة.
ولد بول سيزان (1839 - 1906) في بلدة إكس جنوب فرنسا. وكان في فترة من الفترات من فناني المدرسة الانطباعية في الرسم، حاله حال أولئك المبدعين الذين نشأوا في أحضان الريف والطبيعة وتأثروا بإسقاطات الشعاع على الشجر والزهر والجداول والحقول. لكن سيزان سيترك ذلك الأسلوب الانطباعي إلى نوع أكثر تطوراً لينتهي رائداً من رواد الحركة التكعيبية في الفن. وهو سليل النمط الكلاسيكي الفرنسي لكنه لجأ إلى تحديث جوهري في خطوطه حين اعتمد الأشكال الهندسية في رسمه للوجوه وللجمادات أو المشاهد الطبيعية الساحرة، سواء في ضواحي باريس أو في مسقط رأسه. ومن أشهر أعماله تلك السلسلة من اللوحات التي خصصها لتصوير جبل «سانت فيكتوار» وجعلت منه أب الفن المعاصر.
لا يملك زائر المعرض إلا أن يتساءل حول شرعية «التلاعب» بأعمال كبار الفنانين بعد مرور عقود على رحيلهم. إن لوحة مثل «الموناليزا» للإيطالي دافنشي ألهمت مئات المقلدين، وتعرضت لآلاف التحويرات وكانت حاضرة في فنون الدعاية والإعلان وفي رسوم الأطفال وحتى في الملصقات التي تدعو المواطنين لارتداء الكمامات في زمن «كورونا». لقد تعاظمت شهرتها بحيث غطت على حقوق أصحابها وقوانين الملكية الفكرية. فما القول في لوحات سيزان؟ ولو امتد العمر بالفنان فهل كان سيفرح وهو يتابع هذا المعرض المقام في «ورشة الأضواء»، ويعده تكريماً لإبداعاته، أم سيثور، ويرفع الدعوى ضد من يستغل أعماله و«يعبث» بها و«يشوهها». الحق يقال إنه العبث الجميل بل والضروري لكي تبقى تلك الأعمال حية تتنفس، تغادر وحشة المتاحف وتجتذب أجيالاً جديدة من الشباب.
تصف كتب تاريخ الفن بول سيزان بأنه كان ذا بنية رياضية متينة لكنه تمتع بقلب طفل. يتكلم بلهجة ريفية ويدور حرف «الراء» على طريقة أهل الجنوب. وكان من الحياء حد «المعاناة من الخجل»، كما قال عنه أديب فرنسا إميل زولا. مع هذا فإن له نوبات غضبه وردود أفعاله العنيفة، خصوصاً وأنه قد ابتلي بعدة أمراض. قرر في صباه الارتحال إلى العاصمة، لكن والده عارض انشغالاته الفنية. أراد له أن يدرس القانون ويصبح موظفاً في مصرف العائلة. وفي النهاية استسلم الأب لشغف الابن. وفي باريس فشل سيزان في امتحان القبول في المدرسة الشهيرة للفنون الجميلة، لا بسبب نقص في الموهبة بل لتقلبات مزاجه. عاد إلى مسقط رأسه واشتغل مصرفياً ثم عاد إلى العاصمة ودرس الفن وتسجل في «اللوفر» كناسخ للوحات، وكان يقيم لدى والدة زولا وينسخ لوحات ديلاكروا وبوسان ويتعرف على زملاء من أمثال بيسارو ورينوار ومونيه وكل الأسماء التي سرعان ما أصبحت كواكب في سماء الفن الحديث.
لعبة أضواء وألوان بمعرض باريسي عن سيزان
لعبة أضواء وألوان بمعرض باريسي عن سيزان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة