حتى في وفاته غدا محور سجالات حادة. قد يكون ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف، الذي قاد قبل ثلاثة عقود ونيف التحولات الكبرى في العالم، ووقف ذات يوم فخوراً بـ«إنجازاته» وهو يراقب انهيار جدار برلين وما تلاه من تداعيات محلية وعالمية غيّرت موازين القوى، وهدمت الأسوار العالية حول الاتحاد السوفياتي، الضحية الذي دفع ثمن قناعاته مرتين.
مرة عندما أطاحه الليبراليون الذين فتحت سياساته لهم الطريق إلى السلطة، وهذه واحدة من مفارقات التاريخ، ومرة عندما أعادته المواجهة الحالية مع الغرب إلى قفص الاتهام ليس فقط بصفته الزعيم الذي ارتكب «أخطاء» قادت إلى مأساة الانهيار داخلياً، بل لأنه «تهاون» في طلب ضمانات من الغرب في ذلك الوقت، ما أسفر عن إيقاع روسيا لاحقاً في فخ التوسع الأطلسي وسياسات التطويق.
إرث مثير للجدل
بهذا المعنى، بدا أن غورباتشوف يدفع في لحظة وفاته فاتورة جديدة تتعلق بالمواجهة المتفاقمة حالياً مع الغرب، رغم أنه غاب عن المسرح السياسي لثلاثة عقود كاملة. وخلف عبارات التعازي الرصينة والمقتضبة التي نُقلت عن الرئيس فلاديمير بوتين، وخلف التعليقات الكثيرة التي رثت الزعيم الراحل على وسائل التواصل الاجتماعي، ثمة «محكمة» نُصبت للرجل في يوم رحيله، برزت ملامحها في تعليقات المسؤولين البارزين، وتعليقات المحللين السياسيين في أبرز وسائل الإعلام الحكومية.
قال الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف إن «هذه شخصية معقّدة للغاية ومتعددة الأوجه ومتناقضة في كثير من الأحيان. لا تزال تسبب نزاعات صعبة للغاية في بعض الأحيان في مجتمعنا. لكنّ هذا جزء من تاريخنا الذي سيظل يتردد بالفعل لقرون».
بينما «نعاه» سيرغي ناريشكين، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، بعبارات أكثر حدة، ورأى أن «ميخائيل غورباتشوف واجه تحديات خارجية وداخلية كثيرة لم يجد الرد المناسب لها». ووفقاً له، فقد أصبحت البيريسترويكا منذ فترة بعيدة جزءاً من التاريخ، لكن العالم لا يزال يتعامل مع عواقبها حتى الآن، منهياً عبارته بمقولة «حسابه عند ربه» التي تخفي معاني عدة.
عناق بين غورباتشوف ونظيره الأميركي رونالد ريغان (غيتي)
لكن أقسى التعليقات وأطرفها في الوقت ذاته، جاء على لسان وريث الحزب الشيوعي السوفياتي وزعيم الحزب بنسخته الروسية «القومية» غينادي زيوغانوف، الذي قال إن أول رئيس لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية جلب «المحنة والحزن والبؤس». وزاد أنه «كشخص نشأ على تقاليد الثقافة الأرثوذكسية الروسية» يلتزم بقاعدة «أن نذكر شيئاً جيداً أو لا نذكر شيئاً»، مع إشارة إلى أنه هنا «لا شيء جيداً ليُذكر» عندما «يتعلق بسياسيين كبار، اعتمد مصير العالم ورفاهية الناس وكرامة البلد على أنشطتهم».
هكذا انطلق الشيوعي العتيد من إيمانه «القومي السلافي الأرثوذكسي» لينتقد الزعيم الذي هدم المحظورات أمام الشعور القومي والديني في بلاده. وهذه أيضاً واحدة من مفارقات التعامل مع غورباتشوف في روسيا لحظة رحيله.
ويبرز في كل التعليقات تحميل سياسات غورباتشوف المسؤولية بشكل أو بآخر عن المواجهة القائمة حالياً مع الغرب، مع إشارات لافتة إلى ضرورة أن «يتعلم السياسيون من دروس التاريخ التي صنعها غورباتشوف، وأن يكونوا أكثر ولاء لوطنهم»، وفقاً لتعليق المعلق السياسي في وكالة «نوفوستي» الحكومية، وهو تعليق حمل مقارنةً خفية بين سياسات غورباتشوف «الانهزامية» والسياسات الوطنية التي ينبغي أن يسير عليها زعيم الشعب.
غورباتشوف وزوجته وبينهما رئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر في مسرح البولشوي بموسكو عام 1987 (غيتي)
وكتب المعلق: «بقي (غورباتشوف) حتى نهاية حياته موضع الكراهية الشديدة لجزء كبير من المواطنين، الذين حمّلوه المسؤولية الرئيسية عمّا كان عليهم تحمله. المسؤولية عن البلد المدمَّر وعن كابوس التسعينات، عن ملايين الأرواح التي فُقدت في الحروب الأهلية، والتطهير العرقي، والهجمات الإرهابية، وحروب العصابات، عن حياة ملايين الأشخاص الذين لم يكونوا قد وُلدوا بعد». قبل أن يضيف في مقاربة واضحة مع الواقع الحالي: «المصير التاريخي لميخائيل غورباتشوف درس لجميع رجال الدولة. لا يهم إلى أي مدى كنت تعمل بإخلاص وكيف أرشدتك المثل العليا. في النهاية، يتم أخذ النتائج الحقيقية لقراراتك وأفعالك فقط في الاعتبار».
وكتبت وسائل إعلام حكومية روسية أنه «في مرحلة ما، بدا أن الأسوأ قد تُرك وراء ظهورنا، لكن تحول أوكرانيا إلى النازية يُظهر أن دولاب الموازنة الجهنمية، التي تم إطلاقها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يواصل مساره. ما يوجب على روسيا إيقافه –وهي ستفعل بالتأكيد».
سنوات عزلة
عاش الزعيم الراحل، الذي حصل على لقب «أول وآخر» رئيس للاتحاد السوفياتي كونه انتُخب خلافاً لأسلافه في قيادة الحزب الشيوعي كرئيس للدولة التي لم تعمّر طويلاً بعد ذلك، سنواته الأخيرة معزولاً ومريضاً، لكنه لم يسلم للحظة من السجالات التي أُثيرت حوله، خصوصاً أنه ذهب في بعض الحالات إلى انتقاد أداء السلطات. وخاطب بوتين في عام 2013 بعبارة «عليك ألا تخاف من شعبك»، لكنه سرعان ما خفّف من لهجته في وقت لاحق، عندما بدأت العقوبات تنهمر على روسيا بسبب ضم القرم، وانتقد أكثر من مرة «مساعي الهيمنة الأميركية»، وهو أمر برز أيضاً على شكل دعوات وجّهها غورباتشوف أكثر من مرة العامين الماضيين قبل أن يعزله المرض نهائياً في الشهور الأخيرة، بينها دعوة لإطلاق إعلان روسي - أميركي جديد مشترك يشدّد على التزام الطرفين بمنع وقوع مواجهة نووية، أو دعوة إلى تشكيل آلية رئاسية مشتركة لمناقشة المواضيع الأكثر تعقيداً في العالم المعاصر.
غورباتشوف خلال مشاركته في عرض "يوم النصر" في موسكو عام 2019 (غيتي)
لكن ما يميّز الرجل أنه لم يتراجع أبداً عن مواقفه الرئيسية التي صاغها خلال سنوات حكمه. وينفي غورباتشوف بشكل حازم الفرضية القائلة بأنه سعى إلى تدمير الاتحاد السوفياتي، وقد أكّد أنه تعرض لـ«انتهاك إرادة الشعب بأسره» من جانب فئة من المتحمسين للانقلاب على الإرث السوفياتي. الإشارة هنا إلى استفتاء جرى في مارس (آذار) 1991 وأظهر أن أكثر من 76 في المائة من مواطني الاتحاد السوفياتي يريدون المحافظة على الدولة الموحدة، وهو الأمر الذي تم تقويضه بعد مرور شهور من خلال إعلان قيادات روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا توقيع وثيقة إنهاء وجود الاتحاد السوفياتي وقيام رابطة الدول المستقلة.
أما فيما يتعلق بمواقف القيادة الروسية، فقد شهدت مداً وجزراً في مراحل عدة. وقد قيّم الرئيس الروسي دور غورباتشوف في التاريخ العالمي، وذلك خلال تهنئته للزعيم السوفياتي بعيد ميلاده التسعين قبل عامين. عندها، كتب بوتين: «أنت تنتمي بحق إلى الأشخاص المتميزين وغير العاديين، ورجال الدولة البارزين في عصرنا، والذين كان لهم تأثير كبير على مسار التاريخ الوطني والعالمي».
حديث بين بوتين وغورباتشوف قبل لقاء جمعهما مع المستشارة الألمانية السابقة انغيلا ميركل في 2004 (غيتي)
ويقول الصحافي الروسي المشهور فلاديمير بوزنر، إنه «بفضل غورباتشوف، لدينا الآن شيء نعمل به. على سبيل المثال، يمكنك طرح أي أسئلة تريدها. كل هذا بفضل غورباتشوف. الآن هناك حرية التعبير. بشكل عام، أصبحنا أشخاصاً أحراراً». بينما اعتقد رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي الراحل فلاديمير غيرينوفسكي، أنه «ليس من العدل إلقاء اللوم على غورباتشوف وحده حول انهيار الاتحاد السوفياتي؛ «غورباتشوف اليوم متهم بحق بانهيار الاتحاد السوفياتي. لكن لماذا ينسون لجنته المركزية، ومكتبه السياسي، ومسؤوليه الأمنيين، الذين كانوا جبناء وأظهروا ضعفهم... هو الوحيد الملوم، والجميع جيد وذكي. وماذا عن 18 مليون شيوعي في جميع أنحاء البلاد، أين اختفوا عندما انهارت الدولة؟ ورغم إلقاء اللوم عليه حول انهيار الاتحاد السوفياتي، (...) لا يمكن إنكار حقيقة أنه بفضل جهود غورباتشوف الشخصية سقط الستار الحديدي، وتوقف السباق النووي وأصبح العالم أكثر أمناً».
تُظهر تلك التعليقات أن السجالات حول دور غورباتشوف ليست جديدة، رغم أن المواجهة الحالية مع الغرب قد زادتها لهيباً وحماسة.
انتقادات لاذعة
خلال التحضيرات للاحتفال بمرور ثلاثة عقود على هدم جدار برلين، فتحت الأوساط السياسية الروسية الدفاتر القديمة، ورأت تصريحات أن القيادة السوفياتية ارتكبت أخطاء فادحة في تعاملها مع الغرب في ذلك الوقت. ورأت أنها أظهرت «سذاجة» في التعامل مع الوعود الغربية، وفقاً لكلمات الرئيس فلاديمير بوتين الذي لم يكن قد وجَّه انتقادات مماثلة في السابق إلى أداء غورباتشوف.
ريغان أمام جدار برلين خلال خطابه الشهير عام 1987 الذي طالب فيه غورباتشوف بـ"تمزيق هذا الجدار" ويبدو إلى يساره المستشار الألماني الأسبق هيلموت كول (غيتي)
ورأى الرئيس الروسي أن الزعيم السوفياتي السابق «أخطأ في عدم مطالبته بضمانات مكتوبة بعدم توسيع حلف الأطلسي شرقاً، عبر ضم بلدان دخلت تحت نفوذ الدولة السوفياتية». ورأى أن غورباتشوف تعرض لخدعة غربية، وأن السذاجة التي تعامل بها الاتحاد السوفياتي مع الوعود البراقة من جانب الغرب، فتحت الطريق لتوسيع «الأطلسي» والسعي إلى تطويق روسيا عسكرياً.
ويشارك كثيرون في روسيا هذا الرأي. وقال وزير الخارجية سيرغي لافروف في مقابلة صحافية، إن «روسيا (السوفياتية) لعبت دوراً أساسياً في إعادة توحيد أوروبا وهدم الجدران، وهم (الغرب) يبنون الآن جدراناً جديدة».
تعد هذه من العناصر الأكثر تردداً في انتقاد سياسات غورباتشوف على الصعيد الخارجي. وكان رد غورباتشوف في ذلك الوقت أنه ما زال «يفخر بالتغيير الديمقراطي في ألمانيا الشرقية ودول أخرى في الكتلة السوفياتية؛ لكنه لم يفترض أن الجدار سوف يسقط بهذه السرعة». وقلل الزعيم السوفياتي من أهمية الاتهام بأنه تجاهل طلب «اتفاق مكتوب» يضمن عدم توسيع «الأطلسي» لاحقاً، مشيراً إلى أن هذا المطلب «كان ليبدو عبثياً في ذلك الوقت»، لأن «هذا كان بمثابة إعلان مبكر عن وفاة التحالف العسكري بقيادة الاتحاد السوفياتي (حلف وارسو) قبل حله رسمياً في يوليو (تموز) 1991».