{الشرق الأوسط} : في مهرجان برلين السينمائي (8): أفلام تتداول أحوال المسلمين في عالم مضطرب

من أفغانستان إلى ألمانيا مرورا بأميركا

«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته
«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته
TT

{الشرق الأوسط} : في مهرجان برلين السينمائي (8): أفلام تتداول أحوال المسلمين في عالم مضطرب

«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته
«ماكوندو»: صبي يبحث عن طريقه - «بين عالمين»: حكاية أفغاني وشقيقته

وصلت الدورة الرابعة والستون إلى خواتمها، وتوقف عرض الأفلام المتسابقة بانتظار نتيجة لجنة التحكيم التي تعلن، اليوم (الأحد). وإذ تسدل الستارة على دورة أخرى لمهرجان عريق، تستوقف المرء صورة خيالية لما قد تكون عليه الأفلام التي عرضت فيه منذ دورته الأولى سنة 1951 إلى اليوم. ما الذي تكشفه عن الحياة وعن المبدعين الذين اشتغلوا جل طاقتهم لإنجاز رؤاهم الشخصية في المحيط الكبير حولهم وبأساليبهم المتباينة؟!
وإذا ما كانت الأفلام، على نحو طبيعي، تنقسم إلى تعبير عن اتجاهات وتيارات، فإن أحد أبرز هذه الاتجاهات هو تلك المتمثّلة بأكثر من فيلم شوهد هنا (نختار منها ثلاثة عرضتها المسابقة الرسمية) هو ذلك الذي يتناول الإسلام والمسلمين في ثلاثة ظروف اجتماعية متغايرة؛ المسلم المعزول في «رجلان في البلدة»، والشيشاني الباحث عن طريق في «ماكوندو»، ثم المسلم الأفغاني الذي يتعرّض للضغوط بسبب تعاونه مع قوات الغرب في «بين عالمين».

* ربط أفضل
إذا ما كان المخرج الجزائري - الفرنسي رشيد بوشارب وطئ أرضا غير ثابتة في فيلمه الأخير «رجلان في البلدة» متحدّثا عن أميركي أسود مسلم ومشكلاته مع محيطه، فإن بضعة أفلام أخرى وجدت في العنوان الكبير لهذا الموضوع مجالا موازيا، ونافذة تطل على مشهد عريض من لقاء عاصف بين الفرد المسلم والمجتمع.
فيلم «رجلان في البلدة»، كما تقدّم هنا قبل أيام، يتناول حكاية أميركي أسود اسمه ويليام (فورست ويتيكر) خرج من السجن بعد 18 سنة من المكوث داخله، بعدما قتل نائب رئيس الشرطة في بلدة تكساسية قرب الحدود المكسيكية. خلال فترة اعتقاله اعتنق الإسلام وخرج للدنيا بقناعات مختلفة محاولا نبذ العنف في داخله والعيش بسلام مع محيطه وعدم زيارة ذلك الماضي الأسود بعد ذلك. بصواب، رصد بوشارب المواجهات المضادة؛ رئيس البوليس (هارفي كايتل) الذي لم يغفر لويليام بعد قتله لنائبه، وأضاف عليها شعورا عنصريا وطائفيا، عندما علم بأن ويليام بات مسلما. ألم يرتكب مسلمون كارثة نيويورك؟ رئيس البوليس رفض الهدنة التي يرغبها ويليام لنفسه، وأخذ يؤلب عليه الأبواب المفتوحة قليلا لكي يعمل ويعيش ويحب. في النهاية، هو ويليام الذي يخسر المواجهة، إذ اضطر لقتل طرف آخر من المعادلة، ذاك المكسيكي الأصل ترنس (لويس غوزمان) الذي كان يحاول شدّه إلى الجريمة من جديد، وفي سبيل ذلك اعتدى بالضرب على المرأة التي أمنت لويليام وأحبّته (دولوريس هيريديا).
الغائب هو الربط الأفضل لكل هذه الاتجاهات. بدءا برئيس البوليس (الشريف) الذي نراه رؤوفا بالمهاجرين المكسيكيين (وإن كانوا عبروا الحدود بصورة غير شرعية)، وطائفيا بغيضا ضد الأميركي ويليام. جمع التناقض ليس مشكلة بحد ذاته، إلا إذا غاب التبرير أو القراءة الأعمق للشخصية، وهذا ما ليس موجودا هنا. كذلك فإن «إسلام» ويليام لا يجعل الفيلم أكثر حدّة. لا يمنح الفيلم سوى مشاهد الوضوء والصلاة (بقراءة خطأ) إذ ليس هناك مشاهد تجعل المخرج مضطرا لتقديم شخصية مسلمة. يكفيها مثلا أن تكون سوداء، أو حتى يكفيها أن تجد نفسها بين فريقين يحاربانها؛ القانون والخارجين على القانون في الوقت ذاته.
النهاية، مجسّدة بقتله رئيس العصابة ترنس بالنهل عليه بحجارة، كما حادثة قابيل وهابيل، ثم التوجه للماء لكي يتوضأ ويصلي، فإذا به لا يستطع فعل ذلك إذ ارتكب جريمة قتل، هو نوع من ضخ الماء في بحيرة. ذلك لأن القيمة المنشودة من أن ويليام لم يعد قادرا على أداء الفريضة، تدينه حتى من بعد أن يعترف بخطئه للمشاهد. يقفل الفيلم هنا والمشاهد أدرك منذ حين أن المخرج يوصم المحيط الاجتماعي بنقده لرفض التعامل مع بطله، لكن الإسلام لا يزال محشورا في ذلك السياق الذي كان يمكن له أن يكون أبسط وأكثر تأثيرا.

* نقطة ناجحة
في «ماكوندو»، الذي عرض صباح الجمعة وجه آخر مختلف وأكثر إقناعا. المخرجة الإيرانية الأصل سودابة مرتضي المولودة في ألمانيا سنة 1968 تلاحق حكاية صبي شيشاني الأصل اسمه راماسان (راماسان منكايلوف) يعيش وأمه (خدا كازييفا) وشقيقتيه الصغيرتين في ضواحي مدينة فيينا. العائلة كانت هاجرت تبعا للحرب وبعد مقتل الأب، إلى النمسا، والأم وجدت عملا وأدخلت أولادها المدارس الحكومية، لكن استقرارها في البلاد محكوم بسيرة ابنها الذي يبلغ من العمر 11 سنة أو نحوها. وهذا، ببحثه الدفين عن عالم يستطيع التأقلم معه ولا يجده إلا في مصادقة لاجئين من أترابه، يشكل الهاجس الذي يؤرق بال الأم لحين. في البداية يبدو رامسان مجرد صبي طيّع ومهذّب، وحين تخفي شقيقته الصغيرة حلوى في جيبها خلال التبضّع، يخرج تلك الحلوى لأنه يرفض السرقة. هذا في نصف الساعة الأولى من الفيلم، لكنه لاحقا، في نصف الساعة الأخيرة، وبسبب اختلاطه بالأولاد الآيلين إلى الجنوح، يقرر سرقة أداة لخلع الأبواب. بعد كشفه، وقيام المسؤولين بتحذير الأم من أن طلبها اللجوء والبقاء سيكون عرضة للإلغاء إذا ما لم يغير ابنها مسلكه، نجده يشترك في محاولة خلع ذلك الباب مع أصحابه. عندما تطارده سيارة أصحاب المكان (مرأب لشاحنات) يهرب إلى الغابة في الظلام. في اليوم التالي، يصل البوليس لسؤاله بصحبة مطارده النمساوي الذي يكاد يقسم بأنه راماسان هو الفتى الذي شاهده ليلة أمس. ينبري الجار عيسى (أصلان ألبييف) ويدّعي أن الولد كان بصحبته طوال النهار. لكن راماسان لديه مشكلة مع عيسى تتلخص في أنه يتهم عيسى بقتل أبيه، ويراه الآن يتقرّب من أمه فيلصق بعيسى تهمة أنه لص، مما ينتج عنه قيادة البوليس لعيسى، الأمر الذي سبب ضيقا كبيرا للصبي بشهادة تلك اللقطة على الوجه.
الفيلم كثير الزلات. لا الأم لها دور كاف ولا تبدو مؤهلة لقيادة العائلة (إذا كانت مؤهلة فإن الفيلم لا يظهر ذلك)، ولا الصبي - بتمثيل خشبي غير مدرّب - قادرا على استقطاب عاطفة حياله. نراه يتصرّف بنزق هو قابل للتصديق في مثل سنه، لكنه بلا تبرير. المخرجة تحسن اختيار أسلوب رصد الصبي طوال الفيلم، لكنها لا تمنح عملها خلال ذلك ما يحتاجه من حدّة أو لحظات راحة. هناك مشهد دال على ذلك. راماسان يدخل الغابة ذاتها في أحد المشاهد ليستلقي على كنبة حمراء مهجورة هناك. يغمض عينيه. ثم يفتحهما. ثم يغمضهما ويقطع الفيلم، على نحو روتيني، إلى مشهد آخر. الغاية هنا كانت تصوير الصبي يخلد إلى راحة نفسية وعزلة بعيدا عما يقع حوله ومعه، لكن المخرجة لا تعرف كيف تؤسس وتنفذ للمشهد ليعبّر تماما، وعلى نحو صحيح، عن هذه الرغبة.
وسط كل ذلك، هناك حقيقة أن الموضوع في لبّه هو مواجهة المسلم الفرد لمحيطه في مثل هذه الأيام. راماسان يلبي دعوة الإمام ويدخل المسجد ويبدو صادقا في رغبته. أصلان يقول له أن يصلي في البيت، والمخرجة تستلهم من هذا أن الإسلام دين مسالم. هذه هي النقطة الناجحة شبه الوحيدة في العمل وهي تفعل في سبيل ربط الأضداد (الإسلام وسواه) أكثر مما يفعله رشيد بوشارب، الذي يجعل هذا التضاد موضوعا له.

* أفغانستان
فيلم ثالث في المسابقة يعرض لهذا التناقض الثقافي والديني والاجتماعي ويبرزه هو «بين عالمين»؛ عمل ثانٍ للمخرجة النمساوية فيو ألاداج يأخذنا إلى أفغانستان نفسها. هنا القائد جسبر (رونالد زرفلد) يرأس حامية ألمانية طلب منها الوجود في منطقة مضطربة في أفغانستان دفاعا عن تلك المنطقة ضد هجمات طالبان. الحامية تحتاج إلى مترجم والشاب طارق (محسن أحمدي) يفوز بالوظيفة. جسبر يرتاح إليه بعد حذر موجز في البداية. لكن جسبر مضطر الآن لترك شقيقته الصغيرة وحدها في البيت في المدينة. وهي خائفة لأن هناك عيونا ترصد حركاتها. طارق لا يعرف، في البداية، كيف يتصرّف باستثناء الطلب منها أن لا تترك البيت مطلقا (وهي التلميذة في المدرسة).
من ناحيته، يشعر جسبر (الذي سبق له وأن فقد شقيقه في الحرب ذاتها) أنه يواجه ظروفا غير مواتية ومشكلات نابعة من اختلاف الثقافات؛ حين يساعده مقاتلون أفغان بصد هجوم طالباني على المعسكر، يطلبون منه في المقابل مساعدتهم على صد هجوم آخر على قراهم. لكن القيادة تمنعه من مغادرة المكان، مما يسبب توترا. صحيح أن المخرجة تعفي الفيلم من إبقاء هذا التوتر قائما، لكنها لا تغفل أن السبب يعود إلى تفهم جسبر وصبره كما تفهم المقاتلين الأفغان لظروفه، وإن لم يعكس هذا الفهم قبولهم الكلي.
لاحقا تصل الأمور إلى أزمة كليّة، عندما يعصي جسبر طلب القيادة وينطلق مع مترجمه طارق الذي تعرّضت شقيقته لإصابات خطرة نتيجة محاولة لاغتيالها وشقيقها، تستدعي نقلها إلى المستشفى لعملية مستعجلة وإلا ماتت متأثرة بجراحها. جسبر مدفوع بشعوره الطيب لمترجمه المخلص (وهو يفهم أن مترجمه موضوع في الوسط بين التزامه بالعمل لصالح الجنود الأجانب وبين ضغوط الجانب الأفغاني) والقيادة بعدم اعترافها بمثل هذا الشعور بالواجب الإنساني. خلال غياب جسبر تتعرّض الحامية في جولتها الصباحية إلى إطلاق نار كثيف من عناصر طالبان. تجري معالجة الفتاة ونجاتها من الموت، لكن جسبر يخسر وظيفته، إذ عصى أوامر قيادته.
الفيلم يبحث في محورين؛ الضغط على الألماني الناتج عن تجاوبه مع مسلمي البلاد وحالهم وبعض عاداتهم في مقابل واجباته العسكرية وثقافته الأم، والضغط الذي يعايشه طارق كما تقدّم.
هناك عبارة تلخص ما يدور حوله هذا الفيلم الجيد ترد في مطلع نصفه الثاني، عندما يقول جسبر مفكرا بصوت عال: «أحيانا أتساءل إذا كان وجودنا يحدث أي تغيير فعلا»، بذلك يبدي شكوكه حول جدوى التدخل الغربي في البلاد ويعبّر عن وجهة نظر المخرجة التي ساقت الأحداث بما يعزز هذا التساؤل.

* تاريخ موجز
خلال السنوات العشر الأخيرة أو نحوها عرض مهرجان برلين عددا ملحوظا من الأفلام التي تناولت شخصيات إسلامية تطل على بانوراما عريضة لقضايا ومصائر مختلفة. «في هذا العالم» لمايكل وينتربوتوم (2002) تناول شخصية صبيين أفغانيين حاولا التسلل غير الشرعي إلى الغرب. بعد سنة عرض البريطاني كن لوتش فيلمه عن المسلم الباكستاني الذي يحب البريطانية البيضاء في «قبلة إعجاب». في العام ذاته، قدّم فاتح أكين نظرته إلى الجالية التركية في ألمانيا، وقام برهان قرباني سنة 2010 بتناول الموضوع ذاته في فيلمه الجيد «شهادة».
هذا هو العام الذي سادت فيه أكثر من معالجة للموضوع؛ ففي «عسل» لسميح قبلانوغلو (تركيا) عالج الإيمان ببيئة إسلامية صافية في قرية تركية آسيوية وفي «على الطريق» قدّمت المخرجة البوسنية جاسميلا زبانيتش موضوع التطرّف الإسلامي إذ يضرب بعض جوانب المجتمع البوسني بعد الحرب الأهلية، وهي التي كانت تطرّقت إلى تبعات تلك الحرب على أم وابنتها في «أرض أحلامي» الذي عرضه برلين سنة 2006. ورشيد بوشارب نفسه قدّم سنة 2009 فيلمه الأفضل «نهر لندن» حول الأفريقي المسلم الذي خسر ابنا خلال العملية الإرهابية الشهيرة، وتعرّف على أم ثكلى خسرت ابنتها في الوقت ذاته.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)