زجاج بيروت المهشم يبوح بأسراره لخبراء الترميم في المتحف البريطاني

منذ نحو عام سافرت ثمانية قطع زجاجية أثرية هشمها انفجار مرفأ بيروت إلى لندن، حيث خضعت لعمليات ترميم قام بها خبراء المتحف البريطاني. خلال عام استلقت القطع المتكسرة بين أيدي الخبراء، استسلمت لعمليات لملمة الأجزاء وباحت خلال ذلك الوقت ببعض من أسرارها لهم.
واليوم يفتتح المتحف معرضاً خاصاً بالقطع الثمانية تختلط فيه الصور المتحركة والتسجيلات الصوتية التي تتضافر كلها لتقدم للزائر نظرة على تاريخ تلك القطع وآثار الدمار الذي خرجت منه، والجهود التي بذلت لإعادتها كاملة الشكل. العرض الذي يحمل عنوان «زجاج بيروت المهشم» يقام في قاعة «أساهي شيمبون»، المخصصة للعروض المؤقتة المجانية، حتى 25 من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل لتبدأ القطع بعد ذلك رحلة العودة لمقرها في المتحف الأركيولوجي ببيروت. قصة القطع الثمانية هي جزء من حدث هز أركان لبنان، فانفجار مرفأ لبنان في 4 أغسطس (آب) 2020 لم يترك ركناً في البلد لم يلمسه بخسارة سواء مادية أو معنوية، ومنها الخسارة المادية للمتحف الأركيولوجي بالجامعة الأميركية في بيروت والذي يقع على بعد 3.2 كيلومتر من المرفأ.

تعود القطع إلى الحقب الرومانية والإسلامية وكانت ضمن إحدى خزانات العرض بالمتحف ومن شدة الانفجار انخلعت الخزانة من مكانها متسببة في تحطيم محتوياتها الثمينة وتناثرها على الأرضية مختلطة مع زجاج آخر متناثر من النوافذ وأبواب خزانات العرض. 74 قطعة كانت في خزانة العرض تمثل نماذج لصناعة الزجاج من العصور البيزنطية والإسلامية، معظمها تحطم وتناثرت شظاياه، مما جعلها غير قابلة للترميم، وتبقى عدد صغير من القطع عدّها الخبراء قابلة للترميم ثمانية منها نقلت إلى المتحف البريطاني، حيث الأجهزة والخبرات اللازمة لإصلاح وترميم هذه القطع.
بحسب بيان المتحف البريطاني نجحت محاولات الترميم في حفظ 18 قطعة، بالإضافة للقطع الثمانية في لندن ويأمل المرممون في بيروت ولندن أن تنجح محاولات ترميم ولملمة القطع المتناثرة من 46 قطعة أخرى.

كوب من العصر البيزنطي بين عامي 500 و 700

الشروخ جزء من القصة

ولكن عمليات الترميم لن تعيد القطع كاملة ولن تزيل أثر الانفجار، وهو أمر اتفق عليه الخبراء في بيروت ولندن، حيث حرص المرممون على أن تكون القطع في حالة مستقرة مع ترك الندب والشروخ واضحة فهي أصبحت جزءاً من تاريخ كل قطعة، تتحدث ببلاغة لا تستطيعها أي لغة عن حياتها منذ العصور القديمة، وعن كل ما مرت به حتى حطمها الانفجار ليتحول بدوره إلى قصة أخرى تضاف لقصص كثيرة مرت بها.
ولهذا الهدف تم تنسيق الإضاءة في المعرض بشكل يركز على الأضرار التي تركها الانفجار على كل قطعة، ندوب وآثار تحملها كل قطعة مثلما يحمل اللبنانيون آثار الانفجار في داخلهم وتعكس بعرضها عزيمتهم على التعافي وإعادة وصل القطع المتكسرة من حياتهم. رحلة القطع الثمانية بعد الانفجار إلى لندن وحتى عرضها ستكون أهم جانب من العرض، حيث يسافر الزوار على متن التسجيلات الصوتية والمرئية لخوض التجربة مرة أخرى منذ البداية، لحظة الانفجار الهائل الذي بعثر محتويات الخزانة في المتحف ببيروت وحتى تفاصيل عمليات الترميم التي قام بها الخبراء في معامل المتحف البريطاني. يستعين العرض بشهادات صوتية من العاملين في متحف الجامعة الأميركية والمتحف البريطاني، فهم شهود على حياة تلك القطع في وطنها ورحلتها لتعود مرة أخرى.

إناء من العصر الروماني بين عامي 50 و70 ميلادي (المتحف الآركيولوجي في الجامعة الأميركية، بيروت)

أسرار مخفية

يبقى للانفجار يد في الوصول لبعض الحقائق التي أخفتها القطع الزجاجية عبر مئات السنين، فقد توصل خبراء الترميم إلى معلومات وحقائق تاريخية لم يكن ممكناً الوصول لها لو لم تتكسر تلك القطع. فعبر عمليات تحليل دقيقة قام بها كل من د.أندرو ميك ود.جوان داير من المتحف البريطاني كان من الممكن سبر أغوار أسرار صناعة وتلوين القطع. عند تكسر القطع برزت في داخل كل كسر جوانب من الزجاج الداخلي. كما أثار وجود بعض العناصر الملونة في كل قطعة الاهتمام، خاصة أن القطع الثمانية لم تكن ملونة، مما طرح فكرة أن صناع القطع قاموا بتدوير زجاج مستخدم، وهو ما سيمنح الخبراء الفرصة لتكوين صورة واضحة لصناع ومستخدمي الزجاج في الحقب القديمة. وبالنسبة لنا في القرن الـ21 فذلك يعد أمراً مدهشاً أن نتشارك مع صناع الزجاج قبل 2000 عام في ممارسات التدوير.
تحمل الأواني أهمية كبيرة في سرد قصة تطور تقنية نفخ الزجاج في لبنان في القرن الأول قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت ثورة في إنتاج الزجاج. مكنت هذه التقنية من الإنتاج الضخم للأجسام الزجاجية بأشكال مختلفة، مما جعل مادة النخبة متاحة للاستخدام المنزلي العام. في ست من القطع التي خضعت للترميم بدا واضحاً استخدام التقنية المبكرة لنفخ الزجاج.
يعود تاريخ قطعتين أخريين إلى أواخر العصر البيزنطي - العصور الإسلامية المبكرة، وربما تم استيرادهما إلى لبنان من مراكز تصنيع الزجاج المجاورة في سوريا أو مصر.

صحن من العصر الروماني بين عامي 200 و400

ويبقى الأمل

ومن جانبه، قال هارتويغ فيشر، مدير المتحف البريطاني: «يروي معرض زجاج بيروت المحطم قصة الدمار والتعافي، والصمود والتعاون. بعد مرور عامين على انفجار بيروت، يسعدنا أن نعرض هذه الأواني الزجاجية القديمة الثمانية المحفوظة. نحن ممتنون للعمل المتفاني الذي قام به الزملاء من المتحف الأثري في الجامعة الأميركية في بيروت والمتحف البريطاني الذين جعلوا هذا العرض ممكناً».
أما الدكتورة نادين بانايوت، أمينة المتحف الأثري في الجامعة الأميركية في بيروت فقالت: «إن إعادة بناء هذه الأواني الزجاجية، قطعة صغيرة تلو الأخرى، ساعدت على لم شملها، والتعرف على قيمتها التراثية، وبناء حس مجتمعي. إن رؤية هذه الأواني المحطمة والحساسة وقد أعيد تجميعها لم يؤد إلى عملية الشفاء فحسب، بل ألهمني أيضاً الأمل في مستقبل أفضل».

دورق روماني من القرن الأول  الميلادي

وأشارت زينة كلينك هوبي، أمينة في المتحف البريطاني إلى الأثر العاطفي الذي صاحب عمليات الترميم قائلة: «كانت لقطات انفجار بيروت بمثابة صدمة كبيرة. كان العمل مع الزملاء في المتحف البريطاني والمتحف الأثري في بيروت لتجميع بعض القطع الأثرية التي تحطمت في الانفجار رحلة عاطفية، ولكنه أيضاً خطوة صغيرة ذات مغزى في الحفاظ على تراث بيروت وفخرها وفي تعافي مواطنيها وهم يعيدون بناء حياتهم تدريجياً».
الدكتور دويغو كاموركوجلو، كبير مسؤولي الترميم في المتحف لخص العرض في جملة واحدة حيث قال: «ثمانية قطع زجاجية، مئات الشظايا، ثلاث نساء... أثبت الحفاظ على هذه الأواني الفريدة أنه عندما ندعم بعضنا بعضاً، سيكون هناك دائماً أمل».

بعض القطع المرممة في معرض «زجاج بيروت المهشم» (المتحف الآركيولوجي في الجامعة الأميركية، بيروت - لبنان)