هذا العيد ليس مثل سابقه.
لم يكن أحد في أوكرانيا يتوقع قبل عام فقط أن تحل الذكرى المقبلة للاستقلال والبلاد تخوض أسوأ استحقاق في تاريخها المعاصر، وتقف أمام خيارات كلها صعبة، أولها الإقرار بالهزيمة العسكرية الكاملة، ما يعني انهيار البلد وتفكيكه إلى دويلات يتبع بعضها روسيا وبعضها الآخر بلدان أوروبية، أو خيار المحافظة على ما تبقى من بلاد بأيدي الأوكرانيين، والقبول بتقديم «تنازلات مؤلمة» للكرملين.
أما الخيار الثالث الذي يتحدث عنه ساسة أوكرانيون، فهو إلحاق هزيمة واضحة بروسيا، وهو خيار يبدو بعيد المنال في ظل إصرار موسكو على تحقيق كل أهدافها، مهما بلغت تكاليف «العملية العسكرية الخاصة» التي أعلنتها في 24 فبراير (شباط) الماضي.
كيف تحتفل أوكرانيا بعيدها؟ قبل عام واحد، في يوم 24 أغسطس (آب)، تم ترتيب احتفالات واسعة في أوكرانيا، تميزت بمظاهر ابتهاج رافقتها فعاليات لها دلالات. ومع ترتيب عرض عسكري فخم، توجته استعراضات في سماء العاصمة كييف لمقاتلات أوكرانية وغربية شاركت في الاحتفالات، نزل الأوكرانيون بشكل نشط إلى شوارع مدنهم وقراهم في مسيرات بالقمصان المطرزة التي تعكس الموروث الثقافي للبلاد، وشكل التجمهر في ساحات المدن وإطلاق الرقصات الشعبية والفعاليات الثقافية المختلفة عنواناً رئيسياً للمناسبة.
في عام، تبدلت أحوال البلاد بشكل كلي. نصف الأوكرانيين بين لاجئ خارج البلاد أو نازح في مناطق الداخل، ونصف البلاد يخوض معارك شرسة، وبناها التحتية دُمِّرت بنسب متفاوتة وصلت في بعض المدن إلى نحو 80 في المائة. وأجواء الاحتفال بعيد الاستقلال تعكسها قرارات حظر تجول شامل، ومخاوف من تحركات عسكرية روسية قوية في المناسبة.
وجهت السلطات دعوات للمواطنين للبقاء في منازلهم، وتم نقل موظفي القطاع العام ومكاتب الشركات التجارية في وسط كييف إلى العمل «من بعد» يومي 23 و24 أغسطس، وأرسل رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي عشية العطلة رسالة فيديو خاصة إلى مواطنيه، حذر فيها من «استفزازات محتملة». قال إن «شيئاً قبيحاً وشريراً بشكل خاص» متوقع في هذا اليوم. وهكذا تم إلغاء جميع الفعاليات الجماهيرية في العاصمة والمدن الكبرى.
وفي خاركيف التي تتعرض لضربات متزايدة في قوتها، دعا رئيس الإدارة الإقليمية أوليغ سينيغوبوف، السكان إلى «الاستعداد للبقاء في الملاجئ والمنازل»، وذكر أنه خلال حظر التجول، يحظر التنقل على طول الشوارع، عن طريق وسائل النقل أو سيراً على الأقدام، كما يحظر الوجود في الأماكن العامة. وتم قطع اتصالات السكك الحديدية بين خاركيف والمدن الأخرى.
بين عيدين انقلبت أحوال أوكرانيا والعالم. لكن المناسبة جاءت برغم ظروف الحرب لتذكر بتاريخ معقد وشائك من العلاقات بين موسكو وكييف، قاد في المحصلة إلى المواجهة الشاملة.
انطلقت العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وأوكرانيا منذ 30 عاماً، في 14 فبراير 1992. وخلال العقدين الأولين، طور البلدان بنشاط التعاون الثنائي، وتفاعلا بروح حسن الجوار. وأُنشئت مراقبة الحدود والجمارك بين البلدين، وتم تقسيم أسطول البحر الأسود، وتنظيم التعاون العسكري التقني. وفي عام 1997، وقع الطرفان اتفاقية «حول الصداقة والتعاون والشراكة بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا». في ذلك الوقت، كان الجاران يعملان بنشاط على تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية التي وصلت إلى مستويات عالية، لا سيما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
هكذا، وبحسب نتائج عام 2004؛ بلغ حجم التبادل التجاري 18 مليار دولار، أي أكثر من ضعف الأرقام المعلنة عام 1999؛ لكن الطرفين كانا على موعد مع أول اختبار للعلاقة في ما بات يعرف باسم «ثورة الميدان» أو «ثورة البرتقال». في 2004 كانت تلك باكورة الثورات الملونة التي شهدها الفضاء السوفياتي السابق، ما أقلق موسكو التي خشيت من انتقال العدوى إليها. واندلعت سلسلة من الاحتجاجات والأحداث السياسية من أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 حتى يناير (كانون الثاني) 2005، عقب جولة إعادة التصويت على الانتخابات الرئاسية الأوكرانية التي تنافس فيها حليف موسكو فيكتور يانوكوفيتش مع الرئيس السابق فيكتور يوشينكو الذي رفع شعار التقارب مع الغرب.
كان الصراع داخلياً؛ لأنه بدأ بالاشتباه بتزوير في الانتخابات وبتحكم الفساد في أمور الدولة؛ لكن سرعان ما اتخذ أبعاداً سياسية واسعة؛ لأنه كشف انقسام المجتمع الأوكراني بحدة بين الشرق والغرب. الأقاليم الشرقية الناطقة بالروسية صوتت ليانوكوفيتش، برغم وجود شبهات في ماضيه وارتباطه بالفساد. والأقاليم الغربية الساعية إلى التكامل مع أوروبا صوتت ليوشينكو. شكلت تلك الأحداث البداية الأساسية لأزمة أوكرانيا التي «استقلت» عن الدولة السوفياتية، ولم تعرف كيف تحدد هويتها الوطنية لاحقاً، وظلت رهينة التاريخ الذي يربط مصائر مناطق بأكملها فيها مع بلدان أوروبية، والجغرافيا التي تجعلها جارة لـ«شقيق أكبر» لديه طموحات ولا يعترف بتاريخ خاص للدولة الأوكرانية.
نجح يوشينكو مؤقتاً في تلك الجولة؛ لكن مقالب التاريخ أعادت يانوكوفيتش إلى السلطة في 2010، لتبدأ مسيرة الطلاق النهائي مع روسيا داخل جزء وازن من المجتمع الأوكراني الذي رفض سياسات الرئيس «الموالي لروسيا»، ولم يلبث أن عاد إلى «الميدان» في 2014، في لحظة فاصلة تدخلت فيها أيضاً أقدار التاريخ والجغرافيا؛ إذ تردد يانوكوفيتش في التوقيع على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، رغم أن حكومته تفاوضت مع الأوروبيين عليها منذ العام 2012. كان هذا الاتفاق التجاري الشامل مع الاتحاد الأوروبي سيؤثر على الاتفاقيات التجارية الأوكرانية مع روسيا، لكونها أكبر شريك تجاري لأوكرانيا في ذلك الوقت.
اعتقد يانوكوفيتش أنه يمكن معالجة التعقيدات، وقال إنه يعتزم دخول الاتفاقية؛ لكنه استمر في التأجيل. فُسر هذا الأمر على أنه محاولة للتراجع عن توقيع الاتفاقية، وأدى إلى موجة من الاحتجاجات باتت تُعرف بحركة «الميدان الأوروبي». وسرعان ما تحولت الاشتباكات بين المتظاهرين والشرطة إلى استخدام وسائل العنف؛ خلافاً لثورة الميدان في 2004، وأسفرت عن سقوط قتلى وصلت أعدادهم لما يقارب 130 شخصاً، من بينهم 18 شرطياً. ومع تدهور الموقف في 22 فبراير، فرّ يانوكوفيتش من كييف إلى روسيا. وساد نوع من الفوضى في البلاد تخللته سيطرة المتظاهرين على مقار الحكومة، وفي اليوم نفسه أعلن البرلمان إعفاء يانوكوفيتش من مهامه بنحو 328 صوتاً، ومن دون أي صوت معترض.
وهو أمر وصفته موسكو بأنه «انقلاب النازيين والاستيلاء على السلطة»، ما دفعها إلى التحرك في الشهر التالي لضم شبه جزيرة القرم، بعد إرسال وحدات غير مسلحة سيطرت على المباني الحكومية من دون مقاومة. وفي الوقت ذاته شجعت موسكو انفصاليين في لوغانسك ودونيتسك على العصيان المسلح «ضد الانقلاب النازي». وكان السيناريو اللاحق واضحاً منذ خطواته الأولى؛ إذ أقدمت الحكومة المؤقتة، بقيادة أرسيني ياتسينيوك، على توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وأصبح بترو بوروشنكو رئيساً لأوكرانيا، بعد نصر ساحق في الانتخابات الرئاسية المبكرة لعام 2014.
وأعادت الحكومة الجديدة تعديلات الدستور الأوكراني لعام 2004، والتي أُلغيت بشكل مثير للجدل، واعتبرت غير دستورية عام 2010، وبدأت بعملية تطهير واسعة النطاق للموظفين المدنيين الذين كانت لهم علاقة بالنظام المخلوع، ما عنى إبعاد الموالين لروسيا عن مراكز القرار. كما أُلغي القانون المتعلق باللغات الإقليمية الذي سمح للمناطق الأوكرانية التي تحوي أقليات ثقافية كبيرة باستخدام لغاتهم الخاصة في إداراتهم المحلية. كانت أوكرانيا الغاضبة بسبب سلخ القرم وتشجيع التمرد العسكري في جنوب البلاد توسع عملياً بتلك الخطوات الهوة تدريجياً مع موسكو.
ومنذ عام 2014، انسحبت أوكرانيا من المعاهدات داخل رابطة الدول المستقلة، ومنذ 2019، تم إنهاء معاهدة الصداقة مع الاتحاد الروسي. منذ تلك الفترة، كانت كل المؤشرات تقود إلى احتمال تفاقم المواجهة ووصولها إلى لحظة الانفجار، برغم أن الجزء الأعظم من الأوكرانيين والروس لم يكونوا ليصدقوا يوماً لو قال أحدهم إن حرباً شاملة قد تقع بين البلدين الجارين.
أوكرانيا الحائرة بين الشرق والغرب تدفع فاتورة التاريخ والجغرافيا
تحتفل بعيد استقلالها الـ32 وهي مرشحة للتقسيم أو الانهيار
أوكرانيا الحائرة بين الشرق والغرب تدفع فاتورة التاريخ والجغرافيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة