ناديا حمادة وغسان تويني... الحب الغامر الذي حوّله الموت تراجيديا إغريقية

جمعتهما علاقة عاطفية عابرة للطوائف وشغف مشترك بالكتابة

ناديا حمادة
ناديا حمادة
TT

ناديا حمادة وغسان تويني... الحب الغامر الذي حوّله الموت تراجيديا إغريقية

ناديا حمادة
ناديا حمادة

لم تكن العلاقة العاطفية المشرقة التي جمعت بين الشاعرة اللبنانية المتميزة ناديا حمادة والصحافي اللبناني الأشهر غسان تويني، من النوع المألوف الذي يتكرر حدوثه كل يوم، بل هي تبدو لشدة فرادتها وغرابة محطاتها، وكأنها سِفْر دراماتيكي من أسفار العهد القديم، أو فصل متأخر من فصول نشيد الإنشاد، أو فانتازيا سحرية مقتطعة من روايات ماركيز. ولذلك فلم يكن بإمكان هذه السلسلة الطويلة من المقالات المتعلقة بزواج المبدعين، أن تأخذ طريقها إلى الاكتمال، دون التوقف ملياً عند هذه العلاقة الاستثنائية في تناقضها الضدي، والتي ذهبت من جهة إلى أقاصي الحب والحدب الإنسانيين، في حين كان الموت من جهة ثانية يهيئ لها مصيرها القاتم ومآلها المأساوي. واللافت في تلك العلاقة أن انخراط طرفيها في مؤسسة الزواج، ولمدة تقارب العقود الثلاثة، لم يقلل على الإطلاق من ألقها الرومانسي، ولم يحول نيرانها رماداً، خلافاً للكثير من التجارب المماثلة التي أفرغتها الرتابة من الشغف، وأودى بها نزق أطرافها النرجسي، إلى الإخفاق والتصدع الكاملين.
تنتمي ناديا حمادة المولودة في بيروت عام 1935 إلى إحدى أكثر الأسر الدرزية عراقة في الجبل اللبناني. وقد بدت بثقافتها الواسعة وشخصيتها القوية والمنفتحة، ثمرة الزواج الناجح بين أبيها اللبناني، ابن قرية بعقلين الشوفية، المثقف والدبلوماسي محمد علي حمادة، وأمها الفرنسية من أصل جزائري مارغريت مالاكان؛ وهو ما ساعدها على تكوين رؤية للعالم بالغة الرحابة وبعيدة عن الانغلاق، وصولاً إلى تمرسها باللغة الفرنسية قراءة وكتابة، إلى حد وقوفها اللاحق جنباً إلى جنب مع أفضل المبدعين الفرنسيين.

                                                                                        غسان تويني
أما غسان تويني المولود قبل ناديا بتسع سنوات، والحائز بكالوريوس الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت، وماجستير في العلوم السياسية من جامعة هارفارد، فقد تربى من جهته في كنف جبران تويني، مؤسس جريدة «النهار»، إحدى أكثر الصحف اللبنانية عراقة وتأثيراً، قبل أن يتولى إصدارها ورئاسة تحريرها بعد رحيل الأب. وقبل أن يلتقي غسان ناديا عام 1954، كان اسمه قد اكتسب لمعانه من أدوار وحقول عدة، بينها نبوغه الصحافي، وتعرفه إلى مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، ومن ثم انتماؤه إلى الحزب، وانضمامه إلى الجبهة الاشتراكية الوطنية التي أسهمت في إسقاط الرئيس اللبناني بشارة الخوري، وصولاً إلى انتخابه نائباً عن جبل لبنان عام 1951، ونائباً لرئيس مجلس النواب اللبناني عام 1953.
وفي كتاب سيرته يحرص صاحب «النهار» على التنويه بأن الصدف المجردة هي التي رسمت لحياته مسارها المختلف. إذ إنه كان قد سافر إلى اليونان، طلباً للراحة من مشاغله الكثيرة المرهقة، حيث كان كيوبيد، إله الحب عند الإغريق، يهيئ له سهام العشق والافتتان التي أصابت قلبه في الصميم. وإذ يؤكد تويني بأنه لم يكن يعلم على الإطلاق بأن للسفير اللبناني في أثينا ابنة فائقة الجمال تسمى ناديا، يصف لقاءهما الأول بالقول «تعرفت إلى ناديا حمادة بعد أسبوعين من وصولي إلى أثينا، بمناسبة مأدبة عشاء أقامها والدها في السفارة على شرف مجموعة من السياح اللبنانيين. ومن حسن حظي أنهم أجلسوني إلى يمينها؛ وهو ما سمح لي أن أصارحها طوال فترة العشاء، ليس فقط بأنها جميلة وذكية، بل متكلمة مفوهة أيضاً. لقد كانت مثقفة جداً وآسرة للغاية. تجاذبنا أطراف الحديث طوال السهرة، لا بل أكثر من ذلك. إنه الحب من النظرة الأولى، أصابنا نحن الاثنين».
وفي حوار له منشور في جريدة «النهار» عام 2014، يؤكد مروان حمادة، شقيق ناديا والسياسي اللبناني المعروف، بأن جميع أفراد الأسرة شعروا آنذاك بعلاقة الحب التي جمعت منذ اللحظة الأولى بين الطرفين، والتي استطاعت أن تتخطى الحواجز الدينية التقليدية، لتبني مداميكها المتينة فوق أرض الثقافة والفن والوعي المعرفي. واللافت حينها أن ناديا لم تتردد، بعد أن فاتحها غسان بشأن الزواج، في قبول العرض الذي جرت مراسمه بسرعة قياسية في السفارة اللبنانية في أثينا. كما أن الزوجة اليافعة ذهبت أبعد من ذلك حين وافقت على التعمد في إحدى الكنائس الأرثوذكسية في أثينا. على أنه لم يكن لتلك الخطوة الجريئة أن تتحقق، لولا ذهنية الانفتاح والتحرر الفكري التي وفّرتها العائلة العريقة لابنتها الشابة؛ الأمر الذي سمح خلال فترة وجيزة، لا بتذليل العقد والاعتراضات والمواقف المتشنجة التي واجهت ذلك الزواج فحسب، بل باعتباره في الوقت نفسه، إحدى اللبنات الأهم لتحقيق الانصهار الوطني والخروج من دائرة العصبيات الطائفية وشرانقها المغلقة.
أما البيت العائلي الأنيق والرومانسي الذي اختار غسان وناديا أن يبنياه في بيت مري، وفي أحد أجمل الأماكن المطلة على بيروت، فقد بدا بمثابة الترجمة المحسوسة لرغبة الزوجين المثقفيْن في العثور على ركن هادئ يوفر لهما المسرح الملائم للنشاط إلا بداعي من جهة، ولتوفير جو مثالي لأطفالهما القادمين، من جهة أخرى. وحيث كانت موهبة ناديا الشعرية قد بدأت بالتبلور لدى الشروع في بنائه، فقد حرص غسان على أن يكون تصميم المنزل شاعرياً بامتياز، فاختار له حجارة مميزة، بعضها أثري وبعضها الآخر تم استحضاره من بقايا البيوت التي دمرتها حروب لبنان المتعاقبة، وأحاطه بالورود والأشجار، قبل أن يتفق الزوجان على أن يسمياه «بيت الشاعر»، كتعبير رمزي عن ولائهما المشترك لأحد أكثر الفنون التصاقاً بالروح وصلة بالأحلام.
والواضح أن غسان وناديا تويني قد بذلا كل ما أمكنهما من جهد لرفد علاقتهما المشتركة بكل ما يلزمها من أسباب السعادة وهناءة العيش والعطاء الخلاق. وقد شكّلت ولادة ابنتهما البكر نايلة، ذات الشعر الأشقر والعينين الخرزيتين والشبيهة بالكائنات التي نقرأ عنها في الحكايات وكتب الأطفال، الثمرة الأكثر بهاءً لعلاقتهما الزوجية النموذجية. أما على المستوى الأوسع، فكان لبنان يشهد عصره الذهبي على صعد الاقتصاد والفكر والفن، في حين كانت «النهار» تتقدم إلى موقع الصدارة بين مثيلاتها من الصحف، سواء على مستوى صناعة القرار السياسي، أو على المستوى الإبداعي الذي شكل ملحقها الثقافي متنه وظهيره ورافعته الحداثية.
إلا أن الزوجين اللذين حصّنا حياتهما العائلية بكل ما يدرأ عنها العلل والمنغصات، لم يضعا في حسابيهما بأن الموت سيسدد باتجاههما وعلى حين غرة ضرباته القاصمة، التي بدأت برحيل نايلة ابنة السنوات الست، التي أودى بها مرض السرطان عام 1963، مفتتحة بذلك سلسلة المصائر التراجيدية لأفراد العائلة الآخرين.
ولعل من باب المفارقات الغريبة أن يكون موت الابنة هو البذرة التي طُمرت في باطن الأرض، لكي تجد موهبة الأم الخبيئة، سبيلها إلى الانبثاق. ومع أن مروان حمادة يشير إلى أن شاعرية شقيقته لم تأت من فراغ، وهي التي كانت تكتب نصوصاً أدبية عالية، إلا أن رحيل نايلة المأساوي، بدا بمثابة الصاعق الفعلي الذي سمح لها بالتفجر. وفي حوار أجريته معه في مكتبه في «النهار» قبل فترة وجيزة، ذهب حمادة إلى القول بأن الانعطافة الدراماتيكية في شخصية ناديا وشعرها، كانت وليدة عوامل ثلاثة مهمة، هي: رحيل ابنتها المبكر، وهزيمة يونيو (حزيران)، والحرب الأهلية اللبنانية. وحين سألته عما إذا كان الشطر الإيجابي الظاهر من زواج ناديا وغسان، يخفي وراءه أي نوع من الخلافات، أجاب بابتسامة مشوبة بالحزن «لم يحدث بينهما شيء من ذلك، لا لكونهما مثاليين بالمطلق، بل لأن الموت لم يترك لهما ترف الدخول في أي صدام هامشي».
وفي إطار حديثه عن موهبة ناديا الشعرية، يذكر غسان تويني في مذكراته بأن زوجته بعثت إليه في بداية علاقتهما، برسائل حب مؤثرة، و«بلغة فرنسية رائعة، تسببت له في حينه بالكثير من عقد النقص». ومع ذلك، فقد بدا صاحب «سر المهنة وأسرار أخرى»، وكأنه اعتبر تلك النصوص مجرد خواطر وجدانية آنية، لا إرهاصاً بما تبعها من عواصف الكتابة. وهو ما يؤكده قوله بأنه لم يقف على موهبة زوجته إلا بعد أن دفعت إليه إثر رحيل نايلة، بمفكرتها الشخصية التي تبين له إثر اطلاعه عليها، بأنها تضم نصوصاً شعرية بالغة التميز. ومن المفارقات المماثلة أيضاً، أن تويني الذي صرّح لإحدى محطات التلفزة بأن ذائقته الشخصية أقرب إلى القصيدة العربية الكلاسيكية منها إلى التجربة الحداثية، هو نفسه الذي جعل «النهار» وملحقها الثقافي، إحدى المنصات الأبرز لمغامرة الحداثة. كما أنه أقرّ من جهة أخرى بأن رغبته في نشر نتاج زوجته الشعري، والسهر على ترجمة أعمالها إلى العربية، كانت في طليعة الأسباب التي دفعته إلى تأسيس «دار النهار للنشر».
وفي الوقت الذي بدأ السرطان يفتك بجسد الشاعرة، ليضع الابنة والأم أمام المصير إياه، كان سرطان رمزي مماثل يضرب من خلال الاحتراب الأهلي جسد وطنها لبنان، كما لو أن على كليهما معاً أن يدفعا غالياً ثمن ما أوتياه من جمال. هكذا تحول شعر ناديا إلى مضبطة اتهام دامغة ضد فظاظة العالم وعدالته الخرقاء. ومع أنها عشقت وطنها حتى حدود الوله، وعبّرت عن افتتانها بمدنه وسهوله وقراه وجباله وأماكنه الأثرية «حيث إعصار الحجر يستمر في الهبوب»، و«حيث النسور لكي تنيخ بهاءها، تختار أعلى المزارات»، فإن الشاعرة ما تلبث أن تصرخ أمام أشلاء وطنها المذبوح بحراب بنيه «هل ولدتُ من كذبة في بلدٍ لا وجود له؟». ومن يتتبع أعمالها المتتالية، بدءاً من «النصوص الشقراء» و«حزيران والكافرات» و«حالم الأرض» و«عمر الزبد» و«محفوظات عاطفية لحرب في لبنان» وغيرها، لا بد أن يلحظ في شعرها ذلك التواشج العميق بين العذوبة والألم، بين ثقل الواقع وخفة الكلمات، وبين الثمل بخمرة الوجود والاستسلام الوادع للتلاشي النهائي، منتظرة وقد يئست من مقارعة الجدار الصلب للهزائم «موتاً ناعماً كالهواء الناعم بعد المعركة».
والواقع أن الموت الذي وضع حداً لعذابات الشاعرة، في العشرين من يونيو عام 1983، كان على قسوته رؤوفاً بناديا؛ لأنه جنّبها على الأقل أن تتجرع لمرتين متتاليتين الكأس المرّ الذي تجرعه بعد رحيلها غسان تويني، وقد قدّر له أن يشيّع بعد ابنته وزوجته، كلاً من ولديه مكرم الذي قضى بحادث سير مأساوي عام 1987، وجبران الذي قضى اغتيالاً على مذبح الحرية عام 2005. وإذ أوصت ناديا أن تدفن إلى جوار ابنتها في حديقة منزلها العائلي في بيت مري، فقد كانت تريد أن تقلص ما أمكنها ذلك، المسافة بين منزل الشاعرة وبين قبرها، لتستطيع أن تتسقط أنفاس أحبتها الأحياء، وليصبح الموت كما تمنته في قصيدتها، أليفاً كالنعاس، وناعماً كالنسيم، ووادعاً كالظلال الصيفية للأشجار.
«كانت جدتي ناديا تسكن في النقطة الأعمق من قلب جدي غسان» تقول حفيدتهما ميشيل، التي اختارت وفاءً لهما معاً أن تجعل من منزلهما بالذات، المكان المثالي لتقديم برنامجها التلفزيوني الحواري، الذي أطلقت عليه اسم «بيت الشاعر». أما غسان تويني الذي تزوج من شادية الخازن عام 1996، فقد ظل رغم ذلك مسكوناً بحضور ناديا الطيفي، حتى لحظة رحيله الجسدي عام 2012. وكان يحرص بين حين وآخر، على أن يردد أمام زواره النص الوجداني المؤثر الذي كتبه نزار قباني في رثاء «الفراشة المنقوشة بالشعر»، والذي يقول فيه:
كانت ناديا تويني جميلة ككتاب
ومرصعة بالحروف والأزهار كجدار كنيسة بيزنطية
ومكتظة بالعطايا كبيدر قمح
وكانت تتكحل مرة بحزنها الخصوصيّ
ومرة بحبر المطابع
ومرة بأحزان لبنان



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!