ماذا بقي من إنسانية الإنسان في «الجمهورية الرقمية»؟

المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)
المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)
TT

ماذا بقي من إنسانية الإنسان في «الجمهورية الرقمية»؟

المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)
المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة» (شاترستوك)

عندما ولدت شبكة الإنترنت العالمية، امتلأ وادي السيليكون بالشركات الناشئة الهشة والضعيفة. وفي ذلك الوقت، قررت الحكومة الأميركية عدم تنظيمها والسماح لها بالنمو بجرأة بقدر ما تستطيع. وقد حدث ذلك. اليوم، أصبحت هذه الشركات أسماء مألوفة على مستوى العالم، وهي في الواقع من أكبر الشركات في العالم، والتي تقدر قيمة بعضها بأكثر من تريليون دولار. لسوء الحظ، استغلت بعض تلك الشركات تلك القوة بغطرسة لترسيخ مواقعها، على حساب مصالح عملائها وجميع المنافسين المحتملين. جيمي سسكيند**، المحامي البريطاني، نشر كتاباً حديثاً رائعاً بعنوان «الجمهورية الرقمية: عن الحرية والديمقراطية في القرن الحادي والعشرين»، يتناول فيه هذه القضية المثيرة للجدل.
وانطلاقاً من ذلك؛ يبرز سؤال أساسي يشغل العالم، هو: ماذا أبقى الإنترنت، أبرز ثمار التكنولوجيا، من إنسانية الإنسان، ومن علاقة الناس ببعضهم بعضاً؟ وإلى أين ستقود مليارات الناس الذين باتوا عاجزين عن إبعاد إبهاماتهم عن تلك الأجهزة الصغيرة؟
المشكلة المركزية للإنترنت هي «قوته غير الخاضعة للمساءلة». في حين أنه في الأيام الأولى للفضاء الإلكتروني، كانت السلطة إلى حد كبير يمارسها التقنيون ذوو الميول التحررية والذين كانوا يعرفون كيفية البرمجة والتشفير، أصبحت اليوم في أيدي الشركات والأثرياء الذين يقاومون التنظيم ويميلون إلى نوع من «فردية السوق»، بحسب سسكيند. فعلى عكس الطب، لا توجد مؤهلات أخلاقية إلزامية للعمل كمهندس برمجيات أو تنفيذي تقني. لا توجد مدونة لقواعد السلوك الصناعي واجبة التنفيذ. لا توجد شهادة إلزامية. ليس هناك التزام بتقديم الجمهور قبل الربح. هناك عواقب قليلة للفشل الأخلاقي الخطير. لا خوف حقيقياً من التعليق أو الإلغاء». قوتهم تعني أننا جميعاً غير أحرار. يجب أن ننفذ أوامرهم. يجب أن نتخلى عن أي حقوق نعتقد أننا نمتلكها في «الاتفاقيات» عبر الإنترنت والتي لا يملك أحد الوقت لقراءتها، ناهيك عن فهمها. إذا كنت قد قرأت واحدة من قبل، فأنت تعلم أنها غامضة عن قصد ومليئة بالمصطلحات غير المحددة التي يمكن لشركات الإنترنت تفسيرها كيفما تشاء عند الضرورة؛ لذلك لا جدوى من قراءة تلك الوثائق. ليس الأمر كما لو كان بإمكانك التفاوض على حذف بند لا توافق عليه. إما أن تتخلى عن جميع حقوقك قبل الدخول، أو لا يمكنك الدخول. عادة، مثل هذه العقود أحادية الجانب لا تشكل أي دليل في المحكمة.
يتوق سسكيند إلى «شقاوة» الإنسان - ميل الجميع إلى تجنب القواعد والانحراف عنها. سيتجاوز البشر الحد الأقصى للسرعة، ويحاولون ألا يدفعوا أجرة المترو، ويحاولون مشاهدة فيلمين أثناء وجودهم في السينما، وعدم وضع إشارة الانعطاف للسيارة عندما لا يكون هناك أحد في الأفق، وما إلى ذلك. يقترح سسكيند تطوير مدونة، أو مجموعة من القوانين، تحمي الأفراد من السلب والتلاعب بينما تدعو في الوقت نفسه إلى «أقل تدخل ممكن من الدولة». يتخذ المؤلف نهجاً حذراً ومنطقياً للمشكلات التي قد تنتج من ذلك، مشيراً، على سبيل المثال، إلى أن «أبسط أشكال قوة المنصة هو القدرة على قول لا».
هكذا يعيد إحياء مفهوم الجمهورية حسب رؤية الإغريق القدماء، الذين تطلبت جمهورياتهم جهوداً مشتركة واحتراماً متبادلاً للإدارة بشكل صحيح. هو يدعو إلى تشكيلات جماهيرية صغيرة، ولجان مخصصة تتكاتف معاً للتعامل مع قضايا منفردة يكون لديها سلطة طلب قانون جديد، أو الدعوة إلى استفتاء، أو حظر بعض الممارسات. ثم تتفكك هذه التشكيلات ويواصل أعضاؤها حياتهم من جديد. فهذا النهج، والذي يطلق عليه أيضاً اسم الديمقراطية، هو وسيلة لإبقاء جماعات الضغط والمصالح الخاصة خارج العملية. لا توجد أحزاب ولا حملات إعادة انتخاب ولا جمع تبرعات. القضية تتلخص في أن أبناء هذه الجمهورية يقيمون وضعهم ويتعاملون معه بالطريقة المثلى لحل أي مشكلة تواجه المجتمع، طبقاً لسسكيند.
من هنا، يمكن تصنيف المشكلة الكلية إلى خمس نقاط رئيسية: الأولى، هي أن شركات التكنولوجيا الكبيرة تتمتع بقوة حقيقية لا ينبغي أن تكون غير منظمة. الثانية، هي أن التكنولوجيا ليست محايدة أو موضوعية أو بعيدة عن السياسة، سياسية. الثالثة، هي أن التكنولوجيا الرقمية مؤطرة بالكامل من منظور اقتصاد السوق. الرابعة، هي أنه لا يوجد شيء طبيعي أو حتمي في شركات التكنولوجيا الكبرى، فكل شيء ممكن الحدوث في أي وقت ودون أي ضوابط. أما المشكلة الخامسة، فهي أننا قمنا بتلبية احتياجات شركات التكنولوجيا الكبرى من حيث الفردية في السوق بدلا من تنظيمها كشركات خدمية.
وانطلاقاً من تشخيص المشكلات، يوجه سسكيند كثيراً من انتقاداته إلى «فيسبوك»، بسبب أكاذيبه ونفاقه. سياسة الخصوصية في «فيسبوك»، يكاد يكون من الصعب فهمه مثل أطروحة إيمانويل كانط عام 1781 «نقد العقل المحض»، «وهو كتاب معقد بشكل كبير لدرجة أن طلاب الفلسفة يرتجفون عند التفكير فيه». لكن هناك أيضاً حقيقة مؤسفة، «أصبحت الحياة الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي لا ينفصلان» مع ظهور «فيسبوك».
يريد سسكيند تحويل كل شيء في مجال التكنولوجيا إلى مهنة. يحتاج المحاسبون والمحامون إلى شهادات وتراخيص؛ يعرضونها بشكل بارز. لماذا لا يُطلب من مهندسي البرمجيات أن يفعلوا الشيء نفسه؟ أيضاً محترفو تجربة المستخدم ومحترفو الخصوصية ومحترفو النظام الأساسي ومحترفو التجارة الإلكترونية، وما إلى ذلك. إذا تم خلق الظروف التي تجعلهم يواجهون إمكانية فقدان حقهم في العمل أو دفع الغرامة أو التشهير بهم في حال عدم حصولهم على المؤهلات المطلوبة، فإن الإنترنت سيبدو مختلفاً تماماً ويتغير بشكل إيجابي. إن الإنترنت مهم جداً للمجتمع، ومن الصعب تصديق أنه لا أحد يحتاج إلى أي نوع من الشهادات للعمل فيه أو تشغيله. ثم يجب على المنظمين التحقق من أوراق الاعتماد هذه ومعاقبة أولئك الذين ينتهكون. هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم الحديث - باستثناء التكنولوجيا الكبيرة.
هكذا يتبين، أن «الجمهورية الرقمية» عبارة عن أمرين مهمين. أولاً، المشاكل كثيرة وهائلة في مجال تنظيم التكنولوجيا. والآخر، أنها، في معظمها، يمكن إدارتها من خلال المنطق والفطرة السليمة.

* باحث ومترجم سوري
** جيمي سسكيند - محامٍ ومؤلف كتاب «السياسة المستقبلية» الأكثر مبيعاً والحائز جوائز عالمية ولديه زمالات في جامعات هارفارد وكمبردج ويعيش حالياً في لندن



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.