«الهلال الخصيب» التركي

41 % من الأكراد حول العالم في تركيا.. وفوزهم يزيد المخاوف من «كردستان الكبرى»

«الهلال الخصيب» التركي
TT

«الهلال الخصيب» التركي

«الهلال الخصيب» التركي

شكل الفوز الكبير لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتخابات التركية هذا الأسبوع علامة فارقة في تاريخ البلاد التي تقف منذ أكثر من ثلاث سنوات على عتبة الحل للقضية الكردية الشائكة، من دون أن تتمكن من تخطيها. فرغم تراجع الخطاب الكردي في تركيا عن مقولة «الاستقلال» و«كردستان الكبرى» أي الوطن القومي الكردي، فإن مخاوف القوميين الأتراك وهواجسهم كبيرة، حيال موقف أكراد تركيا الذين أشغلوا البلاد نهاية العام الماضي نتيجة ما رأوا فيه «تقاعسا» من حكومتهم في السماح لهم بنجدة أشقائهم من أكراد سوريا في كوباني المحاصرة.

ويعتبر أكراد تركيا، الحجر الأساسي لأي كيان كردي مستقل قد ينشأ، باعتبارهم الكتلة الجغرافية، والسكانية، الأكبر في مناطق الوجود الكردي الذي قسمته اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى بين أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، مع بعض «النكهة» الأرمينية.
وقد قاتل أكراد تركيا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال، أملا بكيان مستقل، أو اعتراف بتمايز هويتهم. لكن الأخير انقلب عليهم بعد تأسيس الجمهورية في إطار سعيه لمحو الهوية الثقافية لكافة مكونات الدولة من غير الأتراك. ويعتبر الأكراد، رابع هوية قومية في منطقة الشرق الأوسط، لكنهم لم يكن لهم في أي يوم من الأيام دولة، فبقي حلم الدولة يظهر، ثم ما يلبث أن يتبخر نتيجة الضربات التي يتعرض لها. ولعل ما أسفرت عنه معاهدة «سيفر» في نهاية الحرب العالمية الأولى كان أقرب ما وصل إليه الأكراد. فقد نصت هذه المعاهدة على «تصور» لإقامة دولة كردية، في إطار سعيهم لتقسيم الإمبراطورية العثمانية. إذ نصت في البند 62 على أنه: «إذا حدث، خلال سنة من تصديق هذه الاتفاقية، أن تقدم الكرد القاطنون في المنطقة التي حددتها المادة (62) إلى عصبة الأمم قائلين إن غالبية سكان هذه المنطقة ينشدون الاستقلال عن تركيا، وفي حالة اعتراف عصبة الأمم بأن هؤلاء السكان أكفاء للعيش في حياة مستقلة وتوصيتها بمنح هذا الاستقلال، فإن تركيا تتعهد بقبول هذه التوصية وتتخلى عن كل حق في هذه المنطقة». لكن التنازلات التي قدمها الجانب التركي للحلفاء في أماكن أخرى، أسقطت هذا الحلم بعد أربع سنوات في معاهدة لوزان التي أوجدت الحدود الحالية للدولة التركية، فاعترف الأتراك بالانتداب على سوريا ولبنان مقابل تنازلات قدموها لتركيا في الأرض السورية وإنهاء الحلم الكردي.
أما اليوم فيقف أكراد المنطقة على مشارف لحظة تاريخية، لأن أكراد العراق شكلوا ما يشبه «الدولة» وباتوا يتمتعون بالقوة والقدرة الكافية، ويفتقدون فقط إلى الغطاء الدولي. أما أكراد سوريا فهم على الطريق، مع إنشاء مناطقهم الصافية، والتي استلزم تشكيلها بعض عمليات «الترانسفير» للعرب، فيما أكراد إيران يتململون، وقد يتحركون في لحظة ما مع اقتراب اللحظة المفصلية. ويمثل الانتصار الكردي في تركيا خطوة إضافية للأكراد، قد تكون مفتاحا نحو «كردستان الكبرى» أو شكل من أشكالها، أو قد تكون بداية لعهد كردي جديد يعتمد التمايز ضمن الأقاليم، ونوع من الحكم الذاتي، وهو ما عبر عنه زعيم أكراد تركيا عبد الله أوجلان منذ عامين بقوله: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا».
ويحذر الكاتب والمحلل السياسي التركي تأومان عليلي من علاقة أكراد تركيا بأكراد المنطقة «فهنا تكمن المصيبة، لا تنسوا أن حزب العمال وشبيهه حزب الشعوب الديمقراطي دخلوا الحدود السورية كما يدخل مقاتلو داعش لدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان يدافع عن بلدة عين العرب من هجومات داعش لأن الاتحاد الديمقراطي يعتبر فكريا وآيديولوجيا الجناح السوري للمنظمة الإرهابية بـ ك ك (حزب العمال الكردستاني)، هدفهم إقامة كردستان الكبرى».
ويشكل أكراد تركيا 41 في المائة من أكراد العالم، بكثير يقارب الـ15 مليون نسمة (20 في المائة من سكان تركيا) وفق تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، رغم أن الأكراد يقولون إن عددهم في العالم يتجاوز الـ50 مليونا وفي تركيا يقارب العشرين. فيما يقترب عددهم في إيران من ثمانية ملايين والعراق من 6 ملايين وسوريا من ثلاثة ملايين. أما وجودهم الأكبر في الغرب، فهو في ألمانيا مع نحو 750 ألف نسمة.
و«الكرد»، كما يطلق الأكراد على أنفسهم، يوجدون في مناطق الجنوب الشرقي، المحاذية لسوريا والعراق وإيران في محافظات هكاري وفان وآغري وبتليس وموش وديار بكر وأورفا وقارس وماردين وبينغول وإيلازيغ وتونجيلي وآدي يمان وارزبخان وغازي عنتاب وملاطيا. وينتمي 70 في المائة من الأكراد في تركيا إلى الطائفة السنية لكنهم يتبعون المذهب الشافعي، في حين أن معظم الأتراك يتبعون المذهب الحنفي، وفيهم نسبة 30 في المائة من العلويين مع وجود أقلية من الشيعة، ويتحدثون جميعا اللغة القرمانية. ويعيش أكراد تركيا، في جنوب شرقي البلاد، ومنها تمددوا إلى مناطق تركية أخرى بفعل الحاجة إلى العمل، التي جعلت - للمفارقة - من مدينة إسطنبول أكبر مدينة يتجمع فيها الأكراد في العالم، إذ يسكنها نحو ثلاثة ملايين كردي. أما الجانب الثاني للهجرة من الجنوب الشرقي للبلاد، فهي سياسة «الترانسفير» التي اعتمدتها السلطات العسكرية التركية، والتي رحلت بموجبها عائلات كردية بأكملها إلى مناطق مختلفة من البلاد
ونتيجة لحركات التمرد التي قامت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أعيد توطين الكثير من الأكراد، ومنع الكثير من الأسماء والأزياء الكردية. كما حظر استخدام اللغة الكردية، وأنكر وجود الهوية العرقية الكردية، وأشير للأكراد باسم «أتراك الجبال».
في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ظهر عبد الله أوجلان على الساحة التركية - الكردية، فأسس في عام 1978، حزب العمال الكردستاني، الذي نادى بتأسيس دولة مستقلة في تركيا. وبعد ست سنوات فقط من تأسيسه، حمل الحزب السلاح مع فشله في العملية السياسية وقمع السلطات التركية. وفي التسعينات، تراجع حزب العمال الكردستاني عن مطلب الاستقلال، وطالب بالمزيد من الاستقلال الثقافي والسياسي، لكنه استمر في القتال. وفي عام 2012. بدأت محادثات السلام بين الحكومة التركية والحزب، بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة. وطلب من مقاتلي حزب العمال الكردستاني التراجع إلى شمالي العراق العملية فشلت في وقف نهائي للعنف بين الجانبين رغم أنها خفضت منه إلى حد كبير.
ويعود الفضل في هذا إلى المحادثات التي جرت سرا أولا، ثم علنا، بين جهاز الاستخبارات التركي، وأوجلان في سجنه في جزيرة إمرالي، حيث يقضي حكما بالسجن المؤبد منذ القبض عليه في مطلع التسعينات. وقد توجت هذه المحادثات بالخطاب الشهير الذي وجهه أوجلان من سجنه إلى أكراد تركيا في «عيد النوروز» وقال أوجلان في رسالته: «اليوم نصحو على تركيا جديدة في شرق أوسط جديد، وهذا يعني أننا نبدأ مرحلة جديدة في تاريخنا. لقد قدمنا الكثير من التضحيات العظام، وترتب على هذا النضال خلق الهوية الكردية من جديد». وأضاف: «نقول لشعوب المنطقة من عرب وفرس وأتراك وأكراد يكفينا قتل بعضنا بعضا، يجب علينا أن ننتبه من هذه الحرب القذرة التي تخاض ضدنا، أما لملايين من الناس فأقول إننا بدأنا مرحلة جديدة، مرحلة تقدم السياسة على السلاح، وهذا ليس نتيجة وإنما بداية مرحلة».
ورأى أوجلان أن شعوب الأناضول مع الأكراد من حقهم العيش بسلام، ولهذا ستكون المرحلة الجديدة مرحلة الحقوق الديمقراطية والحريات والمساواة». وقال: «فلتسكت أصوات الرصاص، وليقف نزيف الدم التركي الكردي، ولنفتح الباب أمام السياسة». وتوجه إلى مقاتلي الكردستاني بالقول: «أناشدكم ترك السلاح والانسحاب إلى خارج الحدود والتحول من الكفاح المسلح إلى الكفاح الديمقراطي». وأردف قائلا: «الزمن ليس زمن القتال والحرب، بل زمن الاتفاق والمسامحة واحتضان بعضنا بعضا»، معتبرا أن «هذا لا يعني أننا تركنا الكفاح والنضال، لكننا استبدلنا نوعا آخر من النضال به».
وحول التعامل مع فكرة «كردستان الكبرى» قال أوجلان: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا، لكي نقيم معا نظاما ديمقراطيا يليق بعصرنا».
ولا شك في أن تركيا، بدأت بمقاربة جديدة للملف الكردي في تركيا، بعد نحو 30 سنة من الحروب التي ذهبت بنحو 40 ألف قتيل من الأتراك والأكراد جراء اعتماد الحكومات التركية المتعاقبة «الحل العسكري» للأزمة. فبعد سنوات على وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بدا واضحا أن الجذور الإسلامية للحزب تلعب دورا كبيرا في ردم الهوة بين الطرفين، لأن العدالة والتنمية قارب المسألة الكردية من زاوية «الأخوة الإسلامية»، محققا بذلك اختراقا لافتا للمجتمع الكردي المتماسك، وبات الحزب يضم الكثير من القيادات الكردية في صفوفه، وشارك حزب «السلام والديمقراطية» وخليفته على الساحة الكردية الشعوب الديمقراطي في تمثيل أكراد تركيا في البرلمان والمجالس المحلية.
ويرى الكاتب في صحيفة «زمان» التركية علي بولاج إيجابية كبيرة في تخطي الأكراد الحاجز النسبي ودخولهم البرلمان، معتبرا أن من النتائج المباشرة لهذه العملية أن حزب الشعوب الديمقراطي سيتمكن من إعادة هيكلة السياسة الكردية من خلال نجاحها. وبالتالي ستفقد طريقة استعمال العنف أهميتها. وأن أصوات الأغلبية الكردية التي تلعب دورا فعالا في الحركة السياسية الكردية ستتّحد مع الرأي العام التركي. وسيسعى الأكراد لحل مشاكلهم بالطرق الديمقراطية. ويعتبر أن تحقيق ذلك مهم بالنسبة لمستقبل تركيا خاصة والمنطقة عامة. فالحركة الكردية إما أن تتكامل مع تركيا أو تندفع نحو الانفصالية.
ويشير بولاج إلى أن الحركة الانفصالية الكردية تختلف عن مثل التي في إسبانيا وآيرلندا في أن الحركات السياسية في هاتين الدولتين كانت سياسية إيجابية ثم تحولها إلى سلبية بسبب فشل السياسة الإيجابية. لكن السياسة الكردية في تركيا على العكس من ذلك. إذ اختارت الطريقة السلبية أولا ثم انتهجت السياسة الحزبية الإيجابية بعد مرحلة منذ مطلع التسعينات. ولذلك فإن أحزاب الحركة السياسة الكردية مضطرة لتبني استراتيجية وأولويات العمال الكردستاني المسلحة. وهذا تعبير عما يجري على أرض الواقع في السياسة الكردية والمشكلة الكردية في تركيا. ويقول بولاج: «لقد وصلنا إلى مرحلة بات الجميع يدرك فيها أن الدولة التركية ولو استخدمت كل إمكاناتها لا تستطيع توجيه الحركة السياسية الكردية وفق ما يحلو لها. وهذا ما قاله رؤساء أركان الجيش في السابق. كما أصبح العمال الكردستاني على يقين بعدم إمكانية بلوغه مبتغاه باستخدام السلاح إلى النهاية.. وهنا ظهرت الحركة السياسية الكردية الإيجابية أي حزب الشعوب الديمقراطي، وقد تبين أن لهذا الحزب قاعدة إقليمية ودولية قوية.
ويوضح بولاج أن هناك رأيين مهمين بين الأكراد. يقول أولهما أنه «لا يمكن للأكراد أن يتخلوا عن تركيا، ولكن في نفس الوقت لا يمكن قبول الوضع الراهن الذي فرضته دولة تركيا على الأكراد منذ تأسيس الجمهورية التركية. وبالتالي علينا أن نحل مشاكلنا تحت سقف تركيا الواسع». أما الرأي الآخر فيقول «إن ما توصلنا إليه من خلال الكفاح المسلح لا يمكن أن يتقدم أكثر من هذا الحد. ويجب بعد هذه المرحلة أن نعتمد على السياسة القانونية بعد ما حققناه حتى الآن. وسنعمل على حل مشاكلنا تحت سقف البرلمان من خلال حملة ديمقراطية قوية».
لكن في المقابل، يرى تأومان عليلي، وهو من حزب الحركة القومية المناهض للأكراد أن السبب وراء الفوز الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطي كان تركيزهم على إحلال السلام في البلاد، وكأن البلاد تعيش حربا بين مكوناتها من الإثنيات. ويعتبر أن الحقيقة التي يحاول إخفاءها هي أن ما يجري في تركيا أن قوات الأمن كانت تلاحق منظمة إرهابية انفصالية في الجبال. ويشدد على أن هؤلاء لم يكونوا مدعومين من الشعب والدليل على هذا أن النسبة التي أخذها حزب الشعوب الديمقراطي لم تكن جميعها من الأكراد وأعلن هذا جليا صلاح الدين ديمرتاش حين قال إن الناخب التركي أقرضنا أصواته ولن نخيب آماله. ورأى أن هذا الدور تبدل منذ أكثر من عشر سنوات مع مجيء حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم حيث بدأت المنظمة الإرهابية بإبدال الدور التخريبي المسلح بالدور التخريبي السياسي بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي وما أغلق من قبله من أحزاب ذات نمط عرقي إثني.
وشدد على أن حزب الشعوب الديمقراطي هو الجناح السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي تعتبره تركيا «منظمة إرهابية»، والدليل على هذا أن الحزب قبل أن يتخذ أي قرار يقوم بزيارة جزيرة إمرالي والاجتماع بعبد الله أوجلان ومن ثم يعلنون خريطة طريقهم، هذا بعلم وتنسيق وموافقة من حزب العدالة والتنمية الحاكم حيث يعطي تعليماته للمخابرات لإدارة وتنسيق العملية.
ورأى عليلي أن دخول تخطي حزب الشعوب الديمقراطي الحاجز النسبي يعني دخول تنظيم «حزب العمال الكردستاني» المحظور للبرلمان والتحكم في مستقبل البلاد حيث أصبحوا الطفل المدلل في أي حكومة ائتلاف ستشكل. واعتبر أن الخطوة الأولى التي ستقوم بها هذه القوة التي تمثل «الإرهاب» هي تغيير الدستور حسبما يريدون ولهذا سيكون الشرط الأول هو رفع كلمة «ترك» من الدستور واستبدالها بكلمة الشعوب التي تسكن تركيا، كما إضافة كلمة «الشعب الكردي» إلى «الشعوب التي تشكل المجتمع في تركيا»، والشرط الثاني هو خفض نسبة الحاجز النسبي لدخول البرلمان في البلاد إلى 5 في المائة أو 3 في المائة، لكي يضمنوا البقاء في البرلمان، ويفتحوا المجال للآخرين.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.