«الهلال الخصيب» التركي

41 % من الأكراد حول العالم في تركيا.. وفوزهم يزيد المخاوف من «كردستان الكبرى»

«الهلال الخصيب» التركي
TT

«الهلال الخصيب» التركي

«الهلال الخصيب» التركي

شكل الفوز الكبير لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتخابات التركية هذا الأسبوع علامة فارقة في تاريخ البلاد التي تقف منذ أكثر من ثلاث سنوات على عتبة الحل للقضية الكردية الشائكة، من دون أن تتمكن من تخطيها. فرغم تراجع الخطاب الكردي في تركيا عن مقولة «الاستقلال» و«كردستان الكبرى» أي الوطن القومي الكردي، فإن مخاوف القوميين الأتراك وهواجسهم كبيرة، حيال موقف أكراد تركيا الذين أشغلوا البلاد نهاية العام الماضي نتيجة ما رأوا فيه «تقاعسا» من حكومتهم في السماح لهم بنجدة أشقائهم من أكراد سوريا في كوباني المحاصرة.

ويعتبر أكراد تركيا، الحجر الأساسي لأي كيان كردي مستقل قد ينشأ، باعتبارهم الكتلة الجغرافية، والسكانية، الأكبر في مناطق الوجود الكردي الذي قسمته اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى بين أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، مع بعض «النكهة» الأرمينية.
وقد قاتل أكراد تركيا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال، أملا بكيان مستقل، أو اعتراف بتمايز هويتهم. لكن الأخير انقلب عليهم بعد تأسيس الجمهورية في إطار سعيه لمحو الهوية الثقافية لكافة مكونات الدولة من غير الأتراك. ويعتبر الأكراد، رابع هوية قومية في منطقة الشرق الأوسط، لكنهم لم يكن لهم في أي يوم من الأيام دولة، فبقي حلم الدولة يظهر، ثم ما يلبث أن يتبخر نتيجة الضربات التي يتعرض لها. ولعل ما أسفرت عنه معاهدة «سيفر» في نهاية الحرب العالمية الأولى كان أقرب ما وصل إليه الأكراد. فقد نصت هذه المعاهدة على «تصور» لإقامة دولة كردية، في إطار سعيهم لتقسيم الإمبراطورية العثمانية. إذ نصت في البند 62 على أنه: «إذا حدث، خلال سنة من تصديق هذه الاتفاقية، أن تقدم الكرد القاطنون في المنطقة التي حددتها المادة (62) إلى عصبة الأمم قائلين إن غالبية سكان هذه المنطقة ينشدون الاستقلال عن تركيا، وفي حالة اعتراف عصبة الأمم بأن هؤلاء السكان أكفاء للعيش في حياة مستقلة وتوصيتها بمنح هذا الاستقلال، فإن تركيا تتعهد بقبول هذه التوصية وتتخلى عن كل حق في هذه المنطقة». لكن التنازلات التي قدمها الجانب التركي للحلفاء في أماكن أخرى، أسقطت هذا الحلم بعد أربع سنوات في معاهدة لوزان التي أوجدت الحدود الحالية للدولة التركية، فاعترف الأتراك بالانتداب على سوريا ولبنان مقابل تنازلات قدموها لتركيا في الأرض السورية وإنهاء الحلم الكردي.
أما اليوم فيقف أكراد المنطقة على مشارف لحظة تاريخية، لأن أكراد العراق شكلوا ما يشبه «الدولة» وباتوا يتمتعون بالقوة والقدرة الكافية، ويفتقدون فقط إلى الغطاء الدولي. أما أكراد سوريا فهم على الطريق، مع إنشاء مناطقهم الصافية، والتي استلزم تشكيلها بعض عمليات «الترانسفير» للعرب، فيما أكراد إيران يتململون، وقد يتحركون في لحظة ما مع اقتراب اللحظة المفصلية. ويمثل الانتصار الكردي في تركيا خطوة إضافية للأكراد، قد تكون مفتاحا نحو «كردستان الكبرى» أو شكل من أشكالها، أو قد تكون بداية لعهد كردي جديد يعتمد التمايز ضمن الأقاليم، ونوع من الحكم الذاتي، وهو ما عبر عنه زعيم أكراد تركيا عبد الله أوجلان منذ عامين بقوله: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا».
ويحذر الكاتب والمحلل السياسي التركي تأومان عليلي من علاقة أكراد تركيا بأكراد المنطقة «فهنا تكمن المصيبة، لا تنسوا أن حزب العمال وشبيهه حزب الشعوب الديمقراطي دخلوا الحدود السورية كما يدخل مقاتلو داعش لدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان يدافع عن بلدة عين العرب من هجومات داعش لأن الاتحاد الديمقراطي يعتبر فكريا وآيديولوجيا الجناح السوري للمنظمة الإرهابية بـ ك ك (حزب العمال الكردستاني)، هدفهم إقامة كردستان الكبرى».
ويشكل أكراد تركيا 41 في المائة من أكراد العالم، بكثير يقارب الـ15 مليون نسمة (20 في المائة من سكان تركيا) وفق تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، رغم أن الأكراد يقولون إن عددهم في العالم يتجاوز الـ50 مليونا وفي تركيا يقارب العشرين. فيما يقترب عددهم في إيران من ثمانية ملايين والعراق من 6 ملايين وسوريا من ثلاثة ملايين. أما وجودهم الأكبر في الغرب، فهو في ألمانيا مع نحو 750 ألف نسمة.
و«الكرد»، كما يطلق الأكراد على أنفسهم، يوجدون في مناطق الجنوب الشرقي، المحاذية لسوريا والعراق وإيران في محافظات هكاري وفان وآغري وبتليس وموش وديار بكر وأورفا وقارس وماردين وبينغول وإيلازيغ وتونجيلي وآدي يمان وارزبخان وغازي عنتاب وملاطيا. وينتمي 70 في المائة من الأكراد في تركيا إلى الطائفة السنية لكنهم يتبعون المذهب الشافعي، في حين أن معظم الأتراك يتبعون المذهب الحنفي، وفيهم نسبة 30 في المائة من العلويين مع وجود أقلية من الشيعة، ويتحدثون جميعا اللغة القرمانية. ويعيش أكراد تركيا، في جنوب شرقي البلاد، ومنها تمددوا إلى مناطق تركية أخرى بفعل الحاجة إلى العمل، التي جعلت - للمفارقة - من مدينة إسطنبول أكبر مدينة يتجمع فيها الأكراد في العالم، إذ يسكنها نحو ثلاثة ملايين كردي. أما الجانب الثاني للهجرة من الجنوب الشرقي للبلاد، فهي سياسة «الترانسفير» التي اعتمدتها السلطات العسكرية التركية، والتي رحلت بموجبها عائلات كردية بأكملها إلى مناطق مختلفة من البلاد
ونتيجة لحركات التمرد التي قامت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أعيد توطين الكثير من الأكراد، ومنع الكثير من الأسماء والأزياء الكردية. كما حظر استخدام اللغة الكردية، وأنكر وجود الهوية العرقية الكردية، وأشير للأكراد باسم «أتراك الجبال».
في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ظهر عبد الله أوجلان على الساحة التركية - الكردية، فأسس في عام 1978، حزب العمال الكردستاني، الذي نادى بتأسيس دولة مستقلة في تركيا. وبعد ست سنوات فقط من تأسيسه، حمل الحزب السلاح مع فشله في العملية السياسية وقمع السلطات التركية. وفي التسعينات، تراجع حزب العمال الكردستاني عن مطلب الاستقلال، وطالب بالمزيد من الاستقلال الثقافي والسياسي، لكنه استمر في القتال. وفي عام 2012. بدأت محادثات السلام بين الحكومة التركية والحزب، بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة. وطلب من مقاتلي حزب العمال الكردستاني التراجع إلى شمالي العراق العملية فشلت في وقف نهائي للعنف بين الجانبين رغم أنها خفضت منه إلى حد كبير.
ويعود الفضل في هذا إلى المحادثات التي جرت سرا أولا، ثم علنا، بين جهاز الاستخبارات التركي، وأوجلان في سجنه في جزيرة إمرالي، حيث يقضي حكما بالسجن المؤبد منذ القبض عليه في مطلع التسعينات. وقد توجت هذه المحادثات بالخطاب الشهير الذي وجهه أوجلان من سجنه إلى أكراد تركيا في «عيد النوروز» وقال أوجلان في رسالته: «اليوم نصحو على تركيا جديدة في شرق أوسط جديد، وهذا يعني أننا نبدأ مرحلة جديدة في تاريخنا. لقد قدمنا الكثير من التضحيات العظام، وترتب على هذا النضال خلق الهوية الكردية من جديد». وأضاف: «نقول لشعوب المنطقة من عرب وفرس وأتراك وأكراد يكفينا قتل بعضنا بعضا، يجب علينا أن ننتبه من هذه الحرب القذرة التي تخاض ضدنا، أما لملايين من الناس فأقول إننا بدأنا مرحلة جديدة، مرحلة تقدم السياسة على السلاح، وهذا ليس نتيجة وإنما بداية مرحلة».
ورأى أوجلان أن شعوب الأناضول مع الأكراد من حقهم العيش بسلام، ولهذا ستكون المرحلة الجديدة مرحلة الحقوق الديمقراطية والحريات والمساواة». وقال: «فلتسكت أصوات الرصاص، وليقف نزيف الدم التركي الكردي، ولنفتح الباب أمام السياسة». وتوجه إلى مقاتلي الكردستاني بالقول: «أناشدكم ترك السلاح والانسحاب إلى خارج الحدود والتحول من الكفاح المسلح إلى الكفاح الديمقراطي». وأردف قائلا: «الزمن ليس زمن القتال والحرب، بل زمن الاتفاق والمسامحة واحتضان بعضنا بعضا»، معتبرا أن «هذا لا يعني أننا تركنا الكفاح والنضال، لكننا استبدلنا نوعا آخر من النضال به».
وحول التعامل مع فكرة «كردستان الكبرى» قال أوجلان: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا، لكي نقيم معا نظاما ديمقراطيا يليق بعصرنا».
ولا شك في أن تركيا، بدأت بمقاربة جديدة للملف الكردي في تركيا، بعد نحو 30 سنة من الحروب التي ذهبت بنحو 40 ألف قتيل من الأتراك والأكراد جراء اعتماد الحكومات التركية المتعاقبة «الحل العسكري» للأزمة. فبعد سنوات على وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بدا واضحا أن الجذور الإسلامية للحزب تلعب دورا كبيرا في ردم الهوة بين الطرفين، لأن العدالة والتنمية قارب المسألة الكردية من زاوية «الأخوة الإسلامية»، محققا بذلك اختراقا لافتا للمجتمع الكردي المتماسك، وبات الحزب يضم الكثير من القيادات الكردية في صفوفه، وشارك حزب «السلام والديمقراطية» وخليفته على الساحة الكردية الشعوب الديمقراطي في تمثيل أكراد تركيا في البرلمان والمجالس المحلية.
ويرى الكاتب في صحيفة «زمان» التركية علي بولاج إيجابية كبيرة في تخطي الأكراد الحاجز النسبي ودخولهم البرلمان، معتبرا أن من النتائج المباشرة لهذه العملية أن حزب الشعوب الديمقراطي سيتمكن من إعادة هيكلة السياسة الكردية من خلال نجاحها. وبالتالي ستفقد طريقة استعمال العنف أهميتها. وأن أصوات الأغلبية الكردية التي تلعب دورا فعالا في الحركة السياسية الكردية ستتّحد مع الرأي العام التركي. وسيسعى الأكراد لحل مشاكلهم بالطرق الديمقراطية. ويعتبر أن تحقيق ذلك مهم بالنسبة لمستقبل تركيا خاصة والمنطقة عامة. فالحركة الكردية إما أن تتكامل مع تركيا أو تندفع نحو الانفصالية.
ويشير بولاج إلى أن الحركة الانفصالية الكردية تختلف عن مثل التي في إسبانيا وآيرلندا في أن الحركات السياسية في هاتين الدولتين كانت سياسية إيجابية ثم تحولها إلى سلبية بسبب فشل السياسة الإيجابية. لكن السياسة الكردية في تركيا على العكس من ذلك. إذ اختارت الطريقة السلبية أولا ثم انتهجت السياسة الحزبية الإيجابية بعد مرحلة منذ مطلع التسعينات. ولذلك فإن أحزاب الحركة السياسة الكردية مضطرة لتبني استراتيجية وأولويات العمال الكردستاني المسلحة. وهذا تعبير عما يجري على أرض الواقع في السياسة الكردية والمشكلة الكردية في تركيا. ويقول بولاج: «لقد وصلنا إلى مرحلة بات الجميع يدرك فيها أن الدولة التركية ولو استخدمت كل إمكاناتها لا تستطيع توجيه الحركة السياسية الكردية وفق ما يحلو لها. وهذا ما قاله رؤساء أركان الجيش في السابق. كما أصبح العمال الكردستاني على يقين بعدم إمكانية بلوغه مبتغاه باستخدام السلاح إلى النهاية.. وهنا ظهرت الحركة السياسية الكردية الإيجابية أي حزب الشعوب الديمقراطي، وقد تبين أن لهذا الحزب قاعدة إقليمية ودولية قوية.
ويوضح بولاج أن هناك رأيين مهمين بين الأكراد. يقول أولهما أنه «لا يمكن للأكراد أن يتخلوا عن تركيا، ولكن في نفس الوقت لا يمكن قبول الوضع الراهن الذي فرضته دولة تركيا على الأكراد منذ تأسيس الجمهورية التركية. وبالتالي علينا أن نحل مشاكلنا تحت سقف تركيا الواسع». أما الرأي الآخر فيقول «إن ما توصلنا إليه من خلال الكفاح المسلح لا يمكن أن يتقدم أكثر من هذا الحد. ويجب بعد هذه المرحلة أن نعتمد على السياسة القانونية بعد ما حققناه حتى الآن. وسنعمل على حل مشاكلنا تحت سقف البرلمان من خلال حملة ديمقراطية قوية».
لكن في المقابل، يرى تأومان عليلي، وهو من حزب الحركة القومية المناهض للأكراد أن السبب وراء الفوز الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطي كان تركيزهم على إحلال السلام في البلاد، وكأن البلاد تعيش حربا بين مكوناتها من الإثنيات. ويعتبر أن الحقيقة التي يحاول إخفاءها هي أن ما يجري في تركيا أن قوات الأمن كانت تلاحق منظمة إرهابية انفصالية في الجبال. ويشدد على أن هؤلاء لم يكونوا مدعومين من الشعب والدليل على هذا أن النسبة التي أخذها حزب الشعوب الديمقراطي لم تكن جميعها من الأكراد وأعلن هذا جليا صلاح الدين ديمرتاش حين قال إن الناخب التركي أقرضنا أصواته ولن نخيب آماله. ورأى أن هذا الدور تبدل منذ أكثر من عشر سنوات مع مجيء حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم حيث بدأت المنظمة الإرهابية بإبدال الدور التخريبي المسلح بالدور التخريبي السياسي بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي وما أغلق من قبله من أحزاب ذات نمط عرقي إثني.
وشدد على أن حزب الشعوب الديمقراطي هو الجناح السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي تعتبره تركيا «منظمة إرهابية»، والدليل على هذا أن الحزب قبل أن يتخذ أي قرار يقوم بزيارة جزيرة إمرالي والاجتماع بعبد الله أوجلان ومن ثم يعلنون خريطة طريقهم، هذا بعلم وتنسيق وموافقة من حزب العدالة والتنمية الحاكم حيث يعطي تعليماته للمخابرات لإدارة وتنسيق العملية.
ورأى عليلي أن دخول تخطي حزب الشعوب الديمقراطي الحاجز النسبي يعني دخول تنظيم «حزب العمال الكردستاني» المحظور للبرلمان والتحكم في مستقبل البلاد حيث أصبحوا الطفل المدلل في أي حكومة ائتلاف ستشكل. واعتبر أن الخطوة الأولى التي ستقوم بها هذه القوة التي تمثل «الإرهاب» هي تغيير الدستور حسبما يريدون ولهذا سيكون الشرط الأول هو رفع كلمة «ترك» من الدستور واستبدالها بكلمة الشعوب التي تسكن تركيا، كما إضافة كلمة «الشعب الكردي» إلى «الشعوب التي تشكل المجتمع في تركيا»، والشرط الثاني هو خفض نسبة الحاجز النسبي لدخول البرلمان في البلاد إلى 5 في المائة أو 3 في المائة، لكي يضمنوا البقاء في البرلمان، ويفتحوا المجال للآخرين.



صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

TT

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

في انتخابات عام 2010، حال تفسير سابق للمحكمة الاتحادية العليا في العراق دون تمكن «القائمة العراقية» بزعامة إياد علاوي، رئيس الوزراء الأسبق، من تشكيل الحكومة آنذاك. ثم حال «الثلث المعطّل» في انتخابات 2021 دون تمكن زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر من تشكيل حكومة غالبية سياسية... الأمر الذي جعله ينسحب من الانتخابات ويسحب معه نوابه الـ73 الذين كانوا فازوا بأكبر عدد من المقاعد آنذاك.

 

 

في عام 2010، كانت «القائمة العراقية»، التي تشكّلت من قوائم في غالبيتها سنية - وإن كان زعيمها إياد علاوي شيعياً - فازت بأكبر عدد من مقاعد البرلمان العراقي (92) مقعداً في حين حصل ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي على (89) مقعداً.

وبالتالي، بينما كان ينبغي، وفق الدستور، أن تشكل «القائمة العراقية» بوصفها الفائزة بأكبر عدد المقاعد، فإن قائمة المالكي، التي حلّت في المرتبة الثانية، قدّمت في حينه شكوى للمحكمة الاتحادية التي خرجت «بتفسير» جديد تحوّل إلى عُرفٍ سياسي يقضي بأن «الكتلة الأكبر» هي التي «يُمكن» بعد إعلان النتائج أن تكون القائمة صاحبة أكبر عدد من المقاعد، أو تلك التي تشكّل بعد إعلان النتائج الكتلة الأكبر داخل البرلمان.

لا نص دستورياً حول «الثلث المعطل»

وبشأن «الثلث المعطل»، يقول خبراء قانونيون لـ«الشرق الأوسط» إن «الثلث المعطّل» لا يستند إلى نصّ في الدستور العراقي أو في قوانين الانتخابات. ويوضح الباحث القانوني سيف السعدي أن هذا المفهوم «ابتُكر سياسياً من قبل قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي لمنع تمرير انتخاب رئيس الجمهورية (آنذاك)، وبالتالي، تعطيل تكليف رئيس الوزراء». وأردف أن «هذا الأسلوب لا ينسجم مع أحكام الدستور التي تحدّد آليات واضحة لتشكيل الحكومة».

من جانبه، يقول الخبير القانوني علي التميمي إن «الدستور العراقي لا يتضمّن أي إشارة إلى الثلث المعطّل، وإنما هي ممارسة سياسية تظهر عند اختيار رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء».

ويتابع أن انتخاب رئيس الجمهورية يتطلب تصويت ثلثَي أعضاء مجلس النواب؛ أي ما لا يقل عن 220 نائباً، وفي حال غياب هذا النصاب لا يمكن المضي بعملية الانتخاب، ما يؤدي إلى تعطّل تشكيل الحكومة.

ويضيف التميمي أن «الثلث المعطّل يعكس خلافات سياسية أكثر ممّا يعبّر عن قاعدة دستورية»، مشيراً إلى أن «تحقيق نصاب الثلثين يتطلّب توافقاً بين عدة كتل برلمانية». ويستطرد موضحاً: «المحكمة الاتحادية سبق لها أن أصدرت قراراً استثنائياً بهذا الشأن، لكن الأصل الدستوري هو انعقاد الجلسة بالغالبية المطلقة (النصف زائد واحد)، ومن الممكن طلب تفسير جديد من المحكمة لإزالة الغموض حول هذه المسألة».

للعلم، في انتخابات عام 2021، حاول مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي كانت قائمته فازت بأكثر المقاعد - بحصوله على 73 مقعداً - تشكيل حكومة غالبية سياسية مع كل من الحزب «الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني وحزب «تقدم» بزعامة محمد الحلبوسي. غير أن القوى الشيعية - آنذاك - حالت دون تمكينه من تشكيل الحكومة، بأن وضعت ما يُعرف بشرط «الثلث المعطل»، الذي لا وجود له في الدستور العراقي، حائلاً دون انتخاب رئيس الجمهورية الذي يحتاج إلى ثلثي أعضاء البرلمان.

وفي حين أدى ذلك إلى انسحاب الصدر من المشهد السياسي كلّه، وتحوّله إلى المعارضة لكن من خارج البرلمان، فقد رشّحت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي محمد شياع السوداني لتشكيل الحكومة.

الانتخابات الأخيرة

في الانتخابات التي انتهت بالأمس، يظلّ باب المفاجآت مفتوحاً على كل الاحتمالات، بينما بدا واضحاً التشظي داخل كتلة «الإطار التنسيقي» الشيعي في أعقاب انشقاق ائتلاف «الإعمار والتنمية» بزعامة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني عنها، ليس بإرادته بل بإرادة قوى «الإطار» نفسه.

ثم إنه مع توقّع كثيرين ازدياد الموقف تعقيداً أكثر فأكثر من قبل السوداني حيال قوى الإطار، وبالعكس، يؤكد هؤلاء بقاء كل الاحتمالات قائمة. ذلك أن السوداني أظهر تفوقاً واضحاً في الانتخابات المنتهية بحصوله على 45 مقعداً برلمانياً، وهو - بناءً عليه - الأول من حيث حجم الكتل والقوائم؛ إذ إنه يتقدّم بفارق كبير نسبياً عن أقرب خصومه من داخل «البيت» الشيعي، أي ائتلاف المالكي. وهو ما يعني أنه سيكون لاعباً قوياً في حال أراد تشكيل الحكومة عبر تشكيله الكتلة الأكبر.

ومع أن الحسابات الأولية تظهر أن قوى «الإطار التنسيقي» مجتمعة قد تتمكن من «تجميع» الكتلة الأكبر من حيث العدد متفوقة على السوداني، فإن الأخير وبسبب كونه صاحب أكبر عدد المقاعد، وكونه مَرضياً عنه أميركياً، لا تبدو فرصه في المناورة من أجل كسب ولاية ثانية مستبعدة أبداً. أضف إلى ذلك أن بعض قوى «الإطار التنسيقي» ليس لديها «فيتو» على السوداني بل لديها خلافات معه يمكن تسويتها عبر التفاوض ومنحها ما تريد من مناصب وامتيازات في الحكومة المقبلة في حال شكلها السوداني، الذي حظي بمباركة أميركية مبكّرة بعد يوم واحد من إعلان النتائج.

سافايا يشعل المنافسة

سارع مارك سافايا، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترمب للعراق، إلى إشادة مبكرة بنتائج الانتخابات العراقية. وقدّم «تهانيه الخالصة» للشعب العراقي بمناسبة استكمال الانتخابات البرلمانية الأخيرة بنجاح، مقدماً شكره إلى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

وقال سافايا في تصريح له نشره عبر حسابه الرسمي، إن «الشعب العراقي أثبت مرة أخرى التزامه بالحرية وسيادة القانون وبناء مؤسسات دولة قوية»، مشيداً بـ«حرص رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وحكومته على إجراء الانتخابات في وقتها وبسلاسة»، ومعتبراً أن «ذلك دليلٌ واضح على أن العراق يسير في طريق الازدهار والسيادة».

أيضاً، أكد المبعوث الأميركي - وهو عراقي الأصل - أن «الولايات المتحدة تبقى ملتزمة بقوة بدعم سيادة العراق وجهود الإصلاح والحد من التدخلات الخارجية والمجاميع المسلحة... وتظل تتطلع إلى العمل مع الحكومة العراقية لتعميق الشراكة الاستراتيجية في مجالات الأمن والطاقة والتنمية والمساهمة في بناء مستقبل مستقر ومزدهر لجميع العراقيين».

هذا، وبينما كان الثنائي الأميركي - الإيراني يدخل على خط اختيار رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية السابقة في العراق بدءاً من أول انتخابات عام 2005 وإلى آخر انتخابات عام 2021 - التي لم يفلح فيها زعيم التيار الصدري الفائز الأول في تشكيل حكومة غالبية سياسية - فإنه، في ظل تراجع الدور الإيراني خلال الفترة الأخيرة، يرى مراقبون أن ثمة مخاوف تساور قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي من أن تنفرد واشنطن هذه المرة بتحديد شخصية رئيس الوزراء المقبل، لا سيما أن واشنطن، وطبقاً لمضمون رسالة سافايا، تريد إكمال ما بدأته على صعيد الشراكة السياسية الاقتصادية مع رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.

وفي هذا السياق، يقول الدكتور غالب الدعمي، أستاذ الإعلام في جامعة الكوفة لـ«الشرق الأوسط»، إن «التكهن بالسيناريوهات المقبلة يبدو صعباً حتى الآن، لكن مع ذلك يمكن القول إن رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني لا يزال هو الأكثر ترجيحاً... وإذا تمكن من إقناع بعض أطراف (الإطار التنسيقي) الشيعي فسيصار إلى تكليفه؛ لأن لا فيتو دولياً على السوداني بعكس أوضاع منافسين آخرين يمكن أن يكونوا مقبولين من الخارج لكن عليهم اعتراضات كبيرة من بعض قوى الداخل».

ويضيف الدعمي: «مع هذا، يبقى هناك منافسون آخرون للمنصب من بينهم رئيسا الوزراء السابقان حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي. كذلك، فإن السيناريوهات متباينة حيث لا يستبعد أن يكون أحد قادة الأجهزة الأمنية مطروحاً هو الآخر لمنصب رئيس الوزراء مع أن المتغيرات الإقليمية والدولية يمكن أن تكون حاكمة في هذا السياق أيضاً».

من جهته، وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، يرى الدكتور صلاح العرباوي، رئيس حركة «وعي» الوطنية، أنه «قد لا يكون هناك جديد في هذه الانتخابات»، لكنه يرجح إمكانية إجراء انتخابات مبكرة نظراً لوضع التيار الصدري القلق، وأن «هذه الانتخابات لم تأت بأي جديد، حيث إن التنافس كان قوياً بين قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي... ومن بين الملامح الأخرى لهذه الانتخابات هي غياب شبه تام للقوى المدنية والليبرالية والحركات المنبثقة عن (تشرين)».

وبحسب الدكتور العرباوي، «قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي ستجتمع فيما بينها لتشكيل الكتلة الأكثر عدداً مثل كل انتخابات، وقد نشهد خلال شهر مارس (آذار) المقبل تشكيل الحكومة الجديدة وربما لن يكون السوداني رئيسها... لكن الأهم من ذلك كله هو ترتيب عودة آمنة للتيار الصدري، وذلك لن يكون إلا بإجراء انتخابات مبكرة؛ لأن التيار لن يستمر وجوده خارج أروقة السلطة طويلاً».

مارك سافايا مبعوث الرئيس الأميركي إلى العراق سارع

إلى الإشادة مبكراً بنتائج الانتخابات

صراع ومنافسات

على صعيد متصل، سجّل هذه المرة ارتفاع نسبة المشاركة في هذه الانتخابات؛ إذ بلغت 65 في المائة، وفق المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهو ما يمثل فارقاً كبيراً عن آخر انتخابات، تلك التي أجريت عام 2021. فيومها بلغت النسبة 40 في المائة، ما يشير إلى قفزة كبيرة من حيث المشاركة الشعبية رغم غياب أكبر تيار شيعي معارض (أي التيار الصدري).

في المقابل، أظهرت نتائج الانتخابات تراجعاً واضحاً للتيارات المدنية. ذلك أن ما أدى إلى زيادة نسبة المشاركة هو التنافس الداخلي بين المكوّنات «الشيعية والسنية والكردية»، بعدما انتقل الصراع من صراعات «بين» المكوّنات إلى صراع «داخل» المكونات. وهذا ما جعل كل حزب أو تجمع يحشد أكبر عدد من التابعين له للمشاركة في الانتخابات من أجل إحداث فارق على صعيد نسب المشاركة.

وللعلم، كان رئيس تحالف «البديل» عدنان الزرفي، النائب في البرلمان والمرشح السابق لرئاسة الوزراء، الذي لم يتمكن تحالفه من الحصول على مقعد في البرلمان الحالي قد أعلن أنه خاض معركة انتخابية غير متكافئة. وأضاف في بيان له بعد إقراره بالخسارة: «لقد خضنا معركةً انتخابية غير متكافئة بين المال السياسي واستغلال السلطة في مواجهةِ مشروع مدني رافعته الانتخابية الوحيدة قناعة الناس ببرنامج (البديل) وإيمانهم بالتغيير».

ومن ثم، دعا المفوضية إلى «ممارسة دورها على أعلى وجه، ومحاسبة كُلِّ من سعى لتشويه العملية الانتخابية من خلالِ شراء الأصوات العلني والموثق في محافظة النجف، وتبادل العيارات النارية بين أنصار المرشحين، فهذه تعتبر (دگة سياسية) تمس جوهر العملية الديمقراطية وإرادة الناخب الحر».

وفي حين لم يحالف الحظ رئيس البرلمان العراقي، محمود المشهداني، الذي كان يحمل «الرقم واحد - بغداد» ضمن «قائمة السيادة» لنيل مقعد في البرلمان العراقي، صرّح لـ«الشرق الأوسط» بأن العراق «تخطى العقبة الأولى بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد دون تأخير... أما التحدي الثاني الذي اجتزناه فيتمثل في سير العملية الانتخابية بانسيابية عالية وروح ديمقراطية، مع تسجيل خروق قليلة جداً تكاد لا تذكر». وهذا قبل أن يضيف: «تحديد نسبة المشاركة النهائية يتطلب انتظار انتهاء اليوم الانتخابي... والمرحلة المقبلة تتطلب الانتقال من الصراع على السلطة إلى بناء الدولة»، معتبراً أن هذا الهدف يحتاج إلى «حكومة كفاءات في ظل أمن مزدهر واقتصاد ناجح، لا حكومة قائمة على الولاءات السياسية».

 

قوى «الإطار التنسيقي»... مستعجلة

من جانب آخر، ومع أن الطريق لا يزال طويلاً على تشكيل الحكومة المقبلة - سواء طبقاً للمُدد الدستورية التي تستغرق نحو أربعة أشهر أو الخلافات السياسية المتوقع أن تكون عنيفة - فإن قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي بدأت تعلن عن عزمها تشكيل «الكتلة النيابية الأكبر»، بعد التصديق على نتائج الانتخابات. وفي هذا مسعى واضح منها لعزل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الفائزة كتلتُه بأكبر عدد من المقاعد؛ إذ أعلن مختار الموسوي، القيادي في منظمة «بدر» (إحدى مكوّنات «الإطار التنسيقي») في تصريح صحافي، أن «قوى (الإطار التنسيقي) ستعلن عن تشكيلها القائمة، أو الكتلة النيابية الأكبر، بعد تصديق النتائج الرسمية للانتخابات... فقوائم (الإطار التنسيقي) حصلت على أصوات ومقاعد تمكنها من المضي بالكتلة الأكبر التي يقع على عاتقها تسمية رئيس الحكومة الجديدة، وليس بالضرورة أن تكون مع ائتلاف الإعمار والتنمية (أي كتلة السوداني)».

مع ذلك، فإنه بالنسبة للمراقبين السياسيين، وبغض النظر عن دقة نسب المشاركة أو عدمها، فإن الفوز الذي حققه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني سيعيد ترسيم قواعد اللعبة داخل قوى «الإطار التنسيقي»، وهو بعدما تمكن من الوصول إلى منصب رئيس الوزراء في الدورة الماضية وهو يملك فقط مقعدين برلمانيين، فإنه حصل هذه المرة على 45 مقعداً. وهذا واقع يجعله لاعباً أساسياً داخل الفضاء الإطاري، ومنافساً لشغل منصب رئاسة الوزراء لدورة ثانية، وكان قد أعلن بوضوح عن هذه الرغبة.أخيراً، مع أن الأمور لا تبدو بهذه السهولة، فإن ما يساعد رئيس الوزراء على ذلك حصول متغيرات إقليمية ودولية لصالحه، أبرزها تراجع النفوذ الإيراني في العراق مقابل تزايد النفوذ الأميركي، وبالأخص، بعد دخول المبعوث الرئاسي الأميركي مارك سافايا على خط التكهنات والتأويلات بشأن تشكيل الحكومة العراقية العتيدة.


«ماما سامية»... طموح نسائي محاط بـ«فخ الديكتاتورية»

واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
TT

«ماما سامية»... طموح نسائي محاط بـ«فخ الديكتاتورية»

واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني

قبل أربع سنوات، كان من الصعب تخيّل أن تتولى امرأة مسلمة من جزيرة زنجبار رئاسة دولة تنزانيا شرق القارة الأفريقية. إلا أن سامية صلوحو حسن، التي اكتسحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اعتادت على المفاجآت والجدل المستمر. فقد بدأت رحلتها بطموح نسائي إصلاحي قادته صدفة إلى السلطة بعد وفاة الرئيس السابق جون ماجوفولي، لكنها، حسب مراقبين، تنزلق اليوم تدريجياً بصناديق الاقتراع نحو نفق يُخشى أن يتحول إلى «ديكتاتورية دامية».

بداية مشوار سامية صلوحو حسن (65 سنة) مع كرسي الرئاسة في تنزانيا كانت بمثابة حقبة انتقالية فرضها ظرف استثنائي لمدة 4 سنوات، إلا أنها حولت تلك الفرصة العابرة، أخيراً، إلى حضور لخمس سنوات أخرى، فارضة نفوذها عبر صناديق الاقتراع وسط احتجاجات دامية، في مشهد يختزل التحديات المستمرة في مشاهد الانتقال الديمقراطي الأفريقي.

في خطوات صلوحو حسن الأولى على أبواب القصر الرئاسي عام 2021، كان لقبها الشعبي «ماما سامية» ترميزاً للحكمة والاحترام الأمومي، وتفاؤلاً ببداية إصلاحات واعدة. ولكن مع مرور الوقت، فُقد هذا البريق تدريجياً، وتحوّلت صورتها من زعيمة معتدلة إلى شخصية مثيرة للجدل، تتهمها المعارضة بتكريس نهج الحزب الواحد وإعادة إنتاج سياسات القمع... بل حتى ذهب البعض إلى تشبيهها بالرئيس الأوغندي الراحل الجنرال عيدي أمين.

تجلّى هذا الأمر على نحو واضح بعد فوزها الساحق بنسبة 97 في المائة في انتخابات وُصفت بأنها «غير نزيهة» شهدت اعتقال عشرات المعارضين بتهم «الخيانة العظمى». ويرى محللون محليون أن الرئيسة ما عادت كما كانت عند توليها الحكم عام 2021. وهذه هي أيضاً رؤية المحلل السياسي التنزاني خليفة سعيد، رئيس تحرير منصة «تشانزو»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «التوقّعات في الماضي كانت تدور حول ازدهار اقتصادي شامل وتعزيز التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، لكن هذه الآمال تبخرت خلال أربع سنوات من حكمها».

نشأة وسط أجواء متوترة

الأجواء المتوترة في تنزانيا راهناً لا تتباين كثيراً مع مرحلة تشكُّل الوعي المبكّر لرئيستها في مسقط رأسها، جزيرة زنجبار، حيث كانت تتبدّل ديناميكيات السلطة ويأخذ التغيير الاجتماعي مجراه.

وُلدت سامية صلوحو حسن يوم 27 يناير (كانون الأول) 1960 لأسرة مسلمة متواضعة - الأب يعمل مدرّساً - حين كانت جزيرة زنجبار تعيش اضطرابات سياسية متلاحقة. ولقد بلغت تلك الاضطرابات التاريخية ذروتها بثورة عام 1964 التي أطاحت بنفوذ سلطنة عُمان على الجزيرة، وأسفرت عن مذابح راح ضحيتها الآلاف، ومهّدت، من ثم، الطريق لاتحاد زنجبار مع تنجانيقا، «جارتها» الكبيرة على اليابسة الأفريقية، وبذلك «الاتحاد» ولدت دولة تنزانيا الحديثة.

أهدت تنزانيا في ثوبها الجديد فرصاً حياتية مهمة لرئيسة المستقبل، إذ كانت من بين قلةٍ من الفتيات اللواتي واصلن التعليم في زمنٍ كانت الفرص محدودة للنساء. إذ درست في مدارس زنجبار، ثم تلقّت تدريباً عالياً في الإدارة العامة والاقتصاد في معاهد بينها معهد إدارة التنمية (جامعة مزومبي حالياً) في تنزانيا، ثم واصلت تعليمها فحصلت على دبلوم دراسات عليا من جامعة مانشستر البريطانية، ثم ماجستير في التنمية الاقتصادية ضمن برنامج مشترك بين جامعة جنوب نيوهامبشاير الأميركية وجامعة تنزانيا المفتوحة.

هذا المسار الأكاديمي منحها قاعدة صلبة مكّنتها من العمل في مؤسسات حكومية وبرامج الأمم المتحدة، قبل أن تدخل البرلمان وتشغل مناصب وزارية مختلفة، إلى أن اختارها الرئيس ماغوفولي - من حزب الثورة (اليسار المعتدل الاشتراكي) - نائبةً له عام 2015.

رئيسة لتنزانيا

لكن في مارس (آذار) 2021 بعد وفاة ماغوفولي (61 سنة) المفاجئة، وجدت صلوحو حسن نفسها - من دون أي حسابات مسبقة - على قمة السلطة. بالفعل، أقسمت في حينه اليمين الدستورية، وغدت أول امرأة تترأس تنزانيا، ما يعني أنها لم تصل مباشرة عبر صناديق الاقتراع، بل على وقع الصدمة الوطنية.

ورغم الشكوك الأولى حول قدرتها على القيادة، بادرت الرئيسة الجديدة إلى طرح سياسة «آر إس 4» التي تضمنت نهجاً رباعياً يتمثل في المصالحة، والصمود، والإصلاح، وإعادة البناء، محاولةً طي صفحة إرث سلفها الثقيل.

لقد حاولت الـ«ماما سامية» إظهار انفتاح معلن، وطيّ صفحة الماضي عبر رفع القيود عن الإعلام وتسهيل عمل المعارضة. كذلك أطلقت لجنة للإصلاح السياسي للتشاور مع المجتمع المدني، كما أفرجت عن بعض المعتقلين السياسيين، وفتحت قنوات حوار مع الخصوم، فبدت في بداياتها وكأنها تبشّر بعصر جديد من الانفتاح والديمقراطية.

اقتصادياً، وضعت صلوحو مسألة التنمية في صدارة أولوياتها، وركّزت على مشاريع البنية التحتية والطاقة، وسعت لجذب الاستثمارات الأجنبية رافعةً للنمو الذي حقق نمواً ملحوظاً، بيد أن الفقر والبطالة كانا يطالان نحو نصف السكان، في بلدٍ يعتمد بشكل كبير على الزراعة والخدمات والسياحة.

ومن جهة ثانية، تواكبت جهود الرئيسة الاشتراكية مع إطلاق سلسلة مبادرات لمواجهة تغير المناخ وتعزيز الأمن الغذائي، فضلاً عن برامج لتمكين النساء والفتيات وتشجيع الشباب على المشاركة في الحياة العامة. هذه السياسات الاجتماعية ساعدت في الحفاظ على قاعدة دعم نسائية وشبابية، رغم اتساع الهوة بينها وبين الطبقة السياسية المعارضة.

السياسة الخارجية وسط التنافس القاري

على صعيد السياسة الخارجية، انتهجت صلوحو حسن نهجاً حذراً ومتوازناً. فقد أدانت الحرب على غزة، ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، لكن من دون التحرك الجنائي المباشر على غرار جنوب أفريقيا أو الانخراط المباشر في جهد دبلوماسي في الصراع، مؤثرة دعم الحلول الدولية السلمية. وعملت على تعزيز علاقات بلادها مع دول خليجية، خصوصاً سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، ووقّعت معهما مذكّرات تفاهم اقتصادية وتجارية عزّزت حضور تنزانيا الإقليمي.

في الوقت نفسه، واصلت بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولة الحفاظ على استقلال القرار التنزاني وتجنّب التبعية لأي محوَر دولي.

هذا التوازن ساعدها في جذب استثمارات ومساعدات تنموية، لكنه لم يُخف الانتقادات الغربية المناوئة لخطها السياسي، بذريعة «سجّلها في مجال الحريات السياسية»، لا سيما من جانب واشنطن.

ومع اقتراب نهاية ولايتها الأولى، بدا أن الصورة «الإصلاحية» للرئيسة الاشتراكية تهتزّ في الغرب على الرغم من المؤشرات الاقتصادية الجيدة، ففي استطلاع أجرته مؤسسة «أفروباروميت» وشمل 2400 مواطن، أظهر أن 68 في المائة من التنزانيين يقدرّون مستوى أداء الحكومة بين «الجيد والجيد جداً» في تحسين الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم.

إذ ترى مصادر غربية أن الأرقام في الاستطلاع نفسه كشفت أن الإصلاح الاقتصادي لم يتوازَ مع تحسن مماثل في الحريات العامة، بدليل أن 75 في المائة ممن استُطلعت آراؤهم أعربوا عن خوفهم من الانتقام إذا تكلّموا عن الفساد. وبينما قال 61 في المائة إنهم يشعرون بحرية نسبية في التعبير، قال 58 في المائة إنهم يفضّلون الحذر في النقاشات السياسية.

صدام مع الغرب

بالفعل، في الأمتار الأخيرة من ولايتها الرئاسية الأولى، دخلت سامية صلوحو حسن في أول صدام مع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، بعد دعوات لإجراء تحقيق مستقل في مقتل المعارض علي محمد كيباو، الزعيم السابق لحزب «تشاديما» اليميني، الذي عُثر على جثته المشوّهة في دار السلام، لكنها ردت بلهجة حاسمة قائلة «نحن لسنا هنا ليُقال لنا كيف ندير بلادنا».

وهنا، حسب المحلّل التنزاني خليفة سعيد، بدا أن الرئيسة «تُظهر تراجعاً في الثقة بالنفس، وتعتمد بشكل متزايد على الأجهزة الأمنية بدلاً من الحلول السياسية، وتتعامل مع النقد كعداء شخصي». وكذلك تتبدل ملامح صورة الرئيسة «من أنجيلا ميركل أفريقيا إلى زعيمة متهمة بالقمع وإقصاء خصومها»، وفق الباحث محمد الجزّار في دراسة لمركز «قراءات أفريقية».

وبالتالي، يرى البعض أن الانتخابات الرئاسية التنزانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي «رسخت» صورة هذا التحوّل السلبي؛ إذ استُبعد أبرز المرشحين المعارضين واعتُقل بعضهم، ما جعل السباق الرئاسي شبه محسوم لصالح حزب الثورة (تشاما تشا مابيندوزي) الاشتراكي الحاكم.

بل بعد إعلان فوز صلوحو حسن بنسبة 97 في المائة، اندلعت احتجاجات عنيفة في عدة مدن أسفرت عن مقتل مئات، وتفجرت معها إدانات من الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية.

هكذا تحوّلت الرئيسة التي كانت تُوصف ذات يوم بـ«أمل الإصلاح» إلى شخصيةٍ تواجه اتهامات بالقمع والفساد السياسي، وتدشن ولايتها الثانية حاملةً ثلاثة ملفات ثقيلة:

الأول: ترميم الثقة السياسية بعد تراجع الحريات وتضرّر صورتها الدولية.

الثاني: تحقيق وعود الإصلاح الدستوري والإفراج عن قادة المعارضة لتهدئة الداخل.

الثالث: معالجة الأزمات المعيشية في ظل البطالة والفقر وتحديات المناخ.

ثم إن صلوحو حسن تواجه تحدياً خارجياً يتمثّل في «الموازنة» بين علاقاتها مع القوى الكبرى وحماية الهوية الأفريقية والإسلامية لبلادها، وسط تصاعد الانتقادات من الحكومات الغربية.

أخيراً، فإن المفارقة وسط هذا الزخم السياسي الدرامي والتوازنات المعقدة تظل في بقاء الرئيسة التنزانية محافظة على خصوصية حياتها الأسرية بعيداً عن الأضواء؛ إذ لم يظهر زوجها حافظ أمير أو أبناؤها الأربعة في الإعلام، كما لم تُدْلِ هي بتفاصيل دقيقة عن حياتها اليومية مع زوجها أو أسلوب إدارة شؤون المنزل.

واليوم، وبينما تدخل «ماما سامية» ولايتها الرئاسية الثانية، يبدو المشهد السياسي التنزاني وكأنه رقعة شطرنج مليئة بالمخاطر... وترى هي نفسها أمام مفترق حقيقي بين طموح الإصلاح الذي وعدت به، وفخ القمع الذي يتهمها الغرب بالانزلاق فيه.


الانتخابات الرئاسية تهزّ صورة تنزانيا «المستقرة»

عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
TT

الانتخابات الرئاسية تهزّ صورة تنزانيا «المستقرة»

عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)

مع أن تنزانيا بقيت لعقودٍ نموذجاً للاستقرار السياسي، بل موضع فخر لوجود امرأة في الرئاسة، يرى مراقبون أن الانتخابات الأخيرة «قلبت» هذه الصورة رأساً على عقب.

إذ اكتسحت الرئيسة سامية صلحو حسن نتائجها، في غياب منافسٍ حقيقي، لتصبح البلاد محور اهتمام الإعلام الدولي، ليس كقصة نجاح ديمقراطي، بل كساحة صراع دموي بين القمع القديم وأمل الشباب بالإصلاح.

كانت أجواء الانتخابات الرئاسية في تنزانيا مشحونة بشكل غير مسبوق، رغم الكلام عن تغييرات اقتصادية واسعة، إذ وصفتها صحيفة «لوموند» الفرنسية مبكّراً بأنها «بلا منافسة حقيقية»، على خلفية اعتقال المُعارض البارز توندو ليسو، ومنع حزبه اليميني «تشاديما» من الترشح، في مقابل هيمنة الرئيسة سامية صلحو حسن وحزبها - حزب الثورة - على المشهد العام، لتغدو المنافسة شكليّة أكثر منها حقيقية.

بل استبقت صحف غربية هذا المشهد الانتخابي مبكراً بتسليط الضوء على بنية السلطة والحكم في تنزانيا نفسها، إذ رأت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن «الحزب الحاكم بنى، عبر عقود، شبكة تنظيمية متغلغلة في مؤسسات الدولة والمجتمع، تجعل من الصعب على أي منافس أن يتحداه بفاعلية». وكانت الملاحظة الأبرز لصحيفة «دويتشه تاغِس تسايتونغ» الألمانية، أن الرئيسة غضّت الطرف عن «شبكة النفوذ الأمني التي أسسها سَلَفها جون ماغوفولي، حيث لا يزال مُوالوه يمارسون التضييق على المعارضة، مما خنق الحياة السياسية قبل الانتخابات الأخيرة».

ومن ثم، حين أعلنت لجنة الانتخابات فوز الرئيسة صلحو حسن بولاية جديدة بنسبة كاسحة بلغت 97.7 في المائة من الأصوات، تفجرت احتجاجات، وأسفرت الاضطرابات - وفق أحدث تقديرات لمكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان - عن مقتل المئات، وسط اتهامات للقوات الأمنية بإخفاء جثث المتظاهرين.

وعلى وقْع قلق الأمم المتحدة من العنف والانتهاكات التي صاحبت الانتخابات التنزانية وتشكيك الاتحاد الأوروبي في نزاهة الاقتراع، بدا المشهد صادماً في الصحافة الغربية، كما جاء في تقارير وتعليقات لـ«لوموند» الفرنسية، والـ«نيويورك تايمز» الأميركية، والـ«واشنطن بوست» الأميركية، و«إل باييس» الإسبانية.

وفي تحليل عميق، ذهب «معهد الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا» إلى القول إن ما حدث في تنزانيا ليس معزولاً، بل هو جزء من «تحوّل جذري في نمط الانتخابات عبر قارة أفريقيا»، لافتاً إلى تكرر «السيناريوهات» نفسها في كوت ديفوار والكاميرون وموزمبيق، حيث يقود احتكار السلطة إلى احتجاجاتٍ متصاعدة. ومع حقيقة أن 65 في المائة من سكان أفريقيا دون سن الخامسة والثلاثين، يرى المركز البحثي الجنوب أفريقي أن «هذه التركيبة الديموغرافية الشابة تعيد صياغة الخطاب السياسي، وتجعل من تجاهل أصوات الأجيال الجديدة خطراً يفوق أي فوز انتخابي».

وبالفعل، جاء في تقديرات محللين أن «تنزانيا لن تعود بعد هذه الانتخابات إلى ما كانت عليه». وقد نقلت «الغاريان» البريطانية عن ديوس فالنتاين، الرئيس التنفيذي لمركز التقاضي الاستراتيجي (مقره في دار السلام بتنزانيا) قوله: «نحن أمام لحظة فاصلة، فإما نموذج جديد بالكامل، أو مستوى غير مسبوق من الإفلات من العقاب!».