المستشار الزند في فخ السياسة

من صخب معاركه ضد «الإخوان» إلى حقيبة العدل

المستشار الزند  في فخ السياسة
TT

المستشار الزند في فخ السياسة

المستشار الزند  في فخ السياسة

يقف المستشار أحمد الزند، وزير العدل المصري الجديد، في منطقة رمادية؛ فرئيس نادي قضاة مصر منذ عام 2009 خاض ما يكفي من المعارك لكسب طيف واسع من الخصوم والأنصار، في مرحلة تحولات تاريخية بدت فيها دوائر الاستقطاب، على حدته، مراوغة إلى حد بعيد. وعكست تباينات ردود الفعل على اختيار المستشار الزند للمنصب الرفيع في أواخر مايو (أيار) الماضي طبيعة الاشتباك السياسي في البلاد.

جاء أحمد الزند إلى موقعه وزيرا للعدل في مصر أواخر مايو الماضي، قبل أن تهدأ تماما موجة الانتقادات التي وجهت لمؤسسة القضاء في أعقاب تصريحات عدت «مسيئة للطبقات الكادحة من المصريين»، حين أعرب سلفه المستشار محفوظ صابر، في حوار تلفزيوني، عن رفضه تعيين أبناء عمال النظافة في سلك القضاء، وهي التصريحات التي قادته إلى تقديم استقالته الشهر الماضي، واستدعت اعتذارا من رئيس مجلس الوزراء المصري.
لكن وبينما كان الزند، الذي تخرج في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1970، يؤدي اليمين الدستورية أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي في 20 مايو الماضي، بقي السؤال معلقا: إذا كانت تصريحات صابر هي سبب استبعاده من المنصب، فلماذا اختير رجل يشاطره الرأي نفسه؟ بحسب تعليقات عديدة لأحزاب وقوى سياسية.
وعلق أحد المراقبين على تعيين الزند قائلا إن الرئيس قَبِل «باستقالة الناطق باسم جمعية المنتفعين بالتوريث في مجال القضاء (في إشارة للوزير السابق)، وعين مكانه عراب التوريث (في إشارة للمستشار الزند)».
وأصدر حزب الدستور، الذي أسسه محمد البرادعي نائب الرئيس السابق، بيانا أعرب فيه عن «دهشته البالغة» من اختيار الزند. وقال الحزب إن «الوزير الجديد له تصريحات مسجلة وعديدة يدعو فيها إلى تقنين تعيين أبناء القضاة في مناصبهم عن طريق التوريث وحرمان أبناء الشعب من حقوقهم في تولي الوظائف العامة، بل إن سيادته ذهب بعيدا إلى حد اعتبار أن من يشغلون منصبه هم سادة الشعب بينما البقية عبيد».
لكن المستشار محمود الشريف، سكرتير نادي قضاة مصر، رفض هذه الاتهامات. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «المستشار الزند لم يصدر عنه رأي في هذه القضية من قبل، ومن غير الممكن أن يستشف أنه كان يشاطر وزير العدل السابق موقفه». وتابع المستشار الشريف، وهو مساعد وزير العدل: «باعتباري عملت بالقرب من المستشار الزند خلال الأعوام السبعة الماضية، أستطيع أن أقول إنه يرى أن الانخراط في سلك القضاء يتطلب اقتران أمرين، الكفاءة والأهلية.. الكفاءة بأن يكون المتقدم حاصلا على تقدير جيد، والأهلية بأن يكون من بيئة صالحة بعض النظر عن أي اعتبار آخر».
ورغم الجدل حول حقيقة موقف المستشار الزند، المولود بقرية دمتنو بمحافظة الغربية (بوسط دلتا مصر) عام 1946، من قضية التعيينات في مؤسسات القضاء، وكل ما أثير حول مهنة والده، فإن تلك القضية لا تبدو هي الأبرز في سلسلة الأسباب التي دفعت عددا غير قليل من مؤيدي الرئيس السيسي لإعلان غضبهم من قرار تعيينه.
ويقول طيف واسع من المعارضين لاختيار الزند لحقيبة العدل إن له موقفا صريحا ضد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، التي أنهت حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. ويعتبرون أن اختياره للمنصب رسالة من السلطة تعلن فيها انحيازها لفصيل من الفصائل المشاركة في ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013، التي أنهت حكم «الإخوان» صيف العام قبل الماضي.
وتحتج المستشارة تهاني الجبالي، نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا سابقا، على هذا التصنيف، قائلة لـ«الشرق الأوسط» إن «المستشار الزند تعلم في مدرسة القضاء المصري أنه حين يحكم يحكم بالدستور والقانون، والحديث عن أي انطباعات أو آراء يسقط أمام هذا الرجل». وتضيف المستشارة الجبالي أن «الزند يعرف أكثر من أي أحد آخر أن اختياره يأتي في إطار دستور قال إن الشعب هو صانع ثورتي 25 يناير و30 يونيو المجيدتين.. هو يعرف أنه أتى في ظل شرعية الثورتين ولا يمكن لأحد أن ينكر على أي إنسان أن يكون في موضع المسؤولية في دولة القانون»، موضحة «حين يعبر المستشار الزند عن أي موقف مخالف لأي من مبادئ الثورتين سيجد من يطالب بإقصائه».
وفي لعبة الكراسي المعقدة التي شهدتها مصر خلال الأعوام الأربعة الماضية، جلست الأطراف جميعها تقريبا على موائد خصومها لحين. وقد مثل المستشار الزند للقوى المدنية، التي طالما اعتبرته أحد أبرز المحسوبين على نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، رأس حربة في صراعهم ضد جماعة الإخوان، وعدّته بطلا في ميدان الدفاع عن استقلال القضاء.
ما يبدو مفارقا أن الظهور الأول للمستشار الزند على الساحة السياسية في مصر اقترن بـ«عداء الرجل لتيار استقلال القضاء»، بحسب المستشار أحمد مكي وزير العدل الأسبق خلال حكم مرسي. فلم تعرف الأضواء طريقها إلى الزند قبل عام 2009، حينما خاض معركته على رئاسة نادي القضاة، في مواجهة تيار الاستقلال الذي دشن حضوره على الساحة المصرية في 2005، على أثر فضح وقائع تزوير جرت في الانتخابات البرلمانية حينها. وحظي التيار بدعم وشعبية كبيرة في أوساط القوى المتشوقة للتغيير في البلاد.
ويقول خصوم الزند إن نجاحه في انتخابات نادي القضاة في 2009 كان بدعم مباشر من ممدوح مرعي وزير العدل حينها، وسط مزاعم عن دور الوزير الأسبق في حشد غير مسبوق للقضاة من أجل إقصاء تيار الاستقلال عن مجلس إدارة النادي.
قبلها انتخب الزند عضوا بمجلس إدارة نادي القضاة لدورتين متتاليتين في حقبة الثمانينات، حيث أسهم في إنشاء نادي قضاة طنطا، لكن فترة الإعارة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل هناك رئيسا للمحكمة الشرعية بإمارة رأس الخيمة خلال الفترة من عام 1991 إلى عام 1996، أبعدته عن المشهد المصري.
ويبدي المستشار مكي عدم رضاه عن تعيين الزند وزيرا للعدل. ويقول أحد أبرز قيادات تيار الاستقلال، لـ«الشرق الأوسط»، إن الزند «صاحب موقف سياسي واضح فاقع، وفي خصومة واضحة مع فصيل سياسي بعينه، وهو واحد من خصوم تيار استقلال القضاء الذي كنت أنتمي إليه».
في المقابل، ترى المستشارة الجبالي أن الزند يحظى بدعم واسع في أوساط القضاة والشعب المصري، مشيرة إلى أن المعترضين على الرجل لا يعبرون إلا عن مجموعات ضيقة، فـ«البلاد لا تزال تفتقر إلى من يعبرون عن قوى اجتماعية معتبرة»، على حد قولها. وتعتقد الجبالي أن وصول المستشار الزند لمنصب وزارة العدل أمر طبيعي ومنطقي باعتباره واحدا من رموز ثورة 30 يونيو. وتقول: «للرجل موقف تاريخي في مواجهة جماعة الإخوان حين وقف في مواجهة تفكيك الدولة المصرية وحصار دولة القانون وحصار المحاكم وعزل القضاة، مما منحه مصداقية في أوساط القضاة وأوساط الشعب المصري، واختياره موفق ومبرر من القيادة السياسية، وكان محل ارتياح».
ومع الإعلان عن اختيار الزند في منصبه الجديد كوزير للعدل تحدثت تقارير إعلامية عن أن مهمته الأولى أن يطهر مؤسسة القضاء من عناصر «الإخوان»، بعد أن تكشف خلال العامين الماضيين حجم الاختراق الإخواني للوزارة، مما استدعى عزل عشرات القضاة.
لكن المستشار محمود الشريف قال لـ«الشرق الأوسط» إن «هذا أمر بديهي لا يحتاج تكليفا من الرئاسة، كما أنه لا يتعلق بوزارة العدل فقط وإنما بكل مؤسسات الدولة التي اخترقتها الجماعة».
وتبدو مهمة الوزير الجديد مفهومة باعتباره أحد أبرز خصوم الجماعة، بل إن التحول الأبرز في حضور المستشار الزند على الساحة السياسية ارتبط بمعاركه ضد جماعة الإخوان، وكانت خطبه اللاذعة أمام الجمعيات العمومية المتتالية لنادي القضاة خلال عامي 2012 و2013 الباب الواسع الذي مر منه لموقع الصدارة وحظي بشعبية واسعة بين معارضي الجماعة.
وبدأ المستشار الزند أولى معاركه في عام 2012، حينما تصدى لمحاولات جماعة الإخوان تمرير قانون خفض سن تقاعد القضاة والذي كان من شأنه إقصاء أعداد كبيرة من قضاة مصر، وهو القانون الذي احتج عليه أيضا المستشار مكي حينها، وهدد بتقديم استقالته إذا ما مر القانون أمام برلمان كان الإخوان هيمنوا عليه بالفعل.
لكن المشهد الذي دشن جماهيرية الزند ودفع خصومه للاصطفاف خلفه هو موقفه الرافض للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الأسبق مرسي ليحصن من خلاله القرارات الصادرة عنه من رقابة القضاة.
وأصدر مرسي إعلانا دستوريا في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2012، كان بين مواده إقالة النائب العام، وتحصين قرارات الرئيس التي يتخذها حتى انتخاب برلمان جديد، وتحصين الجمعية التأسيسية التي كانت تضع مشروع الدستور من الطعن أمام القضاء.
وفور صدور الإعلان الدستوري دعا المستشار الزند إلى عقد جمعية عمومية طارئة، كما دعا إلى تعليق عمل المحاكم والنيابات لحين إلغاء الإعلان دستوري، وقال إن تعليق العمل بالمحاكم مرهون بإزالة آثار العدوان على السلطة القضائية الذي أحدثه الإعلان الدستوري وما ترتب عليه من انتقاص لاستقلال القضاء.
وتعرض المستشار الزند، نهاية 2012، لـ«محاولة اغتيال فاشلة»، بعد أن قام مسلحون بإطلاق أعيرة نارية تجاهه أثناء خروجه من نادي القضاة بوسط القاهرة، بعد ساعات من كلمة له أمام الجمعية العمومية الطارئة لأعضاء النيابة العامة قال فيها إن «القضاء المصري لم يتعرض لإهانة ومؤامرة مثلما يحدث الآن»، مؤكدا حينها أن القضاة «لن ينحنوا إلا لخالقهم، ولن يكون القضاء مطية يصل بها من يشاء إلى التنكيل بالشعب». كما هاجم الزند بشدة ما أقدمت عليه جماعة الإخوان وأنصارها من حصار للمحكمة الدستورية العليا مطلع عام 2013، للحيلولة دون انعقاد جلساتها وإصدارها لحكم يتعلق بحل مجلس الشورى.
ورغم اصطفاف القوى المدنية خلف الزند في أعقاب الإعلان الدستوري فإنها لم تبتلع دفاعه عن النائب العام الأسبق عبد المجيد محمود، الذي كان مطلب إقالته على أجندة ثورة 25 يناير، لكنه نجح في أن يجبر خصومه السابقين من أنصار ثورة 25 يناير على الاصطفاف خلفه ودعمه دون قيد، حينما أعلن مقاطعة القضاة للإشراف على الاستفتاء على دستور وضعته لجنة تأسيسية هيمنت عليها الجماعة إبان حكم مرسي، ودعت جبهة الإنقاذ الوطني التي تشكلت من معظم القوى المدنية في البلاد لمقاطعته.
وفي أعقاب نجاح ثورة 30 يونيو 2013، وعزل مرسي من منصبه بعد عام صاخب، بدا أن الحلفاء المؤقتين الذين غادروا ميدان التحرير للمرة الثانية في غضون ثلاثة أعوام مطالبون بإعادة تقييم تحالفاتهم مجددا على أسس جديدة. وفي ظل أجواء الاستقطاب التي تهيمن على الساحة السياسية في مصر غاب عن المناقشات الدائرة حول تعيين المستشار الزند في منصب وزير العدل ما يمكن أن يقدمه الرجل الذي يعد أول وزير للعدل يأتي من منصب منتخب.
وتقول المستشارة الجبالي إن «كون المستشار الزند أتى من موقع منتخب بعد أن حظي بتأييد مختلف الهيئات القضائية، وخبرة واسعة بمشكلات المؤسسة القضائية، يمنحه فرصة ذهبية ليصبح رجلا سياسيا بامتياز، لأن وراءه حالة رضا، وهو في ذلك يتفوق على كل من أتى إلى منصب وزارة العدل».
وبعيدا عن الصخب الذي رافق توليه المنصب، كانت أولى الخطوات التي أعلن عنها المستشار الزند «تقدمية لحد بعيد»، بحسب مراقبين. إذ أعلن الوزير الجديد عن قرب اعتلاء الدفعة الثالثة من القاضيات المصريات منصة القضاء. وقال في مؤتمر القاضيات في الوطن العربي الأسبوع الماضي إن «وزارة العدل المصرية ستشهد التحاق المرأة بالوظائف المختلفة دون تمييز».
وبينما تتزايد التكهنات حول قرب إجراء تغيير وزاري شامل، يقول مراقبون إن فرقاء المشهد السياسي سيدركون إلى أي مدى يتمسك الرئيس السيسي بالمستشار الزند. وحتى يتم ذلك التغيير المرتقب، يسير الزند بخطة ثابتة في اتجاه فخ السياسة الذي كان قد نصبه لنفسه على الأرجح.

* المستشار أحمد الزند.. في سطور

* من مواليد قرية دمتنو بمحافظة الغربية (وسط دلتا مصر) عام 1946
* تخرج في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1970
* تدرج في العمل بالمناصب القضائية المختلفة ما بين النيابة العامة، والقضاء في كثير من المحافظات، وقضى أطول فترات عمله بنيابات ومحاكم محافظتي أسوان (بصعيد مصر) والدقهلية (شمال الدلتا)
* انتخب عضوا بمجلس إدارة نادي القضاة لدورتين متتاليتين في الثمانينات من القرن الماضي
* أعير للعمل بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل هناك رئيسا للمحكمة الشرعية بإمارة رأس الخيمة خلال الفترة بين عامي 1991 : 1996
* أنشأ خلال فترة وجوده بالإمارات النادي المصري بإمارة رأس الخيمة، والذي كان ملتقى للجالية المصرية والجاليات العربية هناك.
* عين رئيسا لنادي طنطا الرياضي خلال الفترة بين عامي 2001 و2004.
* انتخب رئيسًا لنادي قضاة مصر لدورتين متتاليتين منذ عام 2009.
* تولى منصب وزير العدل منذ 20 مايو (أيار) الماضي.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.