شانجراجوبتا.. ملك الهند العظيم

شانجراجوبتا.. ملك الهند العظيم
TT

شانجراجوبتا.. ملك الهند العظيم

شانجراجوبتا.. ملك الهند العظيم

تقول الحكمة، إن العجائب كثيرة، ولكن لا يوجد أعجب من الإنسان. ولو تأمّلنا معناها لوجدناها تنطبق على كثير من الشخصيات التاريخية العظيمة، ولكنها قد تكون الجملة التي تصف الزعيم العظيم شانجراجوبتا مؤسس إمبراطورية «موريا» في الهند، أكبر إمبراطورية عرفتها الهند في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، ليس فقط لأنها كانت أول تجربة لتوحيد أغلبية شبه القارة الهندية في كيان مركزي واحد، ولكنها كانت تجربة أصعب من تجارب الكثيرين غيره، نظرًا لعدم وجود تجانس كبير بين القبائل والمناطق الشاسعة التي وقعت تحت سيطرته، فضلاً عن صعوبة إدارتها في وقت كانت فيه الكتابة غير متاحة للسواد الأعظم، وكان شمال غربي القارة تحت الاحتلال. ولكن عظمة هذا الرجل تجسدت أيضًا بالتنازل الكامل عن مُلكه والدخول طوعًا في الروحانيات واعتزال الحياة سعيًا للوصول للسمو الروحي، كما وصل للسمو السياسي والإداري، وهو ما دفعه وفقًا لمعتقداته للموت جوعًا سعيًا للتطهر الروحي اتباعًا لعقيدة «الجاينية» التي كان يؤمن بها.
اختلفت المصادر التاريخية حول بداية حياة شانجراجوبتا، ولكنه بكل تأكيد كان من عائلة متواضعة سعت بعض المصادر إلى ربطها فعليًا بالنظام الحاكم في دولة «الناندا» شمال شرقي الهند، ولكنه أمر غير محسوم. فلقد كانت هذه الدولة من أقوى الدول في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت تسيطر على شمال غربي الهند في ذلك الوقت، ولكنها كانت مترددة في مواجهة قوات الإسكندر الأكبر. وتشير المصادر التاريخية إلى أن شانجراجوبتا سنحت له الفرصة للقاء الإسكندر الأكبر خلال حملاته، ولكن عظمة هذا الرجل بدأت بعد ممات الإسكندر الأكبر في 323 قبل الميلاد عندما قُسمت إمبراطوريته إلى ثلاثة أجزاء فضربت الفوضى في الدولة التي كانت تسيطر على الشرق، حيث سعى الرجل لاستعادة الأراضي التي كانت تحت قيادة اليونانيين، وقد نجح بشكل كبير في استغلال هذه الظروف واستعاد الجزء الشمالي الغربي من الهند بعد سلسلة من المعارك المتواصلة، وعندما اكتفى الرجل في الجبهة الغربية، بدأ يوجه جهوده نحو شبه القارة الهندية خاصة إمبراطورية «الناندا» والتي كانت تحت حكم أسرة قوية، ولكن الملك الطموح أراد أن يضمها إلى دولته البازغة، وكان مدركًا تمامًا أن هذه الإمبراطورية هي مفتاح أي فتوحات مستقبلية، فلو استولى عليها فإن الطريق أصبح ممهدًا أمامه من أجل العمل على إقامة دولة موحدة في شبه القارة الهندية بلا أي معوقات عملية، وبالفعل بدأ حملته بتأثير كبير من مستشاره وأستاذه «شاناكيا»، والذي كان له أكبر الأثر في تنشئته سياسيًا وعسكريًا، حيث دخل في تحالفات مع الكثير من القبائل في الهيمالايا واستعد بجيوشه لمواجهة هذه الدولة القوية.
ويقال إن القائد شانجراجوبتا استوحى خطته الهجومية على إمبراطورية (الناندا) عندما كان ينظر إلى أم تسعى لإقناع ابنها بتفادي البدء بالجزء الساخن من وجبته في وسط الطبق، وبالتالي بدأ حملته على أطراف الإمبراطورية، حيث كان جيشها القوي متمركزًا في الوسط، ولذلك هاجم أطراف الإمبراطورية من خلال سلسلة من الهجمات الجانبية، والتي كان من شأنها إخراج صلب الجيش من المركز إلى الأطراف، وهو ما أعقبه بسلسلة من المعارك موجهة نحو المركز بعدما فتت الجزء الأكبر منه، وقد نجح الرجل من خلال هذا التحرك في هزيمة جيوش هذه الإمبراطورية واستولى على العاصمة «باتاليبوترا» في عام 321 قبل الميلاد، وهنا لعب مستشاره وأستاذه «شاناكيا» دورًا كبيرًا في إعلان تلميذه وملّكه إمبراطورًا على دولة «مووريا»، مؤسسًا بذلك أكبر دولة عرفتها هذه المنطقة منذ مطلع التاريخ تحت حكمه المطلق.
واقع الأمر أن شانجراجوبتا وجّه كثيرًا من جهده بعد ذلك نحو الإصلاحات الداخلية في البلاد في ظروف صعبة للغاية، حيث كانت الدولة في حالة يرثى لها من الفقر والجهل وسوء الإدارة وعدم وجود نظام إداري منظم أو نظام ضرائبي متوازن أو سياسة نقدية موحدة، وهو ما دفعه لإحالة هذا الملف الداخلي إلى أستاذه «شاناكيا» مرة أخرى، والذي بدأ يُدخل التشريعات المالية وسك العملة ووضع النظام الضرائبي المناسب ومحاولة إدخال بعض التعديلات الاجتماعية كما فتح المجال أمام ازدهار التجارة في شبه القارة الهندية، وهو ما سمح له بهامش كبير من الثروة لبناء الدولة التي كان ينشدها.
وبعدما وجّه شانجراجوبتا جهوده نحو الإصلاحات الداخلية، بدأ في عام 305 قبل الميلاد في مواجهة الدولة اليونانية مرة أخرى في الغرب، والتي كانت تحت قيادة «سيليوكوس نيكاتور» أحد جنرالات الإسكندر الأكبر، والذي أصبح له أطماع في إمبراطورية «ماوورا». جهز حملته القوية وتوجه نحو الشمال الغربي ودخل في سلسلة من الصدامات بشكل مفتوح مع هذا القائد فاستطاع أن يهزم الجيوش اليونانية هزيمة نكراء مكّنته بعدها من الاستيلاء على الكثير من الأراضي بما فيها أجزاء مما هي معروفة اليوم بباكستان وأفغانستان، وهو ما وسّع إمبراطوريته بشكل كبير للغاية، وهنا برزت عظمة الملك الهندي المناور، حيث قبل الصلح مع غريمه اليوناني «سيليكيوس نيكاتور» وفتح له ذراعيه، بل إنه أخذ ابنته زوجة له، وفي المقابل أرسل له خمسمائة فيل كهدية، والتي كانت لها دورها الهام والحيوي في انتصارات هذا الرجل في العراق وفارس بعد ذلك.
وعقب هزيمة اليونانيين وتأمين الجبهة الشمالية الغربية تمامًا، بدأ شانجراجوبتا في التوجه نحو الجنوب لإخضاع باقي القبائل التي كانت خارجة على حكمه، وقد استطاع الرجل في زمن قياسي أن يخضع هذه المناطق بشكل تلقائي، ولكنه توقف دون إتمام المهمة، حيث بقيت المنطقة الجنوبية خارج نطاق حكمه، وهو بذلك يكون أول قائد عسكري وسياسي يستطيع أن يوحد الهند تقريبًا باستثناء الشريط الجنوبي منها، ويضعها تحت حكم موحد مركزه في الشمال الغربي.
ومع وذلك وهو في عنفوان مجده، فإن الرجل تنازل عن الحكم لصالح ابنه «بيندوسارا» واعتزل الحكم تمامًا لممارسة معتقداته، وتشير بعض المصادر التاريخية غير المؤكدة إلى أن هذا الرجل أشرف على ميلاد ابنه بنفسه بعدما سقطت أمه مغشيًا عليها وهي في الأيام الأخيرة من حملها جراء تجرع السم الذي كان مقصودًا به زوجها فشق بطنها لإنقاذ ابنه بعدما كانت الأم تلفظ أنفاسها الأخيرة، ومما يقال أيضًا إن هذا الملك كان يتجرع أقساطًا من السم تدريجيًا ليقوي مناعته ضد السموم، وهو ما لم يكن غريبًا في ذلك الوقت على بعض الملوك.
لقد وضع شانجراجوبتا مثالاً للعبقرية السياسية والمعنى الحقيقي لرجل الدولة الذي استطاع أن يوازن بين الفكر والحنكة والبطش والمناورة وحسن الإدارة، ويلاحظ أن الرجل لم يفتح جبهتين كبيرتين في آنٍ واحد، ولجأ لسياسة مواجهة الأخطار الواحدة تلو الأخرى، وخلق إمبراطورية متوازنة تحافظ على علاقاتها مع جيرانها بشكل محسوب وفقًا لمقولة «الأرثاشاسترا» الهندية الشهيرة المنسوبة إلى أستاذه «شناكيا» والتي تقول «.. إن الغازي يجب أن ينظر إلى الدولة المحيطة به كعجلة من الحلفاء وهو مركزها، يأتونه مثل المحاور المختلفة نحو المركز وهم غير ملتصقين».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.