قاموس أكسفورد الإنجليزي... حكاية شغف أمّة بلغتها

منذ إطلاقه في القرن التاسع عشر صار ما يشبه سجلاً لتاريخ البلد

قاموس أكسفورد الإنجليزي... حكاية شغف أمّة بلغتها
TT

قاموس أكسفورد الإنجليزي... حكاية شغف أمّة بلغتها

قاموس أكسفورد الإنجليزي... حكاية شغف أمّة بلغتها

يعود قاموس أكسفورد الإنجليزي إلى الأضواء مرّة كل عام على الأقل، ذلك عندما تعلن الهيئة القائمة على أعرق وأهم سجل معجمي للغة الإنجليزية وتوثيقها اختيارها لكلمة العام من بين المفردات الجديدة التي أبدعتها قرائح المتحدثين بتلك اللغة. وتعكس الاختيارات عادة جدلاً ثقافياً واجتماعياً واسعاً حول مسائل تعني الشأن العام، فشملت في السنوات الأخيرة «ما بعد الحقيقة» و«ثقافة الإلغاء» و«الأخبار المزيفة أو الكاذبة»، فيما امتنعت استثنائياً في عام الجائحة (2020) عن اختيار كلمة واحدة فحسب، نظراً لفيض الاصطلاحات التي أطلقتها الخبرة المستجدة للبشرية المعاصرة بالتعامل مع الطاعون الجديد «كوفيد 19»، فكان أن قدّمت مجموعة منها.
على أن العمل الذي ينجزه القاموس أوسع وأشمل بكثير من هذه المناسبة الإعلاميّة المسليّة، وهو يشمل تحديثاً فصلياً لتعابير اللغة الإنجليزية، يبدأ من إضافة كلمات جديدة تكرر استعمالها، وتنقيح أخرى من القاموس تعرضت معانيها لتحولات أو تقلبات ثقافيّة، كما نقل بعضها إلى المتحف اللغوي عبر وصفها بالقديمة التي عفا عليها الزمن أو النادرة الاستعمال.
وتعتمد بيوتات الصحافة والإعلام في العالم الغربي والجامعات ومراكز البحث، كما الأفراد بعمومهم، على قاموس أكسفورد كأكثر المرجعيات موثوقية بالنسبة للإملاء والمعاني وإنفاذ قواعد النحو والاستخدام السليم للغة الإنجليزية، ولا سيما أن القاموس لا يقتصر على النسق البريطاني، وإنما يتسع لكل الإنجليزيات المعروفة – إن جاز التعبير – من أستراليا إلى جامايكا، وما بينها من تجمعات سكانية يتحدث أصحابها طرفاً من لغة شكسبير.


جيمس موراي

ومنذ إطلاقه في القرن التاسع عشر، فإن قاموس أكسفورد وكأنّه قد كلّف نفسه بمهمة أوسع من رصد معاني الكلمات المستخدمة إلى ما يشبه سجلاً تاريخياً للنمو العضوي للغة الإنجليزيّة عبر المراحل، إذ إن الكلمة ما أن أدخلت إلى القاموس حتى لا تغادره أبداً، وإنما يتم تحديث وضع استعمالها، ما يعني أن «أكسفورد الإنجليزي» يتوسع بشكل دائم، حتى لتبدو مهمته مستحيلة بحق، ولا سيما أن اللغة الإنجليزية مرتبطة بهيمنة ثقافية أنجلوساكسونيّة على مجالات ثقافية وعلمية وتجاريّة كثيرة عابرة لحدود البلاد التي هي لغتها الأم. وهو بذلك يختلف عن القواميس الأخرى الدّارجة مثل كولينز وتشامبرز التي تحتفظ بالكلمات الأكثر تداولاً في نطاق مجلّد واحد، فهو يوضح أيضاً كيف تغير معنى كلمة معينة بمرور الوقت من خلال الاقتباسات التي يزيد عددها عن 3.5 مليون إلى الآن، والتي لا تؤخذ من الكتب والصحف والمجلات فحسب، بل في أوقاتنا الحالية من الإعلانات وكلمات الأغاني ونصوص الأفلام والتلفزيون حتى «تويتر».
يضم القاموس في صورته الحالية نحو 600 ألف كلمة، وطبعته الثانية التي نُشرت عام 1989 تملأ 20 مجلداً، وكانت هناك خطّة لنشر طبعة ثالثة في 2005 لكّن عمليّات التحرير لم تصل بعد إلى المنتصف. لكن قليلين في وقتنا الراهن يعتمدون على النسخة المطبوعة، وانتقل جزء كبير من التحرير والاستخدام إلى الإنترنت، وهو ما يفسّر جزئياً تلكؤ الناشر في الدفع بإصدار جديد مطبوع.
لكن ضخامة هذا المشروع واتساع تأثيره لا يجب أن تحجب عنا حقيقة أن عدد القائمين عليه لا يتجاوز 70 موظفاً، يعملون حين حضورهم في مكتب مفتوح متواضع في المبنى الذي يضم مقر مطبعة جامعة أكسفورد في أحد أحياء مدينة أكسفورد القديمة، وإن كان للقاموس يوماً غرفة فاخرة في إطار متحف الأشموليان العريق، التابع للجامعة. ويتولى هؤلاء الموظفون إدارة عمليات القاموس بشكل تعاوني لتقليل الأخطاء، ويمثل كل منهم مرجعيّة أوليّة للآخر قبل الاستعانة تالياً بجيش من غير المتفرغين، يشمل لغويين، وخبراء أصول الكلام، وعلماء البيبلوغرافيا، وأساتذة الآداب والعلوم، والخبراء المعنيين بالنطق، والمستشارين الخارجيين، لتعود الكلمة منهم إلى أيدي المحررين المتخصصين بالنشر في شكله النهائيّ.
ويمكن أن تستغرق هذه العمليّة بمجملها من بضع ساعات إلى بضعة أسابيع، بحسب طبيعة الكلمة واستخداماتها، لكنّه ليس مستغرباً أن تمرّ إحداها على 200 شخص قبل اعتمادها. كما أن القاموس لم يحقق ربحاً تجارياً في تاريخه، رغم أن الاشتراكات الحالية تغطى جزءاً هاماً من الميزانية السنوية التي تبلغ نحو 35 مليون جنيه أسترليني، إلا أن قيمته الأساسيّة تظلّ في السمعة الأدبيّة الراقية التي يمنحها للمطبعة، وللجامعة، وللمدينة، حتى للأمة البريطانيّة بمجملها، علماً بأن المشروع كان عُرض بداية على مطبعة جامعة كامبريدج المنافسة الدائمة لأكسفورد، لكنها رفضته في حينه، وإلا لكان الشرف لقاموس كامبريدج الإنجليزي!
تعود حكاية القاموس إلى العام 1857 حينما كانت بريطانيا في قلب العصر الفيكتوري الذي شهد ثورات معرفيّة وعلميّة وتقنيّة؛ السكك الحديدية، ومصانع الصلب، والأنثروبولوجيا، والتخدير، وأدب تشارلز ديكنز، ونظريات داروين. في تلك الأجواء الطموحة تداعت مجموعة من أعضاء جمعيّة فقه اللغة، هربرت كولريدج، وفريدريك فورنيفال، وريتشارد تشينفيكس، لتكوين ما سمي بلجنة الكلمات غير المسجلّة بهدف التقاط تلك التعابير التي ولدت ولم تحظ بشرف التسجّل في القواميس، وهذه كان صدرت منها تجارب مختلفة (أقدمها يعود إلى العام 1604). لكن المهمة بدت هائلة وشبه مستحيلة، فقررت اللجنة اللجوء إلى الأمّة برمتها، فأصدرت تعميماً يحتوي على تعليمات لتسجيل اقتباسات توضح استخدام كلمات إنجليزية جديدة على بطاقات بريديّة ترسل إلى اللجنة. وعلى الرّغم من أن العمليّة كانت تطوعيّة ولم يتلقَ المساهمون أي أجر على جهودهم، فإنّ اللّجنة غرقت حرفياً بالبطاقات البريديّة تلك، وشارك بعض الأفراد بعدة مئات منها بحماسة منقطعة النظير، ولا شكّ أن بعضهم كرّس أوقاتاً مهمة من حياته لتتبع حياة الكلمات ورصد استعمالها في الصحف والكتب والروايات، بل قصّوا أحياناً الاقتباسات من تلك المطبوعات ولصقوها على البطاقات لضمان دقّة التوثيق، مفسدين بذلك نسخ الكتب الأصليّة.
تعثّر العمل باللجنة بعد وفاة كولريدج، فتقرر نقل المشروع إلى مطبعة جامعة أكسفورد في العام 1879 وفق اتفاق شمل أيضاً تعيين جيمس موراي عالم اللغويات الشهير رئيساً للتحرير، الذي شكل فريقاً استغرقه العمل لفرز البطاقات البريديّة المتراكمة مسبقاً لدى اللجنة سنتين كاملتين، وكذلك نشر القاموس في 7000 صفحة خلال 10 سنوات، بميزانيّة لا تتجاوز 9 آلاف جنيه إسترليني. لكن بعد مرور 5 سنوات بدا واضحاً أن إنجاز المشروع بشكل نهائي سيأخذ وقتاً أكثر مما خطط له، ما حدا بالناشر إلى تبني فكرة النشر المجزأ. وهكذا صدر الجزء الأوّل في 1884 لكن الطبعة كاملة لم تكتمل (في 10 أجزاء) قبل عام 1928، أي بعد 70 عاماً من تشكيل لجنة الكلمات غير المسجلة. وقد احتفلت بريطانيا الرسميّة بذلك الإنجاز على لسان رئيس وزرائها آنذاك، ستانلي بالدوين، الذي قال في مأدبة عشاء بتلك المناسبة إن «تاريخنا، رواياتنا، قصائدنا، مسرحياتنا، كلها جمعت في هذا الكتاب الواحد العظيم. ومع ذلك فإن كثيراً من المدخلات في الطبعة الأولى كانت قد أصبحت قديمة، ولم يظهر كثير من الكلمات التي استجدت أثناء النشر، ما استدعى إصدار مجلدات تكميليّة متتابعة، قبل أن يقرر الناشر إصدار طبعة ثانية كاملة منقحة عام 1985. وهو النّص الذي يعتمد عليه اليوم في إعداد الطبعة الثالثة المقبلة.
نسرد هذه الحكاية عن قاموس لغة أمّة قررت أن تحافظ عليها حيّة ومتجددة، بينما يملأ قلبنا التشاؤم من عجز أمتنا العربيّة الممتدة عبر 22 دولة و400 مليون نسمة واستثماراتنا الملياريّة المتناثرة في بنوك الغرب عن تأسيس قاموس عربي موحد على نسق قاموس أكسفورد، يحفظ لغتنا العربيّة، ويمنحها القدرة على النموّ والتطوّر والانتشار بعد مرور قرون عدّة على صدور القاموس الرائد لابن منظور «لسان العرب» في القرن الثالث عشر، الذي لا يزال ونحن في القرن الحادي والعشرين أشمل معاجم اللغة العربية وأكبرها حتى الآن. وباستثناء أننا نمتلك القرآن الكريم الذي ضبطت نصوصه منذ ما يقرب من 1500 عام، فإن العربيّة المعاصرة تفتقر بشكل فاضح إلى مرجعيّة لغويّة حتى لتبدو رغم محاولات قطرية علقت في أبراج عاجيّة خارج الحياة وخارج الواقع وكأنها يتيمة بين لغات الأمم الحية، التي لكل منها وإن تضاءل عدد المتحدثين بها مؤسسات وطنيّة تدير قواميس شاملة تعنى بتجديد كلماتها وضبط استعمالها ورصد تحولات معانيها.
إن نهضة عربيّة لن تكون ممكنة دون قاموس لغوي شامل ومحدّث، سواء تولته عاصمة واحدة أو منظمة عربيّة جامعة عابرة للسياسة والأحلاف اللحظيّة. ومن خبرة قاموس أكسفورد الإنجليزي الماثلة أمامنا، فإن ما نحتاجه لجعل ذلك واقعاً ليس مالاً كثيراً ولا تجهيزات هائلة ولا جيشاً من الموظفين، بل كثير من الشغف لاستعادة ثقافتنا - معبراً عنها بلغتنا - من موتها السريري غير المعلن.


مقالات ذات صلة

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

ثقافة وفنون «سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

في روايته الأحدث «سيرة الفيض العبثية»، الصادرة عن دار «الفرجاني» في القاهرة، يسعى الروائي الليبي صالح السنوسي لتأريخ مرحلة تاريخية ممتدة في سيرة منطقة «الفيض»

عمر شهريار
ثقافة وفنون رواية عن الزنازين السورية

رواية عن الزنازين السورية

في عمله الروائي الجديد «جدران تنزف ضوءاً»، ينقل الكاتب السوري الكردي ماهر حسن القارئ إلى قلب الزنازين السورية، حيث يتحول المكان الضيق إلى عالم متكامل

«الشرق الأوسط» (برلين)
الولايات المتحدة​ غلاف كتاب «كيرلس بيبول» Careless People (أناس مهمِلون) لسارة وين وليامز (أ.ب)

كتاب مثير للجدل لموظفة سابقة في «ميتا» يتصدر المبيعات في أميركا

تصدّر كتاب لموظفة سابقة في شركة «ميتا» يتناول بطريقة سلبية عدداً كبيراً من المسؤولين في المجموعة الأميركية بينهم مارك زوكربيرغ ، المبيعات في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب  راي كيرزويل

آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

يبدو الذكاء الاصطناعي لمعظمنا لعبة فاوستية معاصرة مؤذِنة بانتهاء عصر الإنسان العاقل.

لطفية الدليمي
كتب قراءة جديدة في الثورة الجزائرية

قراءة جديدة في الثورة الجزائرية

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب «دراسات في ثورة التحرير الجزائرية» (1954 - 1962).

«الشرق الأوسط» (بيروت)

آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

 راي كيرزويل
راي كيرزويل
TT

آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

 راي كيرزويل
راي كيرزويل

يبدو الذكاء الاصطناعي لمعظمنا لعبة فاوستية معاصرة مؤذِنة بانتهاء عصر الإنسان العاقل. نتخيّلُ الذكاء الاصطناعي شيطاناً فرانكشتاينياً بمواصفات محدّثة ستكون له الغلبة في نهاية اللعبة عندما يبلغ طور المتفرّدة Singularity ويصبح خارج نطاق السيطرة البشرية. يبدو لنا اليوم أباطرة الذكاء الاصطناعي كأنّهم فرانكشتايناتٌ لا يطيب لها سوى العبث بمصير البشرية، ويبدو بينهم إيلون ماسك كأنّه نظير ماري شيلي، صانعة أولى الفرانكشتاينات التخييلية، أو الدكتور سترانغيلوف الذي يتلاعب بأزرار الحرب النووية مثلما يلهو طفل بلعبة صغيرة. الأمر أعقد ممّا نظنّ، والأوجب أن نقرأ وندقق في الأمر بدلاً من الانسياق للسرديات التخييلية. أصلُ المعضلة يبدو أخلاقياً وسيكولوجياً وليس تقنياً في التحليل الدقيق.

راي كيرزويل Ray Kurzweil، الباحث ذو الشهرة العالمية في ميدان الذكاء الاصطناعي، في كتابه المنشور مع نهاية عام 2024 بعنوان رئيسي «المتفرّدة أقرب The Singularity is Nearer» مع عنوان ثانوي: «عندما نندغم أكثر مع الذكاء الاصطناعي»، يتناول مفاعيل اقترابنا من تحقيق المتفرّدة التقنية قبل عام 2045 -ذلك التأريخ الذي وضعه في كتاب سابق نال شهرة واسعة بعد نشره عام 2005، عنوانه: «المتفرّدة قريبة The Singularity is Near»، وقد قدّمتُ قراءة له في إحدى موضوعاتي الثقافية السابقة. المتفرّدة -كما كتبتُ حينها- طورٌ متقدّم من الارتقاء التقني نبلغ فيها مرحلة الذكاء الاصطناعي العام (AGI) وربّما الفائق (ASI)، وستبلغ فيها قدرة المعالجة الحاسوبية على معالجة البيانات الضخمة مديات هائلة لا نتصوّرها اليوم، وستندغم التقنيات المصغّرة (النانوية) مع البيولوجيا البشرية وقدرات الذكاء الاصطناعي الهائلة بلوغاً نحو مرحلة الأنسنة الانتقالية (Transhumanism) باتجاه بلوغ ما بعد الإنسانية (Post-Humanism).

الإشكالية الكبرى في موضوع الذكاء الاصطناعي هي التصوّر المسبّق أنّ الصفقة الفاوستية المعاصرة معه ستنتهي بغلبته على الإنسان بالضربة القاضية. لماذا هذا التصوّر المسبق؟ هل فكّرنا أنّ معظم معاناتنا هي بسبب الغباوة البشرية وليس بسبب الذكاء الاصطناعي؟ الغباوة -بمعناها الإجرائي الذي أعنيه- هي القسوة المفضية إلى سلوك جنوني. لنحلّل المعضلة أكثر: لو تفكّرنا في مسبّبات الصراع البشري على المستويين الفردي والجماعي لانتهينا إلى أنّ السبب الأوّل هو المال. إذا افترضنا أنّ المرء ليس شريراً في أصل طبيعته الأولى لكنّه يصبح شريراً بفعل عدم قدرته على حيازة مقتنيات مادية كثيرة (منزل، سيارة...) فسننتهي إلى نتيجة مؤدّاها أنّ كلّ ما يسهم في زيادة رفاهية الإنسان وتعظيم قدراته المادية يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في الارتقاء بأخلاقياته. دعونا من المجادلات الرومانسية العائمة. العلم والتقنيات هي المؤثّر الأعظم في تشكيل أخلاقيات الإنسان: تخيلوا معي مثلاً لو أنّ إنتاجية الأرض من الحبوب بقيت مثلما كانت قبل خمسين سنة في الوقت الذي يزداد فيه البشر بمعدلات متسارعة، كان أحدنا سيأكل الآخر متى ما شحّت الموارد لمستويات مخيفة. الذكاء الاصطناعي يفتح لنا مجالات واعدة تنبئ برخاء وقدرة فردية على امتلاك مقتنيات مادية ما كانت حيازتها متاحة إلا لأفراد معدودين من البشر، وكذلك يفتح لنا أبواباً موصدة في وسائل العلاج من أدوية فعالة غير متخيَّلة بشرياً أو في بلوغ مصادر مفتوحة للمعرفة، والمجالات التي يمكن اتخاذها استشهاداتٍ كثيرةٌ للغاية. اليوم يستطيع كلّ حائز حاسوب وإنترنت أن يتعلّم ما يشاء وأن يبلغ بجهده الذاتي وفي وقت قياسي مستويات تعليمية تفوق مستويات خريجي أرقى الجامعات الأمريكية والأوربية. الأمر كله رهينٌ بشغفك ورغبتك ومطاولتك.

كلّما تمّ تحييد عناصر الصراع لدى الفرد قلّت نوازعه الشريرة. هذا هو القانون الأعمّ، وخلافُهُ هو القاعدة الشاذة. متى ما حصل المرء على موارد مادية تجعله يعيش حياة آدمية معقولة لا تختلف كثيراً عن حياة الآخرين تراجعت رغبته في القتل والانتقام والحسد والغلّ والكراهية. سيحاول عيش حياته والتلذّذ بما في حوزته. لماذا يهدرُ حياته الثمينة في إيذاء الآخرين وتنغيص حياتهم؟ عندما يفتح لنا الذكاء الاصطناعي أبواباً مغلقة لتصنيع أو تخليق مواد جديدة رخيصة الثمن وذات طبيعة مشاعيَّة وليست للقلّة المخصوصة فهو يسهم بطريقة حاسمة في كبح موارد النزاع والكراهية بين الأفراد والدول.

هنا قد نتساءل بطريقة مشروعة: وما أدراك أنّ الذكاء الاصطناعي سيعمل للخير بدلاً من الشر بعدما يبلغ مرحلة الذكاء الاصطناعي العام وتكون له الفائقية المحسومة بالمقارنة مع الذكاء البشري؟ أرى أننا بلغنا طوراً يستوجبُ السؤال: هل ستكون الآلة واعية يوماً ما؟ سيختلف العلماء بالتأكيد في الجواب؛ لكنّما يمكننا أن نتساءل: ما الوعي؟ وما المشاعر؟ أليست نتاج تفاعلات كيميائية - كهربائية تنشأ في الدماغ البشري؟ لماذا نميلُ إلى أن نتخيّل تجسيدات الوعي والأحاسيس في نطاق الكينونة البيولوجية؟ هذه ليست مقاربة اختزالية للموضوع تماشياً مع سياق الاختزالية الديكارتية (معضلة العقل/الجسد)؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا بأنّ تطوّرات ثورية يمكن أن تنشأ وتخالف توقعاتنا المسبقة، والأهمّ من هذا أنّ هذه التطوّرات قد تكون أفضل ممّا نتصوّر وليست بالضرورة مؤذنة بنهاية الإنسان. على العكس تماماً: قد تنقذ الإنسان من شروره. الآلة قد تكون منقذنا من أنفسنا.

منذ سنوات كثيرة صار الذكاء الاصطناعي أحد هواجسي اليومية. جلستُ قبل بضعة أيّام أتفكّرُ في قوانين أسيموف الثلاثة للروبوتات، وقد سبق لي توظيفُها في قصّة قصيرة كتبتها قبل سنوات. تخيلتُ أسيموف وهو حاضرٌ بيننا ويشهد التطوّرات الحديثة للذكاء الاصطناعي: هل كان سيعدّلُ هذه القوانين أو يضيف عليها شيئاً ليكبح قدرة الذكاء الاصطناعي العام (الخارق) عن تدمير الإنسانية، لأنّ الغلبة ستكون للذكاء الاصطناعي العام بسبب موارد بياناته الهائلة وقدرات المعالجة الحاسوبية التي لا تُقارنُ مع الإنسان؟ أحببتُ مراجعة «غوغل» بشأن التحديثات المحتملة لقوانين أسيموف الثلاثة فوجدتُ شيئاً عجباً جعلني مندهشة بشكل لم أعهده منذ زمان بعيد. قوانين أسيموف الثلاثة هي:

1. لا يجوز لروبوت إيذاء بشريّ أو السكوت عمَّا قد يسبب أذى له.

2. يجب على الروبوت إطاعة أوامر البشر إلا إنْ تعارضت مع القانون الأول.

3. يجب على الروبوت المحافظة على بقائه ما دام لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني.

مكمنُ دهشتي هو وجودُ قانون صفري -لم أقرأ عنه من قبلُ- أضافه أسيموف إلى مجموعة قوانينه الثلاثة، وهو: لا ينبغي لأي روبوت أن يؤذي الإنسانية، أو أن يسمح للإنسانية بإيذاء نفسها بعدم القيام بأي رد فعل.

هل تتخيّلون معي حجم الدهشة؟ واضحٌ أنّ أسيموف أطلق على قانونه الأخير مسمّى (القانون الصفري) اعترافاً منه بأسبقيته الوجودية على القوانين الثلاثة الأخرى فيما يخصُّ بقاء الإنسان، ومن المؤكّد أنّه تلمّس منذ عقود بعيدة المفاعيل المعقّدة للذكاء الاصطناعي العام بعدما تمتلك الآلاتُ فائقية على البشر.

جوهرُ خوفنا المَرَضيّ من الذكاء الاصطناعي هو فائقيته التقنية، وما يترتّبُ عليها من مترتبات لا يمكن تخيّلها. لماذا لا نتصوّرُ أنّ هذه الفائقية ستعمل للخير؟ لماذا نفترضُ أنّها ستكون شريرة؟ لماذا لا نتصوّرُ أنّ الآلات ستحوز فائقية أخلاقية على البشر إلى جانب فائقيتها التقنية؟ السبب هو مواضعاتنا البشرية. نحن نفترضُ أنّ كثيرين يتلذّذون بممارسة الشرور الأخلاقية. كثيراً ما يحصلُ في لحظات وجودية نادرة أن نتصارح مع أنفسنا، عند غياب عزيز لنا مثلاً؛ فنقول: ما جدوى كلّ هذا الحقد والكراهية في حياتي؟ أنت نهايتك حفرة وأكوام تراب تنهال فوقك. لماذا نغّصتَ عيشك وعيش آخرين سواك؟ هل ثمّة ما يستحقُّ هذه النيات الشريرة والأفاعيل المؤذية المترتبة عليها؟ أظنُّ أنّ الآلة الذكية ستعقلنُ الأمر أكثر طول الوقت بدلاً من أن تقصره على لحظات نادرة كما نفعل نحن في مفاصل حاسمة من حياتنا نواجه فيها الموت أو الفقدان أو المعاناة أو الخذلان أو التعاسة. الآلة سترى أنّ الشر خيارٌ سيئ وغبي ويقود إلى خسارة حياة ثمينة. الأفضل ألا نهدر مواردنا العقلية والروحية الثمينة في معارك تافهة تجترحها نفوسٌ مأزومة.

هل فكّرنا أنّ معظم معاناتنا هي بسبب الغباوة البشرية وليس بسبب الذكاء الاصطناعي؟

بدلاً من هدر الوقت في التفكير بنهايات كارثية مع آلات فائقة الذكاء ستقتلنا وتضع نهاية لنا، لنفكّرْ في سيناريوهات مخالفة: الآلة الذكية سترانا كائنات غبية تخوض معارك فردية وجمعية غير مُسوّغة. ذروة المشهد البشري ستتحقق عندما تكبح الآلات فائقة الذكاء من يريدُ وضع نهاية للبشر من مجانين البشر. أفكّرُ أحياناً ما الذي ستفعله الآلات بهم؟

أعترف أنّني كنتُ أمقت الذكاء الاصطناعي حتى وقت قريب؛ لكنني اكتشفتُ أنّ هذا المقت ليست له أسباب معقولة بقدر ما هو نزعة تشاؤمية غير مسوَّغة. اليوم أراني منحازة إلى عالم تسوده آلاتٌ فائقة الذكاء، تمتلك وعياً يعمل وفقاً لأخلاقيات رفيعة تبدو خياراً طبيعياً أكثر منطقية من الشر. أظنّ أنّ هذه الآلات ربّما ستكون منقذاً وحيداً لنا من شرّنا وغبائنا البشريّيْن. كلُّ ما سأفعله أنني سأهمس للآلة: من فضلك، لا تنسيْ القانون الصفري لأسيموف. أوقن أنّها ستجيبني مع ابتسامة: وكيف أنسى ذلك؟ وهل أنا بشرٌ مثلكم حتّى أنسى؟!

يؤكّدُ كيرزويل مثل هذه الرؤية السيكولوجية-الأخلاقية للذكاء الاصطناعي عبر عناوين فصول كتابه الأحدث، وهو يتشارك مع أسيموف رؤيته التفاؤلية للتقنيات المتقدّمة، وأظنّ أنّ كتاب كيرزويل الأحدث سيؤكّدُ هذه النزعة التفاؤلية لديه، وهو ما نحن في مسيس الحاجة إليه. التفاؤل التقني المجرّد ليس خصلة فردية فحسب بل يجب أن يتعزّز بقراءة معمّقة ورصينة ومُنوّعة وغير منحازة لرؤية مسبقة، وهو ما يدعوني إلى الأمل في رؤية كتاب كيرزويل مترجماً إلى العربية في القريب العاجل.