«فيرا»... فقدان الحب والإيمان في روسيا المعاصرة

تعكس التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية في السنوات الأخيرة

«فيرا»... فقدان الحب والإيمان في روسيا المعاصرة
TT

«فيرا»... فقدان الحب والإيمان في روسيا المعاصرة

«فيرا»... فقدان الحب والإيمان في روسيا المعاصرة

يمثل البحث عن السعادة هماً رئيسياً في رواية «فيرا» للكاتب الروسي ألكسندر سنيجريوف، الصادرة حديثاً ضمن سلسلة «الإبداع القصصي»، عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، وترجمها عن الروسية المترجم محمد رياض غلوش، كما أنها تعكس الاتجاهات الجديدة في الأدب الروسي، والتطورات السياسية والاقتصادية والثقافية التي مرت بها موسكو في السنوات الأخيرة.
تقف بطلة الرواية «فيرا» الفتاة العادية في مفترق طرق، ما بين أحلامها بالأمومة والحب، ومفارقات الواقع والاختيارات السيئة، وهو موقف يتعرض له أغلب النساء الروسيات، بخاصة وسط الظروف القاسية في السنوات الأخيرة، وازدياد الهيمنة الذكورية. وتطرح الرواية سؤالاً مهماً: هل يمكن للجمال أن يحيا في بيئة ذكورية تخلو من الحساسية؟ الدكتور أنور إبراهيم، وهو حاصل على دكتوراه في فقه اللغة والأدب الروسي من جامعة موسكو 1983. يذكر في تقديمه للرواية أن ألكسندر سنيجروف يطرح أمامنا قضايا في منتهى الأهمية والحيوية، لافتاً إلى أنه بعد الأحداث الدامية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاج روسيا بقيادة ميخائيل جورباتشوف سياسة إعادة الإصلاح «البيريسترويكا»، كان السؤال الذي يتردد على لسان الكثيرين سواءً في روسيا أو في العالم العربي حيث يحظى الأدب الروسي بمكانة مرموقة بين القراء والمثقفين: هل لا يزال هناك أدب روسي؟ وعندما اقترب القرن العشرين من نهايته تبين أن الإقبال على القراءة تراجع في روسيا على نحو كارثي، وأن مهمة الكتابة فقدت جاذبيتها بالنسبة للجيل الشاب آنذاك، حيث بدت آفاق العمل في مجالات البنوك والنفط أكثر إغراء.
ويشير إبراهيم إلى أنه بعد ستة وعشرين عاماً من تأسيس جائزة «البوكر» الروسية عام 1992 إذا بالروس يجدون أنفسهم في وضع فريد، فقد غطت شبكة من الجوائز الأدبية المهمة الفضاء الأدبي الروسي شملت كافة جوانبه لتوزع دون توقف طوال شهور العام تقريباً. في الماضي كانت الجوائز الأدبية في روسيا تحمل مغزى سياسياً ما، أما الآن فقد أصبحت تحمل طابعاً تجارياً أيضاً شديد الوضوح لأن مؤلف الأدب التجاري بات يحصل على أجر مرتفع يمكنه الاعتماد عليه في حياته.
والمتابع لردود الفعل على رواية «فيرا»، يتأرجح بين عديد من الآراء التي تشيد بالرواية، وبين تلك التي تقف على النقيض منها فقط جائزة «البوكر الروسية»، هي التي ثمنت جهد مؤلف العمل «ألكسندر سنيجريوف» لاستحقاق الجائزة رغم أن الأعمال المنافسة له كانت روايات قوية.
تحمل الرواية اسم البطلة الرئيسية، فتاة عادية ترغب في أن يكون لديها أطفال وتسعى جاهدة لأن تجد لنفسها رجلاً مناسباً، بيد أن تحقيق هذه الرغبة يصبح أمراً مستحيلاً. لذا يرى كثيرون أن هذه الرواية هي نص عن فقدان الإيمان، فاسم «فيرا» يعني بالروسية «إيمان»، لكن الأمر ليس على هذا النحو. إنها تحديداً عن الحب والإيمان هذا ما أعلنه ألكسندر سنيجريوف نفسه إبان مراسم تسلمه جائزة «البوكر الروسية» عام 2015 عن هذا العمل حين قال: «إنها امرأة تمر بتجربة فقدان السعادة والحياة وإن كانت تدرك معنى السعادة ومعنى الحياة، لقد كنت أقود بطلتي أحياناً عبر هذا الطريق الذي قطعته أنا نفسي آنذاك».
وبحسب ما ورد في مقدمة الكتاب لأنور إبراهيم، يرى البعض في بطلة الرواية نموذجاً لروسيا. وإذا ما ابتعدنا عن الرموز فإن «فيرا» هي كائن رائع إلى حد لا يمكن تصوره خلقه الله لهدف محدد، لكنها لا ترى أمامها هدفها بوضوح، بل وتقوم بتزييفه. يضم هذا العمل بين دفتيه القضايا المركزية في الأدب الروسي مثل الحب والبحث عن السعادة والجمال الهش في بيئة قاسية، كما يعكس الواقع المعاصر والآيديولوجيات المتصارعة بداخله. من المستحيل النظر إلى «فيرا» بعيداً عن السياق السياسي وإلا فقدت التفاصيل العديدة فيها قيمتها. يصرخ أحد عشاق البطلة فيها: غبية، عن أي طفل تبحثين! النهاية قادمة على وجه السرعة «كما أن ترتيب الحياة الشخصية لها يحمل كثيراً من الدلالات، لقد هرعت (فيرا) إلى اجتماع لجماهير غفيرة من المعارضة وراحت تفاضل بين جانبين سياسيين متعارضين. وهنا نقرأ: «كثيراً ما كانت الشوارع والميادين تمتلئ بالطوابير المنظمة من أنصار المسار الرسمي وبمجموعات متنافرة من المعارضين الثائرين قليلي العدد. وإذا كان الطرف الأول يطالب بنزع الأراضي الروسية القديمة من الجيران فإن الطرف الثاني كان يدعو إلى توزيع أراضيهم الخاصة».
المؤلف في هذه الرواية هو شخص يقف على مقربة من الأحداث، تأتي لغته محايدة دون تعاطف مع شخصياته. على سبيل المثال فإن ألكسندر سنجريوف يصف الموت على هذا النحو: «إن الجهاز القلبي والوعائي النهم والضعيف في الوقت نفسه لدى سليمان فيودروفيتش المولود عام ثمانية وثلاثين وتسعمائة وألف لم يتحمل ذلك وسقط بالمناسبة بجوار طاقم السباكة التشيكي الذي قام فانيا بتركيبه مع كل انعطافة مفاجئة في الموضوع». وهنا ينبغي على القارئ أن يضبط حواسه الداخلية لكي يدرك إلى أين تأخذه أحداث الرواية، ولكن عليه أيضاً ألا يتنبأ مقدماً بما سيحدث، فالنص ملئ بالمفاجآت.
ما نطالعه في الجزء الأول من الرواية هو سيرة تفصيلية لامرأة لا تبدو نهايتها متسقة على الإطلاق مع سبق وعشناه معها. يقص «سنيجريوف» علينا كيف جاءت بطلته إلى الدنيا بصعوبة وكيف بدأت علاقتها بالجنس الآخر بالاغتصاب، كيف سافرت إلى بلد آخر هو أميركا ثم عادت وأين عملت ومع من عاشت وكيف اضطرت عند ولادتها إلى مخالفة واحدة من الوصايا العشر: «لا تقتل»، وذلك عندما اضطرت لأن تقتل أختها في رحم أمها لكي تخرج هي إلى الحياة!. تتسم الرواية في بعض أجزائها بالإيقاع البطيء مع وفرة من التفاصيل الوصفية، حيث يستخدم المؤلف باقتدار الإمكانات اللغوية كافة، ويرسم شخصيات رائعة ومشاهد قريبة للغاية من الحياة، كما يستخدم أيضاً مجازات مفاجئة لكنها شديدة الدقة.
يذكر أن «البوكر الروسية»، التي نالها ألكسندر سنجريوف عن هذا العمل لم تكن الجائزة الأولى في مسيرة الكاتب المولود في السادس من يناير (كانون الثاني) 1980 بمدينة موسكو، فقد نال «جائزة ديبات» عام 2005 عن مجموعته القصصية «الانتخابات»، كما نالت روايته «فينوس البترول» جائزة «الأكثر مبيعاً» عام 2009.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».