لوتريامون على حافة الجنون

مات في الرابعة والعشرين وحيدًا مهجورًا في غرفة فندق بباريس

لوتريامون
لوتريامون
TT

لوتريامون على حافة الجنون

لوتريامون
لوتريامون

ربما لم يشهد تاريخ الآداب الفرنسية شخصا في مثل هذه القسوة والرعونة والضرب عرض الحائط بكل المشاعر والقيم الإنسانية. هل ينبغي أن نستثني المركيز دو ساد؟ فعندما تقرؤه - هذا إذا ما تجرأت على قراءته - تصدمك صوره الشاذة وأفكاره المرعبة إلى أقصى الحدود. وربما بسبب ذلك - فإن السرياليين يضعونه على قمة الشعر الفرنسي. بل ويفضلونه على رامبو، معبودهم الأول، لأنه ذهب في الوحشية والخروج على المألوف مبلغا لم يتجرأ عليه صاحب «الإشراقات» و«فصل في الجحيم». إنه شخص لا أخلاقي بالمرة ولكنه يتمتع بعبقرية شعرية خارقة. هل هي عبقرية الشر؟ دون شك. ولكن أحيانا تمر به لحظات ناعمة إذا جاز التعبير، لحظات رومانطيقية لا تخلو من حنين مؤثر بل وحتى جارف. انظر مناجاته الشجية للمحيط الأطلسي وكأنه صديق شخصي قديم..أو قل إنه ينتقل فجأة من الشر إلى الخير، من الوحشية الصرفة إلى الغنائية العذبة. فمن هو هذا الشخص الذي أحدث بلبلة في الآداب الفرنسية فلعنه البعض ومجده الآخرون؟ تقريبا لا نعرف عنه أي شيء لأنه لم يعش أصلا لكي نعرف. لقد مات في الرابعة والعشرين وحيدا، مهجورا، في غرفة فندق بباريس. هل يعقل أن يشغل الآداب الفرنسية شخص مات في مثل هذه السن المبكرة؟ صحيح أن رامبو مات شعريا قبل ذلك. ولكن على الأقل رامبو كانت له علاقة بالحلقات الأدبية الباريسية وبفرلين على وجه الخصوص.ثم إنه كانت لرامبو حياة صاخبة نعرفها بكل مراحلها بدءا من مدينته الصغيرة شارلفيل وحتى باريس مرورا بلندن وبروكسل وانتهاء بعدن وحرار وبلاد العرب. أما إيزودور دوكاس الملقب بلوتريامون فلا يكاد أحد يعرف عنه شيئا يذكر. إنه سر الأسرار أو مجهول المجاهيل. ليست له بيوغرافيا أو حياة شخصية. من هنا الغموض المرعب الذي يحيط بهذا الشخص وكل إنتاجه الشعري الذي لا يتجاوز مجموعتين صغيرتين هما: أناشيد مالدورور، وأشعار. والثاني يشبه الكتابة النثرية التنظيرية وهو نقيض الأول!
بما أني لا أستطيع تحمل مسؤولية الحديث عنه فلأترك ذلك لمن هم أكبر مني وأهم. لأدع كبار نقاد فرنسا وكتابها يتحدثون عنه. وهكذا أنفض يدي منه تماما ولا أتحمل أي مسؤولية. يقول ذلك المجنون الرائع أنطونين ارتو: إنه - أي لوتريامون - شاعر مسعور بالحقيقة. لاحظوا هذه الكلمة الهامة جدا هنا: «مسعور». أما ليون بلوا فيقول هذه العبارة: إنه شخص مجنون هذا الذي يتكلم في ديوان أناشيد مادورور. إنه شخص تافه، أكثر المستلبين تمزقا. ثم يضيف عام 1890 أي عندما كانوا قد اكتشفوا للتو مجموعتي لوتريامون: إن الأشخاص الميالين إلى السوداوية والكآبة كانوا دائما يحبون الأنقاض. فموظفو الحزن ومحاسبو الألم ليس لهم بيت آخر لكي يأكلوا فيه، ويتناسلوا ويناموا. لقد اطلعنا مؤخرا على كتاب غير معروف حتى الآن على الرغم من أنه طبع في بلجيكا قبل عشر سنوات. ولكن لم ينتبه إليه أحد. واسمه أناشيد مالدورور لمؤلفه لوتريامون. إنه كتاب لا شبيه له في التاريخ وربما لقي صيتا عاليا وأصداء واسعة في المستقبل. وأما مؤلفه فقد مات في زنزانة، مجنونًا وهذا كل ما نعرفه عنه. من الصعب أن نعرف فيما إذا كانت كلمة وحش كافية لوصف هذا الشخص أو لوصف كتابه بالأحرى. فقد لا يكون هو حقيرا إلى مثل هذا الحد. ولكن لا ريب في أنه مستلب العقل كليا ذلك الشخص الذي يتحدث في الديوان بضمير الأنا. إنه مجنون حقيقي. أحيانا يتوقف فجأة عن الحلم بعالم لا نهائي لكي يطلق هذه الصرخة الممزقة: من هو إذن ذلك الشخص الذي سيضربني بقضيب من حديد على رأسي كما تضرب المطرقة السندان؟ فلعل رأسي تنكسر وأرتاح من هذه الحياة..
وأما أندريه مالرو فقد كتب عام 1920 مقالة عن لوتريامون ولكنها سلبية وهجائية جدا. فهو يعتبره صبيانيا وطفوليا أكثر من اللزوم. وهل يلام الأطفال على عبثهم وألاعيبهم؟ هل يمكن لشاب مراهق لم يعرك الحياة بعد ولم يشهد المعاناة والتجارب الكافية أن يكتب شعرا عظيما؟ يشك مالرو في ذلك كل الشك. ثم ينقل عنه صورة غير دقيقة، صورة أسطورية إذا جاز التعبير. فهو يعتقد أن لوتريامون كان يعيش دون طعام تقريبا، ولا يشتغل إلا في الليل بعد أن يكون قد عزف على البيانو طيلة ساعات وساعات. وكان يشرب عددا هائلا من فناجين القهوة إلى درجة أنه كان يزعج خادم الفندق..
ثم جاء السرياليون وأعطوا للوتريامون المكانة والشهرة المدوية بعد أن كان مغمورا تماما. وقد رفعه زعيمهم أندريه بريتون إلى أعلى عليين عندما صرح عام 1919: أعتقد أن الأدب يميل لأن يصبح بالنسبة للمحدثين آلة جبارة تحل محل الطرق القديمة للتفكير. ضمن هذا المعنى فإن لوتريامون تعبير عن إلهام خارق يتجاوز كل الإمكانيات البشرية! ثم يضيف: في نظر بعض الشعراء المعاصرين فإن مجموعتيه (أناشيد مالدورور، وأشعار) تشكلان إشراقة رائعة لا مثيل لها في تاريخ الشعر. ونفهم من كلام بريتون أن لوتريامون شاعر حديث بشكل مطلق ويائس بشكل مطلق أيضا. إنه أكثر شعراء فرنسا عداء للتقاليد والامتثاليات الاجتماعية. من هذه الناحية فهو يتفوق على رامبو الذي لم يبلغ من الوحشية مبلغه على الرغم من شذوذه وخروجه على المألوف. إنه أي لوتريامون - شخص خارج على المجتمع كليا. من هنا جاذبيته أصلا وبخاصة بالنسبة للسرياليين الذين كانت أفعالهم وفضائحهم تهز باريس. ألم ينتقموا من عدوهم أناتول فرانس بعد وفاته عندما دخلوا إلى الغرفة المسجى فيها وكشفوا عنه الغطاء وصفعوه عدة صفعات على وجهه وهو ميت؟ وكل ذلك أمام المعزين والشخصيات الحاضرة المذهولة التي لا تكاد تصدق ما يجري! من يفعل ذلك إلا السرياليون؟ لهذا السبب أحبوا لوتريامون لأنه مجنون مثلهم بل وأكثر منهم.لم يجدوا في تاريخ الآداب الفرنسية شخصا يتفوق عليهم جنونا واستهتارا إلا هو.
ثم دشن لوتريامون بواسطة فوضاه ونزعته التدميرية الهائلة كونا جديدا ترتبط فيه الكلمات والأشياء بعلاقات غريبة خارقة للعادة. من هنا جاذبيته أيضا وابتكاريته غير المسبوقة. فصوره الشعرية المبتكرة كليا أو مجازاته الإرهابية لا مثيل لها في تاريخ الأدب الفرنسي أو حتى العالمي. ولذا يمكن القول بأن لوتريامون يمثل بداية مطلقة لشيء آخر في الشعر. إنه شعر غير الشعر: لا قبله ولا بعده. إنه الجنون بعينه. لقد انتهت تلك الحدود الواضحة التي تحصر علاقات الكلمات ببعضها، أو الأشياء ببعضها. فلوتريامون انتهك كل العلاقات والمعقوليات. وطرأت طفرة دائمة على الأشياء كما على الأفكار. وسوف تؤدي إلى تحريرها كلها وتحرير الإنسان كما يعتقد أندريه بريتون. ثم يصل الأمر به وبقية السرياليين الآخرين من أمثال أراغون وايلوار إلى حد منع النقاد من دراسة هذا الشعر، أو حتى مسه مجرد مس. فأي دراسة نقدية تلوثه مهما كانت نافذة وكبيرة. إنه فوق الدراسة والنقد. إنه قدس الأقداس الشعرية!
وأما غاستون باشلار فقد أصدر عام 1939 كتابا بعنوان: لوتريامون. وقد طبق عليه منهجية التحليل النفسي لكي يضيئه من الداخل. ومنذ البداية طرح هذا السؤال: ما هي إذن تلك العقدة النفسية التي خلعت على أعمال لوتريامون كل طاقتها الإبداعية والتفجيرية الخارقة؟ والجواب: إنها عقدة الحياة الحيوانية. المقصود عقدة العدوان أو شهوة العدوان بالأحرى. ويبدو أنها كانت تعمر قلب هذا الشاعر الغريب الأطوار. وهذه العقدة هي ما ندعوها بعقدة المراهقين أو ضغينة المراهقين. وقد أحس بها الشاب لوتريامون عندما كان على مقاعد الدرس في المدرسة الثانوية. ولم يتخلص منها إلا بعد أن كتب ديوانه العبقري: أناشيد مالدورور. ويبدو أن لوتريامون بعد أن صب على الورق كل ما يعتمل في أحشائه من نزعات عدائية مدمرة، بعد أن كتب هذا الديوان الذي لا مثيل له في تاريخ الشعر الفرنسي، فإنه لم يعد يعني له شيئا. بل وأصبح معاديا له وكارها. والدليل أن ديوانه التالي كان مضادا له تماما. فبعد أن مجد الشر راح يمجد الخير والفضيلة. وهذا يعني أن الديوان الأول، الشيطاني النزعة، كان نتاج العقدة النفسية التي تؤرقه. وقد كتبه فقط لكي يتحرر منها ويسيطر على عقدته. وما إن نجح في ذلك حتى تنكر لإبداعه.
هذا على الأقل ما يعتقده الطبيب النفساني جان بول سولييه. فقد كرس للشاعر كتابا كاملا بعنوان: «لوتريامون: عبقري أم مريض عقلي؟» وقد صاغ أطروحته على النحو التالي: هناك تشابه مدهش بين أشعار لوتريامون والأعمال الفنية التي يرسمها المجانين المصابون بالشيزفرونيا: أي بانفصام الشخصية. ويقول الدكتور سولييه بأن لوتريامون ربما كان قد أصيب بذلك المرض الذي يصيب المراهقين عادة والمدعو بالذهان المزمن. وهو عبارة عن اختلال في الوظائف العقلية، اختلال ينتج عن اضطراب شامل في الشخصية فيصبح المرء عاجزا عن التكيف مع المجتمع. والواقع أن لوتريامون كان دائما وحيدا، يعيش بعيدا عن عائلته المقيمة في نيكارغوا فيما وراء المحيطات، وبعيدا عن أصدقائه النادرين المقيمين في الأقاليم الفرنسية البعيدة عن باريس. وبالتالي فهو شخص مقطوع. وكما ذكرنا فقد مات وحيدا في غرفته أثناء الليل. ولو لم ينتبه إليه موظف الفندق ويفتح الباب فجأة لربما ظل جثة هامدة عدة أيام قبل أن يكتشفوه.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي