شكري المبخوت: علينا أن نتحلى بالروح الرياضية في سباق الجوائز الأدبية

يعدّ شكري المبخوت أحد أبرز الأسماء في المشهد الثقافي التونسي، سواء في حقل البحث العلمي الأكاديمي أو النقد الأدبي أو الإبداع السردي أو القضايا الفكرية. لفت الانتباه إليه بقوة بعد فوزه بجائزة «البوكر العربية» منذ سنوات. أعاد «اكتشاف» طه حسين قبل ثلاثين عاماً في كتابه «سيرة الغائب - سيرة الآتي»، ثم توالت أعماله الروائية، ومنها «الطلياني» و«مرآة الخاسر» و«باغندا». في هذا الحوار يكشف «المبخوت» كواليس رئاسته لجنة تحكيم جائزة «البوكر» في دورتها الأخيرة، ويعترف بأن علاقته بالقصة القصيرة أقرب ما تكون إلى نزوة، ويأمل أن يستأنف بعضاً من تجاربه السابقة في تأسيس مجلات ثقافية صادفت تعثراً لأنها قامت على الجهود التطوعية.
هنا نص الحوار:

> أصدرت أعمالاً عدة بعد رواية «الطلياني»، لكنها لم تحظَ بالبريق الذي حظيت بها تلك الرواية، ترى ما السبب؟
- السبب واضح نسبيّاً؛ فقد حظيت الرواية باهتمام كبير بسبب حصولها على «البوكر». فمن ميزات هذه الجائزة أنّها توجد حركية إعلاميّة وثقافيّة مهمّة حول الروايات في قائمتيها الطويلة والقصيرة فالرواية المتوّجة تحظى باحتفاء يندر أن نجده في جائزة أخرى حتى إن كانت أرفع منها قيمة ماليّة. ولكن البريق الذي تتحدّثين عنه رافق الرواية حتى قبل حصولها على الجائزة؛ فقد وصلت على ما أذكر إلى طبعتها الرابعة قبل الحصول على البوكر. هناك دوماً للانتشار أسباب. فلئن كان هذا الانتشار بعد الجائزة مرتبطاً بالفضول لمعرفة الرواية وتقييمها سلباً أو إيجاباً على أساس مدى جدارتها بالجائزة، فإنّ تلقّيها قبل الجائزة والمواقف النقديّة وحتى الانطباعيّة منها تدلّ على أنّ في الرواية شيئاً ما شدّ بعض القرّاء إليها. وبحسب متابعتي لما كتب من آراء متناقضة أظنّ أنّ ما شدّ القرّاء هو ما وجدوه فيها من جاذبيّة لشخصيّة «عبد الناصر الطلياني» ورفيقته «زينة»، علاوة على أنّ عالمها كان متنوّعاً؛ إذ بُني على أكثر من محور سرديّ.
> هل تحول النجاح الذي حققه هذا العمل على صعيد الجوائز والترجمة عبئاً على أعمالك التالية، بعبارة أخرى: هل تعاني من «لعنة» الطلياني؟
- لا، فما سبق وذكرتِه لا يعني بالمقابل أنّ ما كُتب عن الروايات الأخرى شهد احتفاءً أقل بها من «الطلياني»، بل إنّ البعض رأى أنّ الجزء الثاني منها المعنون بـ«مرآة الخاسر» أفضل من الجزء الأوّل. ومن القرّاء من اعتبر «باغندا» أكثر نضجاً من «الطلياني»، ووجد آخرون في «السيرة العطرة للزعيم» بأسلوبها الساخر شيئاً مختلفاً. ومن هذه الناحية لم تتحوّل «الطلياني» عبئاً لدى المتابعين المواظبين في عالم القراءة الروائية إلا لدى من يتابعون الجوائز. على كل حال، هي مواقف مختلفة متنوّعة وللقرّاء جميعاً حرّية التقييم والقبول والرفض فلا إجماع في الأدب.


شكري المبخوت

> دخولك حقل السرد الروائي جاء صاخباً من خلال فوزك بجائزة «البوكر العربية» عبر أولى أعمالك، هل كنت تفضل أن يأتي دخولك هادئاً وبسيطاً؟
- لكل كتاب مسار ومصير. ولم تشذ «الطلياني» عن هذه القاعدة. ولكن لم يكن من الثابت أنّ مثل هذا الذي وصفتِه بالدخول الهادئ والبسيط كان سيسمح بتتويج رواية أخرى من رواياتي بـ«البوكر» أو بغيرها. ففي المسألة بعض الصدفة، وأقصد بالصدفة أن «الطلياني» نجحت في حدود ما توفّر لدى لجنة التحكيم من روايات. فقيمتها ليست مطلقة وإنّما هي قيمة بالنسبة إلى مجموع الترشيحات التي كانت بين أيدي أعضاء اللجنة. وشخصياً ليست لي أوهام من هذه الناحية لأنني جرّبت التحكيم وأعرف شيئاً من حيرة لجان الجوائز وصنعهم لمعايير التتويج من خلال النصوص التي تتوفّر لديهم.
> لك مجموعة قصصية وحيدة هي «السيدة الرئيسة»، فهل علاقتك بفن القصة القصيرة «نزوة» عابرة؟
- لك أن تعتبري الأمر كذلك، مجرّد نزوة بما أنني كتبت الرواية قبل القصّة القصيرة. ولكنني شخصياً رغم كل ما يقوله النقاد لا أرى فرقاً بين القصة والرواية إلا من حيث المدى الذي تتيحه العوالم التخييليّة التي يبنيها السارد. فكلها عندي من الفنّ السردي عند الكتابة ولكنّ تدبير العالم السردي يختلف من نوع إلى آخر فقط. أمّا النقد فله أن يحدّد ما يشاء. والواقع أن لي قصصاً أخرى غير منشورة أتكاسل كلّما هممت بجمعها أو أرى أن بعضها يحتاج إلى مزيد التطوير. وأفضل وسط تشتت اهتماماتي الأدبية أن أركز على الرواية لأنها أقدر على التعبير عن القضايا التي أودّ معالجتها.
> على ذِكر البحث العلمي، ألم تتناقض خلفيتك الأكاديمية وما تتسم به من انضباط ومنهجية مع جموح المبدع بداخلك؟
- تأكّدي أنّه لا تناقض في الكتابة بصنفيها الأكاديمي والإبداعي بين الصرامة والجموح. فالرواية التي تعتبر جموحاً تقتضي كثيراً من المنهجيّة والانضباط والبناء، فكل خطأ فيها قد يكون قاتلاً، وتكمن متعتها في هذا التوتّر بين ما أسميته «جموحاً» وما اعتبره بنية وتنظيماً. وأصدقك القول أن الظاهرتين موجودتان في الكتابة الأكاديميّة أيضاً؛ فهي ليست أكثر صرامة من الرواية ولا أقلّ جموحاً من الإبداع. قد أكون مخطئاً في وصفي ولكن هذا ما أشعر به.
> تجمع بين النقد والإبداع، فهل تمنحك تلك الثنائية امتيازاً ما لا يتوافر لمن هم نقاد فقط أو مبدعون فحسب؟
- لا أدري هل المعرفة النقديّة النظريّة مزيّة في الإبداع أم هي معطّلة للاندفاع الإبداعي أو ما سميته أنتِ جموحاً. ما هو ثابت عندي أنّ الرواية تكتب من خلال ما تراكم من تجارب وخبرات ومعارف متنوّعة بالناس والنفسيات والمجتمع ومن معرفة أيضاً باللغة والأساليب ووعي بالأبنية السرديّة والتقنيات وضروب التراكيب في بناء النصوص. إذن، لنعتبر المعرفة النقديّة جزءاً مما ينطلق منه الروائي عن وعي أو دون وعي ومما يحتاج إليه ضمن معارفه الواسعة للدخول إلى عالم الكتابة السرديّة.
لكن لننتبه إلى أمرين. أولهما أن معرفتك بالقواعد في اللغة لا تعني أنك لن تخرج أبداً عن السياق، والآخر أنّ المعرفة النقدية توجد لدى الروائيين ضمنيّاً من خلال ما راكموه من تجارب قرائيّة.
> ترأست لجنة تحكيم «البوكر العربية» في دورتها الأخيرة، فكيف ترى الجدل الذي يرافق تلك الجائزة بشكل عام مع كل دورة لها؟
- في جميع الحالات هو جدل محمود في الأغلب الأعمّ، ويؤكّد الاهتمام المتزايد بالفن الروائي بفضل الديناميكية التي أحدثتها بالخصوص جائزة «البوكر» في المشهد الثقافي والإعلامي العربي. ولكن ما يؤسف له أنّ النقاشات كثيراً ما تذهب مذهباً ذاتياً محضاً ينبني على الانتماء القطري لهذا المشارك أو ذاك مثلاً، أو على ذوق هذا المتدخّل المحتج على النتيجة في حين أن الجائزة تسند بصرف النظر عن أي اعتبار عدا جودة النصّ من ناحية، وما اتفقت عليه أذواق أعضاء لجنة التحكيم ونقاشاتهم من ناحية أخرى. وبطبيعة الحال، رأي اللجنة ليس مقدّساً وهو قابل للنقد، ولكن التفكير بمنطق المؤامرة يفسد قواعد اللعبة كلّها ومن بينها احترام رأي لجنة التحكيم مثلما يحترم رأي الحكم في المباريات الرياضيّة مهما كان حظّه من الصواب والخطأ فما بالك بلجنة من خمسة أعضاء قد لا تجمع على صواب ولكنّها قد تتوافق على عمل لا يرضي بالمقارنة والمقايسة هذا القارئ أو ذاك وهذا المترشّح أو ذاك.
> تمنح الجوائز الأدبية الفائزين بها شعوراً بالسعادة، وعلى الجانب الآخر يشعر من لا يحالفهم الحظ بالمرارة وعدم التحقق، بعدما صارت الجوائز معياراً للقيمة... ما رأيك؟
- أعمال كثيرة قيّمة لا تتحصّل على الجوائز. لذلك؛ لا أرى الجائزة دوماً معياراً مطلقاً للقيمة. علينا أن نكون حذرين في هذه المسألة، وأن نتحلّى بالنزاهة الكافية والموضوعيّة اللازمة. خذي لك مثالاً نتائج «البوكر» لهذه السنة بما أنني أعرف تفاصيلها منذ المرحلة التي سبقت الإعلان عن القائمة الطويلة. فأصدقك القول إن الأعمال القيمة كانت في حدود 30 رواية. وبعد الانتقاء والاستصفاء وصلت إلى القائمة القصيرة ستّ روايات هي عندي قيّمة جدّاً، بل حصلت بالنسبة إلي على الجائزة فعليّاً بما أنّ قوانين الجائزة تمنحها مكافأة ماليّة لتميّزها. أمّا الرواية المتوّجة فهي ما بدا للجنة أنّها أكثر قيمة رغم صعوبة التفضيل أحياناً. وبالمقابل، فإنّني أتفهم حديثك عن الشعور بالمرارة لدى بعض المشاركين، ولكن المسألة عندي بسيطة فقواعد اللعبة تفترض نوعاً من الروح الرياضيّة كما في جميع المسابقات وعلى من لا يتحلّى بهذا الاستعداد أو يرى نفسه أكبر من هذه الجائزة أو تلك وسيخلّف له عدم الفوز مرارة في الحلق ألا يترشّح.
> من مؤلفاتك النقدية المبكرة «سيرة الغائب – سيرة الآتي» التي تتناول السيرة الذاتية في «الأيام» لطه حسين، ترى ما الذي استوقفك في تلك السيرة؟
- هي سيرة استوقفت كل من كتب عن السيرة الذاتية؛ لأنها مَعلم من معالم الأدب الروائي الحديث. فهي نص ولد محمّلاً بأسئلة جماليّة لا تزال قائمة علاوة على ريادته. وما قمت به هو محاولة التحليل النصّي لهذا العمل لبيان ألاعيبه الفنّيّة والبحث في أسراره من داخل النصّ لا انطلاقاً مما حفّ به. وأعتقد أنّ التحليل الذي قدّمته متأثّراً أساساً بنماذج تفسيريّة مختلفة تلتقي في اعتمادها أساساً على النصّ لا على الحواشي يحتاج إلى تطوير وإلى جهود أخرى تبرز أسراراً أخرى في كتاب «الأيّام»، فالعمل قديم نسبياً، ولا بدّ من تجاوزه بمقاربات أخرى ومناهج غير التي اعتمدتها رغم صلاحية بعض نتائجه إلى الآن في الجوانب التقنية التي صنع بها طه حسين سيرته الفذّة.
> أخيراً، قمت بتأسيس وإدارة العديد من المجلات الثقافية الشهرية والفصلية... ماذا عن هذا الجانب في تجربتك؟
- فعلاً، كانت هذه المساعي تندرج ضمن العمل على إبراز كتابات التونسيين المتميّزة فكريّاً ومنهجيّاً ومن باب الإيمان بدور الثقافة في نحت معالم جديدة. وقد وفّر مناخ الحريّات الفرصة لمثل هذه الأعمال التي أردناها طليعيّة. لكن صعوبات النشر والتوزيع المادّيّة وضعف ما باليد حال دون استمرار التجارب المختلفة التي كانت تقوم على التطوّع دون سند ماليّ. لذلك توقّفت وربما يعود بعضها قريبا لما لمسناه من حاجة إلى التفكير الجماعي وتطارح القضايا الحارقة في هدوء واحترام بعيداً عن الشعارات البائسة التي يرفعها السياسيون عندنا.