تأتي الدورة التاسعة والسبعين لمهرجان فينيسيا السينمائي التي ستنطلق في الثلاثين من الشهر المقبل، وتستمر إلى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، في الوقت الذي تعيش فيه أوروبا حالة حرب عالمية ثالثة غير معلنة في أوكرانيا.
ليس فقط أن الأجواء السياسية ستغطي احتفالاً كبيراً ورائداً مثل فينيسيا، بل إن جدول العروض، الذي أُعلن عنه قبل ثلاثة أيام، يتضمّن أفلاماً أوكرانية من المنتظر لها أن تصول وتجول في الوضع القائم. المدير العام للمهرجان ألبرتو باربيرا أدلى بدلوه في هذا الوضع عندما قال خلال مؤتمره الصحافي في السادس والعشرين من هذا الشهر أن «الديمقراطية الأوروبية مهددة من قِبل الإمبريالية البوتينية».
لكن المسألة الأوكرانية ليست وحدها التي تنشر ضباباً سياسياً في سماء هذه الدورة الجديدة لأقدم مهرجان سينمائي في العالم، بل كذلك المسألة الإيرانية. في حديثه للصحافة في ذلك اليوم، كرر تأييد مهرجان فينيسيا للمخرجين الإيرانيين المحتجزين قائلاً: «ذنبهم الوحيد هو أنهم يستخدمون حقهم في التعبير»، وهو يقصد من صدر الحكم ضدهم أمثال محمد رسولاف وجعفر باناهي (صدر الحكم على باناهي بالسجن سبع سنوات).
- افتتاح واختتام
مهرجان فينيسيا يريد تجاوز القول إلى الفعل، وفي هذا النطاق سيتم عرض 3 أفلام أوكرانية المحتوى والإنتاج وهي «الحرية على نار: قتال أوكرانيا للحرية» (Freedom on Fire: Ukranine›s Fight for Freedom) لافيني أفينيڤسكي و«محاكمة كييف» (Kiev Trial) لسيرغي لوزنتزا و«لوكسمبورغ، لوكسمبورغ» لأنطونيو لوكيتش.
وتحظى القضية الإيرانية بثلاثة أفلام أيضاً هي «لا دبب» (No Bears) لجعفر باناهي، و«وراء الجدار» (Beyond the Wall) لوحيد جليلوند و«الحرب العالمية الثالثة (World War III) لحومان سائدي.
هذه الأفلام، وربما غيرها من تلك التي يمكن اعتبارها سياسية بشكل أو بآخر، لن تطغى على خيارات المهرجان الأخرى. الحال أن غالبية الأفلام تبتعد عن السياسة، بتعريفها المحدد، صوب قضايا محض اجتماعية أو صوب أنواع أخرى من الأفلام التي قد تكون واقعية أو لا تكون.
فيلم الافتتاح هو أحد تلك الأعمال. عنوانه «ضجة بيضاء» (White Noise) عن رواية للمؤلف دون دليلو وبطولة غريتا غرويك، دون شيدل وأدام درايفر. الرواية ذاتها مثيرة للاهتمام لأكثر من سبب، هي من قدّمت المؤلف دليلو إلى الجمهور العريض عندما نُشرت سنة 1985 وفازت بجائزة «الكتاب الوطني للرواية». لكن ما تميّزت به هو موضوعها الذي يدور حول زوجين (درايفر وغرويك في الفيلم) على خوف مستمر من الموت. يدركان أنه مقبل لا محالة لكنهما عنيدان في اتخاذ الحيطة لئلاً يقع. ينافشان احتمالاته ويحاولان درئها.
فيلم الختام، بالنسبة للعروض الرسمية الأولى هو «الشمس المعلّقة» (The Hanging Sun) للإيطالي فرانشسكو كاروتزيني. حكاية قاتل محترف يهرب من الذين يوظفونه لارتكاب الجرائم ويلجأ إلى قرية بعيدة ومنعزلة حيث يراجع أفعاله ويلتمس الأمان. البريطاني بيتر مولان في البطولة مع جسيكا براون فندلاي.
ما بين البداية والنهاية هناك 23 فيلماً متسابقاً (بما فيها فيلم الافتتاح) للفوز بجائزة الأسد الذهبي، وتحتوي على أفلام مثل «الحوت» (The Whale) لدارِن أرونوفسكي (الولايات المتحدة) و«بلوند» (Blonde) لأندرو دومينيك (الولايات المتحدة)، «حياة حب» (Love Life) لكوجي توكادا (اليابان) و«أثينا» لرومان غافراس (فرنسا) و«الابن» لفلوريان زَلر (مخرج «الأب» الذي قام أنطوني هوبكنز ببطولته) كما TÁR لتود فيلد (الولايات المتحدة).
ليس من بين الأفلام الأوكرانية ما هو داخل المسابقة الرسمية لكنَّ فيلمَي باناهي وجليلوند الإيرانيين فيها. النصيب الأوكراني موزع في قسمين، ففيلم «لوكسمبورغ، لوكسمبورغ» معروض في مسابقة «آفاق» التي سيفتتحها فيلم إيطالي عنوانه «أميرة» لروبرتو دي باوليس وتضم 18 فيلماً. أما «الحرية على نار» و«محاكمة كييف» فموجودان خارج المسابقة وهما تسجيليان.
في هذا السياق، فإن الأفلام الرسمية خارج المسابقة تنقسم إلى روائي وتضم عشرة أفلام، من بينها فيلم العودة للمخرج الأميركي وولتر هِل وعنوانه «ميت لأجل دولار» (Dead for a Dollar)، وفيلم جديد لبول شرادر (الذي عرض فيلمه الممتاز «عدّاد ورق اللعب» في دورة هذا المهرجان في السنة الماضية) عنوانه «ماستر غاردنر».
القسم الثاني هو للأفلام غير الروائية ويتضمن تسعة أفلام بينها فيلم المخرج الإيطالي جيانفرانكو روزي In Viggiio.
أيضاً خارج المسابقة مسلسلان سينمائيان من الدنمارك. أحدهما بعنوان «كوبنهاغن دنمارك» لنيكولاس وندينغ رفن ومؤلف من ست حلقات والثاني هو «ذا كينغدوم أكزودوس» للارس فون تراير ومؤلف من خمس حلقات.
- حضور لافت
هناك أسماء عربية قليلة في هذا الجمع الحافل. أفلام هؤلاء هي ليست بالضرورة عربية كون التمويل والإنتاج آتيين من مؤسسات أوروبية.
* الممثل الجزائري الأصل (فرنسي الهوية) رشدي زم يقدم، في المسابقة، فيلمه الجديد «روابطنا» (Our Ties) من بطولته بالاشتراك مع سامي بوعجيلة و(المخرج أساساً) رشيد بوشارب. حكاية التباين بين شقيقين أحدهما ملتزم بوالديه والآخر مبتعد.
* الممثل والمخرج رشيد حامي يقدم فيلمه الجديد «من أجل فرنسا» الذي تقود بطولته لبنى ازابال مع مجموعة من الممثلين العرب والفرنسيين من بينهم كريم لكلو وسليمان دازي وفيفيان سونغ وأوغو Becker. يُعرض الفيلم في عداد الأفلام داخل مسابقة «آفاق».
* في التظاهرة الجديدة «آفاق أكسترا» نجد اسمين لمخرجين عربيين: السورية سؤدد كعدان تقدم فيلماً بعنوان «نزوة» والعراقي أحمد ياسين الدرادجي يعرض فيلمه (الأول) «حدائق معلّقة».
هذا يعني خلو المسابقة وأركان المهرجان من أفلام عربية عضوياً. لا فكرة لدينا إذا ما كانت دول عربية تقدّمت بأفلام منتجة محلياً ورُفضت.
ما يبني عليه المهرجان إعلامياً ليس الأفلام كموضوعات ومسائل مطروحة، بل ما يستطيع جمعه من إنتاجات متوّجة بنجومها. برلين وكان يفعلان ذلك، وفينيسيا أيضاً ولديه هذا العام الكثير من الوجوه المشهورة التي ستتراقص حولها عدسات المصوّرين ويحيط بها الراغبون في المقابلات.
على سبيل المثال، سيتحلق الجميع حول كيت بلانشيت التي تقود بطولة فيلم تود فيلد «تار»، وسيحيطون بالممثلة الشابة آنا دي أرماس، التي تؤدي دور مارلين مونرو في فيلم أندرو دومينيك «بلوند». حتى آدام درايفر وتيمثوي شالامت، وهما ممثلان من درجة ثانية في مفكرة هذا الناقد، لديهما معجبون. الأول بطل «ضجة بيضاء» والثاني يظهر في فيلم لوكا غوادانينو الجديد «بونز والجميع» (Bones and All). كلاهما تسبب في شهرة الآخر عندما التقيا على فيلم غوادانينو السابق «نادني باسمك».
سيحضر كذلك وَليم دافو عن فيلم «ميت لأجل دولار» وكايسي أفلك عن «الحلم بجنون» (Dreamin› Wild) وإذا استطاعت سيغورني ويفر التسلل من عملها في فيلم «أفاتار 3»، الذي يتم تصويره الآن في نيوزيلاند، فستأتي بصحبة جووَل إدغرتون لحضور عرض فيلميهما «ماستر غاردنر» لشراردر الذي، لجانب دارِن أرونوفسكي وأليخاندرو غونزالِز إيناريت (الذي سيقدّم فيلمه المنتظر «باردو») من أهم العاملين اليوم في السينما الأميركية على صعيد فني وبنتائج ممتازة غالباً. وولتر هِل، الذي من بين أفلامه «48 ساعة» و«آخر رجل واقف» و«جيرونيمو» هو أكبر المخرجين المشتركين سنّاً (80 سنة). لم يشارك كثيراً في مهرجانات أوروبية، مما قد يعني أن الفيلم أن استضافته تحية له على مشواره المديد.
- فن وبزنس
يعكس كل ما سبق حال مهرجان بات يتقدّم على ما عداه في مستوى الأفلام التي يختارها وفي مجال تنويع عروضه وكثرة أفلامه كما ضيوفه. وما لا يمكن تحاشيه، مقارنة وضعه الآن، وبعد نجاحاته طوال السنوات العشرين الماضية، بوضع مهرجان «كان» الذي هو صاحب «البرستيج» الأعلى ولو أن هناك أسئلة كثيرة عما إذا كانت برمجته هي الأفضل فعلاً كما يعتقد كثيرون.
هناك حقيقة أن المهرجان الفرنسي تضخم إلى حد تحوّل فيه من مهرجان أفلام إلى سيرك سينمائي شامل. ليس هناك أي شعور بعلاقة ذاتية تربط الحاضرين بطواقم إدارته. كل شيء أقرب إلى تسيير أعمال وفرض الكثير من الشروط والمتطلّبات. الاستيقاظ صباحاً لحضور فيلم فعل لا بأس به، لكن ليس من بعد أن تم نقل أحد عروض المسابقة إلى منتصف الليل والخروج في الثانية صباحاً لأقرب سرير.
الحضور الكثيف للمنتجين والموزّعين ومسؤولي المهرجانات يؤمن لقاءات، لكن الشعور بأن كل شيء في أركان السوق (خلف القصر وأمامه وفي قاعتين داخله) هو تجاري محض وإثبات حضور لاستكمال شروط هيمنة.
صحيح أن بعض البطاقات الصحافية تؤمّن لك - نظرياً - الدخول إلى العروض كافة، لكن إذا قرر المهرجان أن أفلاماً يرغب الناقد في مشاهدتها لن تتاح له فإن لا أحد سيستمع إلى شكواك.
على صعيد آخر، أفلام «كان» هي فرنسية. ما يتم عرضه في المسابقة والكثير خارجها إما من تمويل فرنسي كامل أو جزئي. وهناك انتقاد لهذا الوضع لكن إدارة المهرجان لا تعترف مطلقاً بأن التزامها بتشجيع وترويج كل ما هو فرنسي بات واحداً من أكثر سلبيات المهرجان.
بالمقارنة، يتحرر فينيسيا وبرلين من هذه التبعات. أفلامهما هي أكثر انفتاحاً وبلا شروط. كلاهما يعرضان الكثير من الأفلام التي لا علاقة لها بإيطاليا أو بألمانيا وبسياسة التوزع مما يجعل التنوّع ناجحاَ.
فإذا أضفنا حقيقة أن الأفلام التي يفتتح بها المهرجان الإيطالي هي أكثر أهمية من تلك التي يفتتح مهرجان «كان» دوراته، يصبح الجواب على السؤال حول أسباب النجاح الكبير لمهرجان فينيسيا واضحاً.