حسين الأعظمي: سافرت إلى 85 بلداً و140 مدينة وصرفت 10 سنوات في تأليف كتابي

موسوعة عن أهم المساجد التي بنيت قبل 2020 في ثلاث قارات

مسجد ديان المهري  -  حسين محمود الأعظمي وكتابه
مسجد ديان المهري - حسين محمود الأعظمي وكتابه
TT

حسين الأعظمي: سافرت إلى 85 بلداً و140 مدينة وصرفت 10 سنوات في تأليف كتابي

مسجد ديان المهري  -  حسين محمود الأعظمي وكتابه
مسجد ديان المهري - حسين محمود الأعظمي وكتابه

في مجلد يفوق أربعمائة صفحة من القطع الكبير المربع، صدر الكتاب الموسوعي «الفن الخالد في عمارة المساجد» عن مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، وهو من تأليف وتصوير الفنان العراقي حسين الأعظمي، الذي زار أكثر من مائة مسجد ضمتها دفتا كتابه. والمؤلف خريج معهد الفنون الجميلة في بغداد، كتب عدداً من المسرحيات والسيناريوهات، وكذلك العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإماراتية، وحصل على الجائزة الأولى (جائزة العويس للإبداع) عن «أجمل مساجد العالم» 2016.
هنا حوار معه عن كتابه:
> متى وُلدت عندك فكرة تأليف كتاب «الفن الخالد في عمارة المساجد»؟
- كان مشروع هذا الكتاب حاضراً في وجداني وذهني دائماً، تتوارد أمامي الصُّور والمواقف والأحداث التي عشتها، على مدى عشر سنواتٍ، في رحلاتٍ مكوكيَّة حول العالم؛ إذ لم تظل وسيلة نقلٍ إلا واستخدمتها للوصول إلى هذا المسجد أو ذاك، ورغم الشَّقاء والتعب والسَّفر المنهك والتعامل مع مختلف أنواع الأمزجة البشريَّة واللُّغات، التي حرصت على ألا أشغل القارئ بتفاصيلها؛ لأنَّ الهدف من هذا الكتاب هو التعرف على عمارة تلك المساجد. أقول رغم ذلك كلّه، فإنَّ الحصيلة في نهاية المطاف كانت قطافاً مثمراً، آمل من خلاله أن أرفد المكتبة العربيَّة بمرجعٍ جديدٍ حول هذا الموضوع.
> كيف خطرت لك الفكرة... من حبك للعمارة الإسلامية، أم رغبة في التوثيق لهذه المساجد المميزة؟
- جاءت فكرة تأليف الكتاب بعد أن تراكمت المعارف الكثيرة والمعلومات المتشعبة من خلال الرحلات المكوكية التي كنت أقوم بها لمختلف بلدان العالم، حيث كنت أعمل في مجال إنتاج وإخراج البرامج التلفزيونية التي تتعلق بثقافة الحضارة الإسلامية ومعمارها. إثر ذلك، تكونت لدي وعلى مدار عشر سنوات حصيلة معرفية ثرية حول أصول العمارة الإسلامية في المساجد التي زرتها، وارتأيت منذ ذلك الوقت أن أوثّق ما أراه وأجمع حصيلة مشاهداتي في كتاب موسوعي يؤرخ لمرحلة تاريخية مهمة في فن العمارة الإسلامية، وما فيها من قيم جمالية وفنية ظلت صامدة منذ قرون دون أن يؤثر عليها ظروف الغزو أو عامل الزمن. وقد عبّرت عن شغفي بهذا الفن في الكتاب.
> أمضيتَ في تأليف هذا الكتاب نحو عشرة أعوام، هل قمت بدراسة كل مسجد على حدة، وكيف تم اختيار المساجد... حسب أي منهج؟
- تم اختيار المساجد التي كتبت عنها بعد الاطلاع والتعرف عليها، إما عن طريق الشبكة العنكبوتية أو عن طريق وسائل الإعلام الأخرى أو حتى عن طريق الأصدقاء والمعارف الذين أشاروا عليّ بهذا المسجد أو ذاك، أما عن شروط اختيار المسجد فأهم ما يثيرني هو المعمار وتفرده بغض النظر عن مساحته وتكلفة بنائه؛ لأن التنوع في مدارس الهندسة المعمارية لبناء المساجد كان عاملاً مهماً كي لا أقع في التكرار والملل. ومن الطبيعي أن يقع الاختيار على هذا المسجد أو ذاك لأنني أقوم بدراسته كاملاً ومن جميع النواحي بما في ذلك، استحصال الموافقات الرسمية للتصوير والأشخاص الذين سألتقيهم ممن يتحدثون لي عن عمارة المسجد وتاريخه... إلخ، وكل هذا يحصل قبل شد الرحال إليه؛ كي لا أتكبد مشقة الوصول وتذهب جهودي هباءً.
> أكثر من مائة مسجد يتضمنها كتابك، ما هي القارات التي غطتها هذه المساجد، وهل هناك مساجد لم تتمكن من الوصل إليها أو لم تزرها؟
- تناول هذا الجزء من هذه الموسوعة أهم المساجد التي ظهرت ما قبل عام 2020 في القارات الثلاث (آسيا وأوروبا وقسم من أفريقيا) وبالتأكيد لا يمكن الوصول إلى جميع المساجد في كل هذه القارات الثلاث؛ لأني كما أسلفت سابقاً لي شروطي الفنية في تحديدها، وهي فرادة عمارة المسجد وشكله وموقعه وأهميته.
> لم يغطِ الكتاب المساجد الأخرى في المغرب العربي وشمال أفريقيا، هل في النيّة تأليف كتاب آخر يضّمها؟
- تناولنا في هذا الجزء أهم المساجد في منطقة شمال أفريقيا، مثل تلك التي تقع في مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، بالإضافة إلى مساجد دولة جنوب أفريقيا، وقد بلغ عدد مساجد القارة الأفريقية التي تضمنها هذا الجزء (18) مسجداً، وقَطعاً ستكون لنا عودة مرة أخرى لمساجد هذه البلدان، وكذلك المساجد التي تقع في عموم القارة الأفريقية، خاصة تلك التي تقع في مالي وموريتانيا والسنغال وتنزانيا... إلخ.
> ماذا عن المساجد العراقية؟
- تم تضمين الكتاب أهم المساجد في العاصمة بغداد كمسجد أبو حنيفة ومسجد أم القرى ومسجد أم الطبول، وستكون لنا وقفة مطولة في الأجزاء القادمة من الكتاب للمساجد العراقية الأخرى في مختلف المدن.
> الجمع بين التأليف والتصوير... هل كانت مهمة صعبة أو مكلمة لبعضها؟
- هي صعبة من جهة، ولكنها مثمرة من جهة أخرى، حيث تأتي المعلومة مكملة للصورة والعكس صحيح، وحينما يكون الشخص ذاته من يضع المعلومة ويلتقط الصورة، فيؤدي ذلك إلى نوع من التكامل الذي يصل إلى أوسع مدياته.
> كتابك يجمع بين أدب الرحلة والمتعة البصرية والمعلومات التوثيقية، هل اخترت هذا المنهج في تأليف كتابك؟
- أعتبر الكتاب رحلة لم أتوقف طويلاً عند تصنيفها بل تركت للقارئ والناقد اختيار التصنيف الذي يرتأيه. المهم عندي هو توثيق هذه الرحلات بما يخدم المتلقي إن كان قارئاً للمتعة الأدبية والفنية أو كان معمارياً هندسياً أو حتى مؤرخاً. الكتاب عبارة عن وثيقة تاريخيّة ومادة علميّة، يستفيد منها الباحث والمهندس وطالب الهندسة المعماريّة وفنانو الزّخرفة والخطِّ العربيِّ.
> هل يمكن اعتبار كتابك الأول من نوعه في توثيق المساجد المذكورة وتعريفها للقارئ العربي خاصة النائية منها؟
- هو ليس أول كتاب يرفد المكتبة العربية في هذا المجال ولكن على حد علمي أنه أشمل وأوسع وأول كتاب جمع بين دفتيه هذا العدد الكبير من المساجد على اختلاف مدارسها العمرانية والتاريخية وتنوع المناطق الجغرافية التي انتشرت على رقعتها هذه المساجد.
> ما هي أهم الحوادث والمفارقات التي صادفتها أثناء تأليفك للكتاب، أو بالأحرى ما هي الصعوبات والعراقيل التي واجهتها؟
- حينما تسافر وعلى مدى عشر سنوات متواصلة لأكثر من 85 بلداً ولأكثر من 140 مدينة حول العالم، وتستخدم كافة وسائط النقل من طائرات وسيارات وسفن وحتى دراجات هوائية، وتتعامل مع عشرات الجنسيات وبلغات متعددة، ستواجه، بلا شك، العديد من المفارقات والمواقف المحرجة والصعبة والطريفة ولكنني حرصت على ألا أشغل ذهن القارئ للكتاب بهذه الأمور؛ لأن جل تركيزي انصّب على التناول الفني الهندسي لبناء المساجد وعمارتها.
> هل حاورت الناس الذين كانوا يأمّون هذه المساجد وسألتهم عن رأيهم فيها، وما هي احتياجاتها، وكذلك أئمتها؟
- بالتأكيد، وإلا من أين استقيت المعلومات التي وردت في الكتاب والتي غالبيتها جاءت عن طريق إدارات المساجد من كتيبات ونشرات وأوراق تاريخية ومعلومات شفاهية... إلخ، هذا بالإضافة إلى المعلومات التي يزودني بها أحياناً زائرو تلك المساجد وبالذات كبار السن، حيث يمتلكون ذاكرة قوية وغنية بالمعلومات أثرت مادة الكتاب العلمية.
> لماذا لم يضم كتابك مساجد مكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى؟
- لم أتطرَّق هنا لأي معلوماتٍ، أو صورٍ، تتعلَّق بالأماكن المقدَّسة الثَّلاثة، مكة المكرمة والمسجد النَّبوي الشريف والمسجد الأقصى المبارك؛ لأنها تتجاوز كونها مساجد شُيدت من قِبل أشخاصٍ أو مؤسَّساتٍ، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، أن الأماكن المقدَّسة تتوافر عنها الكثير من المعلومات والصُّور في كلِّ مكانٍ، بطبيعة الحال. سعيتُ لتقديم خريطة متكاملة لفنِّ العمارة الإسلاميّة، على مختلف مراحل تطوّرها، بدءاً من عمارة شبه الجزيرة العربيّة ومن ثمَّ الأمويّة والعباسيّة، مروراً بالمملوكيّة والفاطميّة والعثمانيّة، وانتهاءً بالمدارس المعاصرة لفنِّ العمارة، ولا ننسى كذلك عمارة الموحّدين والمُرابطين في شمال أفريقيا، وحتماً فإنَّ الأجزاء المقبلة من الكتاب ستغطّي المساجد الأُخرى، التي لم يرد ذكرها في هذا الجزء.
> هل كانت لديك خطة في رحلاتك إلى هذه المساجد التي كتبت عنها؟
- سيجد القارئ في هذا الجزء مساجد قارّتي آسيا وأوروبا وجزءاً من القارة الأفريقية، وسنواصل العمل للوصول إلى مساجد القارّات الأُخرى، وقد جاء ترتيب فصول هذا الكتاب بما يشبه المسح الجغرافي المتزامن مع حركة دوران الشَّمس، حيث بدأنا بمساجد أقصى قارّة آسيا، وانتهينا بأقصى قارّة أوروبا، مروراً بجنوب وغرب وشرق آسيا وشبه القارّة الهنديّة ومناطق القوقاز والبلقان وشبه الجزيرة العربيّة والشَّق الأوسط وشمال أفريقيا، ثم واصلنا السّير باتجاه أوروبا حتى بلغنا المنطقة الاسكندنافية، لننهي رحلة الجزء الأول من هذا الكتاب في أقصى الشّمال البريطانيّ.
> هل في النيّة ترجمة كتابك إلى اللغة الإنجليزية ليطلع عليه القرّاء من أنحاء العالم؟
- نعم، هناك خطة لترجمة الكتاب إلى لغات عالمية عديدة من قِبل مركز اللغة العربية في أبوظبي، وهي الجهة التي نشرت هذا الكتاب والتي لولا جهودها الجبارة وحرصها على إظهار هذا الكتاب على أفضل حال لما خرج إلى النور، حيث حرصت إدارته على اختيار أفضل أنواع الورق وأفضل التصاميم الفنية واختارت لطباعته أهم المطابع في الدولة ليظهر بهذا الرونق الذي ظهر به. وهنا أوجه جزيل شكري للدكتور علي بن تميم، رئيس المركز، وسعيد حمدان الطنيجي، المدير التنفيذي، على جهودهما الجبارة لإخراج هذا الكتاب إلى النور.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».