ماكرون يؤكد استمرار الالتزام بأمن أفريقيا

قطعاً، لا تصح المقارنة بين انسحاب القوات الأميركية المتسرع والمهين من أفغانستان وانسحاب قوة «برخان» الفرنسية من مالي، بعد حضور عسكري متواصل دام لتسع سنوات، وكان غرضه مكافحة التنظيمات الإرهابية (المتفرعة عن داعش والقاعدة) بالنظر إلى أن خروج القوة الفرنسية يتم بانتظام وتروٍّ ولا يعني تخليها عن بلدان الساحل وقواعدها العسكرية المنتشرة في القارة الأفريقية.
ومع ذلك، فإن الهم الأول للرئيس إيمانويل ماكرون في جولته الأفريقية التي بدأها من ياوندي، عاصمة الكاميرون، هو طمأنة الأفارقة وتأكيد أن باريس ما زالت ملتزمة بأمنهم واستقرار بلادهم، ولكن بصورة مختلفة عما كانت عليه سابقاً. وفي أول مناسبة توافرت له في العاصمة الكاميرونية بمناسبة المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس بول بيا، ثم لاحقاً في لقائه الجالية الفرنسية الكبيرة في الكاميرون، سارع ماكرون لإيصال رسالته الأساسية مؤكداً أن بلاده «لن تتخلى عن أمن القارة الأفريقية» مضيفاً لاحقاً أنها «ستبقى ملتزمة بأمن القارة من أجل توفير الدعم لشركائنا الأفارقة وبناءً على طلبهم». وبما أن الانسحاب من مالي يثير الكثير من التساؤلات لا بل المخاوف فقد حرص ماكرون على توضيح رؤيته وخطط باريس تنظيمياً وعسكرياً بقوله: «نعيد تنظيم منظومتنا بالانسحاب من مالي لأن الإطار السياسي لم يعد متوفراً (...)، بهدف توسيع جهازنا، خارج منطقة الساحل، إلى خليج غينيا والدول التي يتعين عليها الآن مواجهة مجموعات إرهابية تتمدد وتتسبب باضطرابات للمنطقة كلها». ولا تتوقف الجهود الفرنسية عند بلدان الساحل أو خليج غينيا، بل تشمل وفق الرئيس الفرنسي الدول المطلة على بحيرة تشاد (تشاد، النيجر، نيجيريا والكاميرون) لمساعدتها على محاربة الإرهابيين الذين ينشرون الموت، منذ سنوات عديدة، في أقصى شمال الكاميرون.
هذه الرسائل سيكررها ماكرون في محطاته الأفريقية الثلاث (الكاميرون وبنين وغينيا بيساو) التي يزورها تباعاً وحتى الثامن والعشرين من هذا الشهر في أول جولة له خارج القارة الأفريقية منذ إعادة انتخابه.
وتتخوف باريس من تمدد التنظيمات الإرهابية الناشطة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر فيما يسمى «المثلث الحدودي» بين الدول الثلاث المذكورة إلى دول خليج غينيا. ومن المرتقب أن تنهي قيادة الأركان الفرنسية انسحاب قوة «برخان» من مالي مع نهاية شهر أغسطس (آب) القادم وهي بصدد إعادة نشرها قسماً منها في النيجر حيث تشغل قاعدة جوية في مطار نيامي.
وتوصلت باريس ونيامي إلى اتفاق تقوم بموجبه فرنسا بنشر قوة من عدة مئات من الرجال مع عتادهم في منطقة الحدود المثلثة لمساعدة القوات النيجيرية على مواجهة تغلغل الجهاديين. كذلك ترابط مجموعة من قوات الكوماندوس الفرنسية التي لا يعلن عن أنشطتها في واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو. وتخطط باريس لزيادة حضورها العسكري في بلدان خليج غينيا وبعض بلدان حوض تشاد لمد يد المساعدة للقوات المحلية في حربها. ثمة تحول كبير سيطرأ على الانتشار العسكري الفرنسي في أفريقيا، وقد أشار إليه ماكرون بقوله إن فرنسا مستعدة للاستجابة لما يطلبه شركاؤها الأفارقة ما يعني عملياً أنها لم تعد راغبة في احتلال الصف الأمامي الذي تخليه للقوات المحلية.
وقال ماكرون إن القوات الفرنسية «تتواجد هناك بطريقة حتى أكثر وضوحاً، بناءً على طلب الدول الأفريقية، وهو طلب جلي وصريح، من خلال حضورنا بشكل أكبر في مسألة التدريب العسكري والمعدات وتوفير الدعم للجيوش الأفريقية والبقاء قريبين منها، لمساعدتها في زيادة قدراتها، من خلال ربط جهازنا دائماً بالأمن والدفاع والدبلوماسية والتنمية». وفي نظره، فإن «هذه الثلاثية هي الوحيدة التي تسمح بالاستجابة لحالة الطوارئ الأمنية في مواجهة الإرهاب وبمعالجة الأسباب الجذرية للإرهاب».
وكان ماكرون قد دعا قيادة الأركان الفرنسية لكي تقدم له خطة لإعادة الانتشار تأخذ بعين الاعتبار هذا التوجه الأساسي الذي غرضه احتواء الشعور المعادي لفرنسا والذي ترى فيه باريس بصمات دول منافسة لها في أفريقيا أكانت هذه تسمى روسيا أو تركيا أو الصين... واللافت أن جولته الأفريقية تتزامن مع جولة وزير الخارجية الروسي التي بدأها من القاهرة وتشمل الكونغو وأوغندا وإثيوبيا.
ثمة مسائل كثيرة كانت موضع مناقشات بين ماكرون وبيا وعلى رأسها الأزمة الغذائية المترتبة على الحرب الروسية على أوكرانيا ومبادرة باريس لتشجيع ودعم القطاع الزراعي والدفع باتجاه الاكتفاء الذاتي والتعاون مع القطاع الزراعي الفرنسي والأوروبي وتكذيب الرواية الروسية التي تحمل الأوروبيين والأميركيين مسؤولية الأزمة. ثم إن هناك المسائل الثنائية وحرص باريس على إظهار اهتمامها بالمجتمع المدني الكاميروني ورغبته في تحقيق «مصالحة الذاكرتين» الفرنسية والكاميرونية نظراً للسياسة القمعية التي اتبعتها باريس خلال إدارتها للكاميرون منذ عشرينات القرن الماضي وحتى استقلالها في عام 1960؛ لذا فقد دعا الرئيس الفرنسي المؤرخين من الجانبين بـ«عمل مشترك» هدفه إلقاء «كامل الضوء» على اللحظات المؤلمة المترتبة على الممارسات الفرنسية. ولذلك أعلن ماكرون فتح كامل الأرشيف الفرنسي للاستعانة به من أجل هذه المهمة. واليوم، يحط ماكرون في بنين قبل أن ينهي جولته الخميس في غينيا بيساو.