هل يجوز أن يختلف الناس في تعريف القيَم الإنسانيّة الأساسيّة؟

يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
TT

هل يجوز أن يختلف الناس في تعريف القيَم الإنسانيّة الأساسيّة؟

يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)

أفضى تطوّرُ الأوضاع الثقافيّة في كلّ مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة إلى بناء أنظومة متناسقة متماسكة من القيَم الإنسانيّة الهادية. تأثّر هذا البناءُ بالاختبارات الوجدانيّة واللغويّة السائدة في بيئة كلِّ قوم على حدة. فصاغ الناسُ قيَمهم بالاستناد إلى قدرات التعبير المتوافرة في مخزونهم الثقافي الذاتيّ، وباستخدام المقولات الناشطة في مناقشاتهم ومطارحاتهم ومداولاتهم. فإذا بهم يستحسنون هذه القيمة أو تلك، ويؤثِرونها على غيرها من القيَم. لذلك؛ لا بدّ من التأمّل الهادئ في طبيعة هذه القيَم التي يستلهمها الناسُ في مجتمعاتهم من أجل تدبّر وجودهم، وتنشيط معيّتهم، وتفعيل مشاركتهم في بناء الحضارة الإنسانيّة الكونيّة المتضامنة المتكافلة المتكاملة.
من أخطر الأسئلة التي يطرحها العقلُ الاستفسارُ عن الاختلاف في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية هذه. فهل يجوز لنا أن نفترض التباين الحادّ في القيَم المستخرجة أصلاً من المبادئ الثلاثة الأساسيّة العظمى التي يستند إليها الوجود الإنسانيّ، عنيتُ بها صون الحياة، ورعاية كرامة الإنسان، والائتمار بالعقل؟ ذكرتُ إذاً الحياة والكرامة والعقل. ولكن يمكننا أيضاً أن نذكر قيَماً أخرى أساسيّة أثبتتها شرعة حقوق الإنسان العالميّة، كالحرّيّة والمساواة والأخوّة والعدالة. من المغني أن نضيف أيضاً القيَم التراثيّة التي تعتصم بها بعضُ المجتمعات الإنسانيّة منذ أقدم العصور، كالمروءة والعزّة والشرف والأمانة والصدق والصبر والجود، أو القيَم الدِّينيّة التي رافقت صحوة الوعي الروحيّ، كالتغافر والتناصح والتضامن والتسالم والاستضافة والمجّانيّة والتضحية والإخلاء الذاتي والرجاء.
أعلم أنّ بضعاً من هذه القيَم ينتسب في الوقت عينه إلى مرتبة الفضائل أو يتعلّق في جوهره بانفعالات النفس. غير أنّ الناس يَعدّون الصبرَ قيمة، والجودَ قيمة، والرجاء قيمة. في جميع الأحوال، تنبسط أمامنا ضمّة من المعاني الإنسانيّة السامية التي ينادي بها الناسُ في جميع المجتمعات، ولكنّهم يحمّلونها من المضامين التعريفيّة والمحتويات التفصيليّة والمنطويات التطبيقيّة ما يجعلها تتحوّل إلى قضايا إشكاليّة خلافيّة. يعنيني في هذا المقام أن أستجلي ثلاثة ضروب من الإشكال الحضاريّ.
يرتبط الإشكال الحضاري الأوّل بمسألة ترتيب مقام الصدارة بين القيَم. شهيرة العبارة اللاتينيّة التي كانت منتشرة في القرون الوسطى تَعدِل بين قيَم الواحد والحقّ والصلاح (unum verum et bonum convertuntur). ذلك بأنّ فلاسفة القرون الوسطى كانوا يَعدّون الحقّ واحداً، والصلاح واحداً، والواحدَ حقّاً وصلاحاً. لا شكّ في أنّ التصوّر المِتافيزيائي هذا يصون وحدة العمارة الفكريّة ويرعى سلامة المنطق الفكريّ. غير أنّه يختزل الأمور اختزالاً خطيراً، ويُبطل تنوّع التجلّيات التي تستثيرها هذه القيَم في تضاعيف التاريخ. ومع أنّ الفلاسفة الإغريق الأقدمين كانوا يُصرّون على الوحدة العضويّة الناشطة بين قيَم الحقّ والخير والجمال، وينسبون إلى الصلاح الإلهي المطلق (agathon) الصدارة العظمى والقدرة التأصيليّة المبدئيّة، إلّا أنّ اختبارات الشعوب الثقافيّة ما برحت تناقض التصوّر التناغمي هذا. فهل يكون الصلاح قيمة القيَم؟ أم الحقّ؟ أم الجمال؟ أم الواحد الذي منه تنبثق الكثرة التاريخيّة؟ إذا أجمع قومٌ من الأقوام على منح الجمال مقامَ الصدارة، فهل نقبل بإخضاع الحقّ والصلاح لمقتضيات قيمة الجمال؟ والجمال، ما هو؟ أفيكون في الشكل أم في المضمون؟ هل يتجلّى في الحسّيّات والماديات والجسديّات؟ أم في الذهنيّات والنفسيّات والمعنويّات والروحيّات؟
يقودنا هذا الاستفسار إلى الإشكال الحضاري الثاني الذي ينشأ من التعارض بين القيَم الإنسانيّة في المجتمع الواحد والثقافة الواحدة. ذلك بأنّ كلّ فرد من أفراد المجتمع الواحد يتنازعه ضربان من الأمانة: الأمانة على قيَم المجتمع السائدة، والأمانة على قيَمه الذاتيّة أو الخلاصات الاقتناعيّة التي استصفاها من قيَم مجتمعه. فالمعلّم يستهدي بقيمة الإنارة المعرفيّة وقيمة الإنصاف بين تلاميذه. والممرّضة تستنير بقيمة الصحّة الجسديّة والنفسيّة وقيمة الانتعاش الكياني في حياة المريض. أمّا مدير المؤسّسة الإنتاجيّة، فيسترشد بقيَم الفعّاليّة والإتقانيّة والتنافسيّة، في حين أنّ المسؤول السياسي يعتصم بقيَم الحنكة والدهاء والحكمة التدبيريّة التي تصون مصلحة الدولة العليا وتؤازره في استدامة ولايته السياسيّة. قد ينشأ أيضاً تعارض حادٌّ بين قيَم الحرّيّة الفرديّة، وقيَم الواجب الوطني والانضباط المسلكي في الفضاء العموميّ. غالباً ما تتفاقم خطورة التعارض بين القيَم في حقل أخلاقيّات الحياة؛ إذ يرتبك الناس في الاختيار بين حلولٍ طبية لا تستطيع أن تشفي كلّ أسقام المريض الجسديّة والعقليّة والنفسيّة والروحيّة. من الواضح أنّ قيَم الاقتناع الذاتي غيرُ قيَم المسؤوليّة العامّة، وأنّ تنوّع المقامات الوجوديّة يستتلي تعارضاً بين القيَم المطلوبة.
أمّا الإشكال الحضاري الثالث، فينجم عن التعارض الأخطر بين القيَم التي تستند إليها الشعوبُ في تقرير مصيرها، وهداية وجودها، وتدبير حياتها. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تحترم حرّيّة الإنسان. غير أنّ بعض المجتمعات تُخضِع الحرّيّة الفرديّة لقيَم التراث المنعقدة على صون العزّة القوميّة، وتعزيز التضامن الاجتماعيّ، والحفاظ على روح التراث الجماعيّ. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تؤيّد قيمة المساواة. بيد أنّ بعض الثقافات ما انفكّت تسوّغ الاختلاف الأونطولوجي الطبيعي الشرعي القانوني الحقوقي بين الرجل والمرأة، بين السلالة الحاكمة والشعب المحكوم، بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، بين المؤمن وغير المؤمن، بين الإكليرُس الكهنوتي الإفتائي من حاملي شعلة الألوهة المقدّسين وطبقة الناس العَلمانيين العاديين، بين الإنسان السليم الجسد والإنسان المعوّق، بين المعترفين بالاختلاف الجنسي والمقرّين بالمثليّة الجنسيّة.
وعلاوة على الاختلافات الخطيرة هذه بين تصوّرات القيَم في الحضارات الإنسانيّة المتنوّعة، تنشط ضروبٌ أخرى من التباينات تصيب جوهر المعنى الإنساني بحدّ ذاته. ذلك بأنّ الناس لا يُجمعون كلُّهم على تعريفٍ واحدٍ يتناولون به حقيقة الإنسان. من صلب الاختلاف الأنثروبولوجي هذا ينبثق التباينُ في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية. فهل يكون الإنسانُ كائناً بيولوجيّاً يقتصر بنيانُ وعيه على تفاعل الخلايا العصبيّة في دماغه؟ أم يكون كائناً روحيّاً يتجاوز مجرّد النشاط الذهني ليتصوّر الحياة تصوّراً يجعله ينتسب إلى عالم غيبي خالدٍ يدخل فيه من بعد أن يكدح كدحه ويحجّ حجّه على هذه الفانية؟
خلاصة القول في هذا كلّه، أنّ المجتمعات الإنسانيّة لا يمكنها الاكتفاء بمجرّد الإجماع اللفظي على ضمّة من القيَم الإنسانيّة المنسلخة عن محاضنها الثقافيّة، وحقولها الوجدانيّة، وبيئاتها الاختباريّة، ومكتنفاتها التاريخيّة. يجب علينا أن ندرك اليوم أنّ جميع الثقافات لا ترضى بما سنَّه الشاطبي في كتاب «الموافقات» حين رسم أنّ ملَل الأرض اتفقت على ضروريّات الشريعة الخمس: الدِّين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. يعلم الجميع أنّ الحضارة الغربيّة لا تضع الدِّين في مقام الضروريّات الوجوديّة المطلقة. وبعضهم يعتقد أنّها كفّت عن أن تضع النسل في مقام الصدارة؛ إذ إنّ حياة الإنسان الغربي لا تتحقّق بنسله، بل بفعل كيانه الذاتي وإنجازه الشخصيّ.
أقول هذا لأبيّن أنّ شرط الشروط في تسالم الحضارات الإقبالُ الرصينُ على البحث في مضامين القيَم التي تُجمع عليها، من غير أن تجرؤ فتنظر في التباينات الإدراكيّة الخطيرة التي تجعل الوفاق عسيراً في معترك التضامن الإنساني الكونيّ. يطيب لي أن أستحضر في هذا المقام ما استخرجه الفيلسوفُ اللبناني رُنِه حبشي (1915 - 2003) من جليل المقارنة بين القيَم التوحيديّة الثلاث؛ إذ نسب إلى اليهوديّة قيمة الاستضافة، وإلى المسيحيّة قيمة المجّانيّة، وإلى الإسلام قيمة التسامح، ودعا الجميع إلى بناء أنظومة أخلاقيّة متوسّطيّة تضمّ تراثات البحر الأبيض المتوسّط في مؤتلفٍ روحي يعزّز التكامليّة الروحيّة بين هذه القيَم.
أعتقد أنّ مثل هذه الاجتهادات تساعدنا في استصفاء الجواهر الأخلاقيّة التي تزخر بها الحضارات الإنسانيّة. غير أنّها لا تُعفينا من مسؤوليّة النظر الحصيف في رسم الحدود الفاصلة بين الغنى التأويلي والإفراغ التعطيليّ. أعني بذلك أنّ قيمة الحرّيّة، على سبيل المثال، تغتني بتأويلات الحضارات الإنسانيّة واختبارات شعوبها. غير أنّها توشك أن تفقد قوامَها التطلّبي ومضمونَها الاستنهاضي إذا ما أصرّت بعضُ المجتمعات على إفراغها من أصالة منطوياتها اللصيقة بجوهرها. ومن ثمّ، ليس لنا أن نخشى الاختلاف في فهم القيَم الإنسانيّة، ولكن يجب علينا أن نصون طاقة الارتقاء في هذه القيَم؛ إذ إنّ كلّ ما يرتقي في مختبر الوجود الإنساني يعود فيلتقي في قمم الكمال المنشود.

- مفكر لبناني



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.