أفضى تطوّرُ الأوضاع الثقافيّة في كلّ مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة إلى بناء أنظومة متناسقة متماسكة من القيَم الإنسانيّة الهادية. تأثّر هذا البناءُ بالاختبارات الوجدانيّة واللغويّة السائدة في بيئة كلِّ قوم على حدة. فصاغ الناسُ قيَمهم بالاستناد إلى قدرات التعبير المتوافرة في مخزونهم الثقافي الذاتيّ، وباستخدام المقولات الناشطة في مناقشاتهم ومطارحاتهم ومداولاتهم. فإذا بهم يستحسنون هذه القيمة أو تلك، ويؤثِرونها على غيرها من القيَم. لذلك؛ لا بدّ من التأمّل الهادئ في طبيعة هذه القيَم التي يستلهمها الناسُ في مجتمعاتهم من أجل تدبّر وجودهم، وتنشيط معيّتهم، وتفعيل مشاركتهم في بناء الحضارة الإنسانيّة الكونيّة المتضامنة المتكافلة المتكاملة.
من أخطر الأسئلة التي يطرحها العقلُ الاستفسارُ عن الاختلاف في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية هذه. فهل يجوز لنا أن نفترض التباين الحادّ في القيَم المستخرجة أصلاً من المبادئ الثلاثة الأساسيّة العظمى التي يستند إليها الوجود الإنسانيّ، عنيتُ بها صون الحياة، ورعاية كرامة الإنسان، والائتمار بالعقل؟ ذكرتُ إذاً الحياة والكرامة والعقل. ولكن يمكننا أيضاً أن نذكر قيَماً أخرى أساسيّة أثبتتها شرعة حقوق الإنسان العالميّة، كالحرّيّة والمساواة والأخوّة والعدالة. من المغني أن نضيف أيضاً القيَم التراثيّة التي تعتصم بها بعضُ المجتمعات الإنسانيّة منذ أقدم العصور، كالمروءة والعزّة والشرف والأمانة والصدق والصبر والجود، أو القيَم الدِّينيّة التي رافقت صحوة الوعي الروحيّ، كالتغافر والتناصح والتضامن والتسالم والاستضافة والمجّانيّة والتضحية والإخلاء الذاتي والرجاء.
أعلم أنّ بضعاً من هذه القيَم ينتسب في الوقت عينه إلى مرتبة الفضائل أو يتعلّق في جوهره بانفعالات النفس. غير أنّ الناس يَعدّون الصبرَ قيمة، والجودَ قيمة، والرجاء قيمة. في جميع الأحوال، تنبسط أمامنا ضمّة من المعاني الإنسانيّة السامية التي ينادي بها الناسُ في جميع المجتمعات، ولكنّهم يحمّلونها من المضامين التعريفيّة والمحتويات التفصيليّة والمنطويات التطبيقيّة ما يجعلها تتحوّل إلى قضايا إشكاليّة خلافيّة. يعنيني في هذا المقام أن أستجلي ثلاثة ضروب من الإشكال الحضاريّ.
يرتبط الإشكال الحضاري الأوّل بمسألة ترتيب مقام الصدارة بين القيَم. شهيرة العبارة اللاتينيّة التي كانت منتشرة في القرون الوسطى تَعدِل بين قيَم الواحد والحقّ والصلاح (unum verum et bonum convertuntur). ذلك بأنّ فلاسفة القرون الوسطى كانوا يَعدّون الحقّ واحداً، والصلاح واحداً، والواحدَ حقّاً وصلاحاً. لا شكّ في أنّ التصوّر المِتافيزيائي هذا يصون وحدة العمارة الفكريّة ويرعى سلامة المنطق الفكريّ. غير أنّه يختزل الأمور اختزالاً خطيراً، ويُبطل تنوّع التجلّيات التي تستثيرها هذه القيَم في تضاعيف التاريخ. ومع أنّ الفلاسفة الإغريق الأقدمين كانوا يُصرّون على الوحدة العضويّة الناشطة بين قيَم الحقّ والخير والجمال، وينسبون إلى الصلاح الإلهي المطلق (agathon) الصدارة العظمى والقدرة التأصيليّة المبدئيّة، إلّا أنّ اختبارات الشعوب الثقافيّة ما برحت تناقض التصوّر التناغمي هذا. فهل يكون الصلاح قيمة القيَم؟ أم الحقّ؟ أم الجمال؟ أم الواحد الذي منه تنبثق الكثرة التاريخيّة؟ إذا أجمع قومٌ من الأقوام على منح الجمال مقامَ الصدارة، فهل نقبل بإخضاع الحقّ والصلاح لمقتضيات قيمة الجمال؟ والجمال، ما هو؟ أفيكون في الشكل أم في المضمون؟ هل يتجلّى في الحسّيّات والماديات والجسديّات؟ أم في الذهنيّات والنفسيّات والمعنويّات والروحيّات؟
يقودنا هذا الاستفسار إلى الإشكال الحضاري الثاني الذي ينشأ من التعارض بين القيَم الإنسانيّة في المجتمع الواحد والثقافة الواحدة. ذلك بأنّ كلّ فرد من أفراد المجتمع الواحد يتنازعه ضربان من الأمانة: الأمانة على قيَم المجتمع السائدة، والأمانة على قيَمه الذاتيّة أو الخلاصات الاقتناعيّة التي استصفاها من قيَم مجتمعه. فالمعلّم يستهدي بقيمة الإنارة المعرفيّة وقيمة الإنصاف بين تلاميذه. والممرّضة تستنير بقيمة الصحّة الجسديّة والنفسيّة وقيمة الانتعاش الكياني في حياة المريض. أمّا مدير المؤسّسة الإنتاجيّة، فيسترشد بقيَم الفعّاليّة والإتقانيّة والتنافسيّة، في حين أنّ المسؤول السياسي يعتصم بقيَم الحنكة والدهاء والحكمة التدبيريّة التي تصون مصلحة الدولة العليا وتؤازره في استدامة ولايته السياسيّة. قد ينشأ أيضاً تعارض حادٌّ بين قيَم الحرّيّة الفرديّة، وقيَم الواجب الوطني والانضباط المسلكي في الفضاء العموميّ. غالباً ما تتفاقم خطورة التعارض بين القيَم في حقل أخلاقيّات الحياة؛ إذ يرتبك الناس في الاختيار بين حلولٍ طبية لا تستطيع أن تشفي كلّ أسقام المريض الجسديّة والعقليّة والنفسيّة والروحيّة. من الواضح أنّ قيَم الاقتناع الذاتي غيرُ قيَم المسؤوليّة العامّة، وأنّ تنوّع المقامات الوجوديّة يستتلي تعارضاً بين القيَم المطلوبة.
أمّا الإشكال الحضاري الثالث، فينجم عن التعارض الأخطر بين القيَم التي تستند إليها الشعوبُ في تقرير مصيرها، وهداية وجودها، وتدبير حياتها. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تحترم حرّيّة الإنسان. غير أنّ بعض المجتمعات تُخضِع الحرّيّة الفرديّة لقيَم التراث المنعقدة على صون العزّة القوميّة، وتعزيز التضامن الاجتماعيّ، والحفاظ على روح التراث الجماعيّ. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تؤيّد قيمة المساواة. بيد أنّ بعض الثقافات ما انفكّت تسوّغ الاختلاف الأونطولوجي الطبيعي الشرعي القانوني الحقوقي بين الرجل والمرأة، بين السلالة الحاكمة والشعب المحكوم، بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، بين المؤمن وغير المؤمن، بين الإكليرُس الكهنوتي الإفتائي من حاملي شعلة الألوهة المقدّسين وطبقة الناس العَلمانيين العاديين، بين الإنسان السليم الجسد والإنسان المعوّق، بين المعترفين بالاختلاف الجنسي والمقرّين بالمثليّة الجنسيّة.
وعلاوة على الاختلافات الخطيرة هذه بين تصوّرات القيَم في الحضارات الإنسانيّة المتنوّعة، تنشط ضروبٌ أخرى من التباينات تصيب جوهر المعنى الإنساني بحدّ ذاته. ذلك بأنّ الناس لا يُجمعون كلُّهم على تعريفٍ واحدٍ يتناولون به حقيقة الإنسان. من صلب الاختلاف الأنثروبولوجي هذا ينبثق التباينُ في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية. فهل يكون الإنسانُ كائناً بيولوجيّاً يقتصر بنيانُ وعيه على تفاعل الخلايا العصبيّة في دماغه؟ أم يكون كائناً روحيّاً يتجاوز مجرّد النشاط الذهني ليتصوّر الحياة تصوّراً يجعله ينتسب إلى عالم غيبي خالدٍ يدخل فيه من بعد أن يكدح كدحه ويحجّ حجّه على هذه الفانية؟
خلاصة القول في هذا كلّه، أنّ المجتمعات الإنسانيّة لا يمكنها الاكتفاء بمجرّد الإجماع اللفظي على ضمّة من القيَم الإنسانيّة المنسلخة عن محاضنها الثقافيّة، وحقولها الوجدانيّة، وبيئاتها الاختباريّة، ومكتنفاتها التاريخيّة. يجب علينا أن ندرك اليوم أنّ جميع الثقافات لا ترضى بما سنَّه الشاطبي في كتاب «الموافقات» حين رسم أنّ ملَل الأرض اتفقت على ضروريّات الشريعة الخمس: الدِّين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. يعلم الجميع أنّ الحضارة الغربيّة لا تضع الدِّين في مقام الضروريّات الوجوديّة المطلقة. وبعضهم يعتقد أنّها كفّت عن أن تضع النسل في مقام الصدارة؛ إذ إنّ حياة الإنسان الغربي لا تتحقّق بنسله، بل بفعل كيانه الذاتي وإنجازه الشخصيّ.
أقول هذا لأبيّن أنّ شرط الشروط في تسالم الحضارات الإقبالُ الرصينُ على البحث في مضامين القيَم التي تُجمع عليها، من غير أن تجرؤ فتنظر في التباينات الإدراكيّة الخطيرة التي تجعل الوفاق عسيراً في معترك التضامن الإنساني الكونيّ. يطيب لي أن أستحضر في هذا المقام ما استخرجه الفيلسوفُ اللبناني رُنِه حبشي (1915 - 2003) من جليل المقارنة بين القيَم التوحيديّة الثلاث؛ إذ نسب إلى اليهوديّة قيمة الاستضافة، وإلى المسيحيّة قيمة المجّانيّة، وإلى الإسلام قيمة التسامح، ودعا الجميع إلى بناء أنظومة أخلاقيّة متوسّطيّة تضمّ تراثات البحر الأبيض المتوسّط في مؤتلفٍ روحي يعزّز التكامليّة الروحيّة بين هذه القيَم.
أعتقد أنّ مثل هذه الاجتهادات تساعدنا في استصفاء الجواهر الأخلاقيّة التي تزخر بها الحضارات الإنسانيّة. غير أنّها لا تُعفينا من مسؤوليّة النظر الحصيف في رسم الحدود الفاصلة بين الغنى التأويلي والإفراغ التعطيليّ. أعني بذلك أنّ قيمة الحرّيّة، على سبيل المثال، تغتني بتأويلات الحضارات الإنسانيّة واختبارات شعوبها. غير أنّها توشك أن تفقد قوامَها التطلّبي ومضمونَها الاستنهاضي إذا ما أصرّت بعضُ المجتمعات على إفراغها من أصالة منطوياتها اللصيقة بجوهرها. ومن ثمّ، ليس لنا أن نخشى الاختلاف في فهم القيَم الإنسانيّة، ولكن يجب علينا أن نصون طاقة الارتقاء في هذه القيَم؛ إذ إنّ كلّ ما يرتقي في مختبر الوجود الإنساني يعود فيلتقي في قمم الكمال المنشود.
- مفكر لبناني