كَونٌ... هو من أثير... كل الزمان حاضرٌ فيه... ولكنه زمان لا حاضرَ فيه!
كل ملموس مشاهَد فيه هو أثيرٌ مختزَنٌ في أثير... مختزنٌ لمن يملك حل شفرته والولوج إلى داخله.
كي لا تظن أني أبالغ وقبل أن تبلغ الحيرة مبلغها... ما قلناه أنت تعايشه وتتفاعل معه بل تتحكم في بعضه... نعم تتحكم في بعضه!
كم مرة شاهدنا صوراً ضوئية لبلادنا وساكنيها منذ مائة عام أو يزيد؟!
كم مرة شاهدنا أفلام الريحاني والكسار ووثائقيات الحقبة الملكية المصرية وخطب جمال عبد الناصر ومن سبقه ومن لحقه؟ ومن الفن والإرث العالمي كم مرة شاهدنا موسوليني وهتلر وستالين وشاهدنا تنصيب الملكة إليزابيث واغتيال كينيدي ومعارك الحربين العالميتين تدور رحاها... وكلاسيكيات السينما العالمية؟!
ولكن، كم مرة أيقنّا أن ما نشاهده هو اختزان حقيقي لشريحة أو شرائح من زمن ماضٍ كأننا قبضنا على أثير تلك اللحظة من التاريخ بأيدينا لنختزنها في صندوق سحري؟
صندوق تتغير طبيعيته ليكون مرة من ورق أصله من لحاء الشجر، ومرة من بلورات ذاكرة موجودة على هاتفك المحمول أو حاسوبك... بلورات أصلها من رمال.
فكأننا اخترقنا أثير الحياة بالمادة لنختزنها ونستعيدها على عناصر من ذات الحياة نظنها مادة...
ولكن ما رأيكم أننا اخترقنا الأثير بالأثير... لنختزنه ونستعيده على الأثير!
ليس في هذا الكلام أي سفسطة... لأنه محض علم.
أظن أن أي عاقل منّا لديه حد أدنى من المعرفة والاطلاع لن يماري إن قلنا إن المادة تتألف من جسيمات دقيقة هي الذرات وما دون الذرات من جسيمات متناهية الدقة... وأظن أن أيَّ مَن سمع عن ألبرت أينشتاين أو ماكس بلانك أو إروين شرودينغر أو نيلز بوهر، سيكون بالضرورة قد عرف أن حقيقة تلك الجسيمات المتناهية الدقة هي أطياف من طاقة موجية... أي أنها أطياف من أثير.
وأن «كتلة» كل ما نلمسه حولنا ليست إلا انفعال طاقة الجسيمات وفقاً لنظرية بيتر هيغز باسم «هيغز بوزون»، التي تتابع تأكيدها منذ عام 2012.
هل ذلك يعني أننا نستطيع أن نقول إن كل المشاهد حولنا هي واقع أثيري... وإن لمسناه بأيدينا ووطئناه بأقدامنا وتذوقناه وشممناه؟ الإجابة، بالعلم، نعم!
هل يعني هذا أننا كأننا نحيا في واقع كأنه من ذات حال أفلام السينما التي شاهدناها ولكنه يجري في واقع ثلاثي الأبعاد نحن شاشته وديكوره وممثلوه... نشاهد الفيلم ونحن نعايشه ونقوم بأدوارنا فيه...؟ بحديث العلم الإجابة بالقطع نعم!
وسيقول قائل: إذن لا وجه لمقارنة طبيعة حياتنا المادية بتلك الحالة الأثيرية للفيلم السينمائي، التي لا تواصل ولا تتمام بينها، فكل منها شريحة -في «آنٍ» ما من الزمن- قائمة بذاتها منفصلة عمّا بعدها وما قبلها كما نراها بأعيننا على الشريط.
فكل لقطة أو كادر هو صورة صماء ثابتة لا حياة فيها، وما يعطينا ذلك الشعور الواهم بأننا نرى هؤلاء أحياء أمامنا على الشاشات هو تتابُع... كما أننا نستطيع أن نتحرك في زمن الفيلم بين ماضٍ وحاضر ومستقبل للأحداث فيه... وبأي سرعة شئنا.
ما رأيكم أن كل من تحدث عن حقيقة الوقت أو الزمن من ألبرت أينشتاين حتى براين غرين، يقطع بأن الزمن ليس نهراً مسترسلاً في اتجاه واحد من ماضٍ إلى مستقبل بسرعة سريان ثابتة... ولكنهم قطعوا بأن الوقت كأنه شرائح متتالية في نسيج كوني من المكان والزمان اسمه «الزمكان»!
قال العلم بهذا منذ مائة عام... وقالت به الفلسفة منذ ألف عام أو يزيد!
في بدايات القرن الرابع الهجري تنشأ الأشعرية -مدرسة فقهية سنية- لتعطي للعقل ولايته الواجبة في فهم النصوص الدينية، ولتحقق توازناً توجّب بين جمود الانقياد لظاهر ألفاظ النصوص وبين الشطط في تأويل معانيها... ولأن العقل معهم صار حراً يروم مبتغاه في فهم كنه الحياة... نجد أن هؤلاء الفلاسفة المسلمين الأُوَل يتحدثون بفكرة «الخلق المستمر»... ويسبرون بها أعماقاً غير مسبوقة.
فبعد أن يقرروا بوضوح قاطع الطبيعة الذرية للمادة بأن قالوا إن «الأجسام مؤلفة ومحدودة، تنقسم، وهذا الانقسام لا بد أن يتناهى، وحتى تصير بانقسامها أجزاء صغيرة جداً لا تنقسم لدقتها، وتلك الأجزاء التي لا تتجزأ هي الجواهر الفردة وباجتماعها يتألف الجسم ذو الكم». وإنْ يسمون الذرة «الجوهر الفرد» فهم يقدمون للعالم -فلسفة قبل العلم التجريبي- حقيقة التكوين الذري للمادة!
بل يتحدثون عن طبيعة «الزمن» المؤلَّف من أزمنة كثيرة يطلقون عليها «الآنات» جمع «آن»... و«الآن» هو أدق جزء من أجزاء الزمن ولا يقبل القسمة لقِصر مدته.
وينصرفون بعد ذلك لشرح حقيقة المشاهد من العالم المادي والحياة حولنا، فيسمون كل ما نراه ونلمسه بأنه عَرَض لكل جوهر (أي ظاهر لكل جوهر) فيقولون: «تحمل الجواهر الفردة معاني زائدة عليها لا تنفك عنها تسمى الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين -آي آنين- فالله عز وجل يخلق الجوهر، ويخلق فيه أي عرض شاء معاً دفعة واحدة وعندما يخلق ذلك العرض يَفنى ويتلاشى، فيخلق الله عرضاً آخر من نوعه، فيَفنى ذلك العرض ويتلاشى، فيخلق الله عَرضاً ثالثاً، وهكذا دائماً، طالما الله تعالى أراد لذلك العَرَض بقاءً».
فالأعراض أي كل ظاهر في الحياة... الكون وأجرامه وكل مخلوقاته وإنسانه ذلك الجرم الصغير، نباته وحيوانه وجماده... تُخلَق وتفنى في كل آن... كما قال فلاسفة الأشاعرة!
ألا يذكّرنا ذلك وكأنما كل لحظة خلق أو «آن» خلق كأنها لقطة أو كادر جديد في ذلك الفيلم المستمر الذي اسمه الحياة؟!
أيُّ قدرةٍ تلك التي قادت عقل هؤلاء الفلاسفة المتكلمة لأن يهتدوا بعقولهم المجردة إلى حقائق علمية تثبت تباعاً بعد زمانهم بألف سنة؟!
إنها ذات القدرة التي جعلت من شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي يتحدث عن «الانتقال الآني» للمادة والطاقة والأجسام -ما نعرفه الآن بظاهرة teleportation- قبل قرابة ثمانمائة سنة في كتابه «الفتوحات المكية».
حين فسّر ابن عربي آية انتقال عرش بلقيس إلى نبي الله سليمان «قَالَ الذِي عِندَهُ عِلْمٌ منَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَد إِلَيْكَ طَرْفُكَ» بأن آصف بن برخيا، جليس سليمان -الذي كان بسلطان العلم أعلى وأقدر من الجان صاحب سلطان القوة- قد نقل العرش بالانتقال الآنيّ كأنه التقطه بين لحظتَي الخلق والعدم لينقله، أو كأنه ينقل كنهه وهويته كما نتناقل نحن البيانات والمعلومات الأثيرية بين أطراف أناملنا على شاشات الهواتف والحواسيب... و«الانتقال الآنيّ» علم يَجري البحث فيه وتتحقق على جادته نتائج مؤكدة.
إنها قدرة العقل المتحرر الذي لا يكون الإنسان إنساناً بغيره... قدرة العقل التي ما جاء الوحي ليصادرها أو يحجبها أو يقمعها بل ليطلقها ويستحثها ويستنطقها بما، وإن بدا شططاً، بقي في حقيقته كل الرزانة والعلم وثبات الإيمان.
إنها قدرة الخيال وغناه وطلاقته... «بلاغة الخيال» حين يغدو فلسفة هي قطر من حكمة... و«براعة الخيال» حين يغدو علماً تجريبياً مقاساً.
إنها «قوة الفكرة» التي من دونها لا تحمل «فكرة القوة» أي معنى أو قيمة...!
فَكرُوا تَصحُوا...
- كاتب ومفكر مصري