مصر... ولادة فكرة الأمة

باحث أكاديمي يرى أن ثورة 1919 شكلت حدثاً فارقاً

يتناول المؤلف ثورة 1919كحدث فارق أو لحظة تحول حاسمة في بناء شرعية الدولة المصرية الحديثة (أ.ب)
يتناول المؤلف ثورة 1919كحدث فارق أو لحظة تحول حاسمة في بناء شرعية الدولة المصرية الحديثة (أ.ب)
TT

مصر... ولادة فكرة الأمة

يتناول المؤلف ثورة 1919كحدث فارق أو لحظة تحول حاسمة في بناء شرعية الدولة المصرية الحديثة (أ.ب)
يتناول المؤلف ثورة 1919كحدث فارق أو لحظة تحول حاسمة في بناء شرعية الدولة المصرية الحديثة (أ.ب)

يسعى الدكتور شريف يونس في كتابه «ثورة 1919 نشأة وتبلور الوطنية المصرية» الصادر حديثاً عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» إلى إبراز فكرة أساسية وهي تتبع صعود الوطنية المصرية وحلولها محل الانتماء العثماني السابق لمصر.
يقع الكتاب في 120 صفحة من القطع الكبير، ويضم خمسة فصول، أولها «مصر بين العثمانيين والإنجليز» والثاني «الحركة الوطنية بين المعتدلين والمتشددين»، والثالث يدور حول «سؤال الهوية بين القومية والعالمية»، أما الرابع فيتركز حول «الثورة بين المواجهة والتفاوض»، ثم يأتي الفصل الخامس ليتحدث عن «المفاوضات بين سعد وعدلي».
أولاً، يتناول المؤلف ثورة 1919 كحدث فارق أو لحظة تحول حاسمة في بناء شرعية الدولة المصرية الحديثة في «سياق توترات ملحوظة استمرت على مدى قرن من الزمان» وهو يدرس هذه التوترات المتعلقة بوضع مصر الدولي وطبيعة الصراعات الداخلية حول الهوية والشرعية، والخلاف العميق بين وجهتي النظر البريطانية والمصرية، وكيف تبلورت في سياق الحرب العالمية الأولى. ثم يتناول بالتحليل، في ضوء كل هذا، أحداث الثورة الأساسية، وصراعات السياسيين المصريين حول المسار المناسب أو الواجب لتحقيق الأماني الوطنية، منذ تشكيل الوفد في أواخر عام 1918 حتى تصريح 28 فبراير (شباط) 1922 حول الاعتراف باستقلال مصر مع تحفظات أساسية، وإقامة المملكة المصرية. بالإضافة إلى هذه القضايا الأساسية، يتحدث يونس عن الظروف التي أحاطت آنذاك بسياسات كل من الحركة الوطنية المصرية بتياراتها المختلفة والإدارة الاستعمارية البريطانية بخلافاتها الداخلية، سواء قبل ثورة 1919 أو بعدها، في محاولة منه لدراسة هذه الظروف موضوعياً، بعيداً عن اختزال الصراع إلى صراع صفري بين قيم خير وشر مطلقين، دون أن يعني ذلك الحياد بين المستعمِر والبلد الساعي إلى التحرر والاستقلال.
ويشير يونس إلى أنه «إذا كان ثمة حدث بارز نستطيع أن نقول إنه منح مصر الحديثة شرعيتها كدولة وطنية منسوبة إلى شعبها باعتباره صاحب السيادة عليها ومصدر شرعية حكومتها، فإن هذا الحدث هو ثورة 1919». وقد كانت هذه «الفكرة الوطنية»، بنت تطورات جوهرية طالت المجتمع المصري وبنية الحكم فيه، وتراكمت بالتدريج منذ عهد محمد علي.

ويقيم المؤلف هذه الثورة في سياق تطور تاريخ مصر السياسي الحديث، رافضاً تجزئته إلى عهود مختلفة، وإصدار أحكام على كل عهد بشكل منفصل، فهو يرى أن تاريخ مصر الحديث هو وحدة تراكمية من التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وليس من الصحيح دراسته كمجموعة من العهود والقوى المعزولة عن بعضها البعض التي تدور بين أنصارها العديد من الصراعات الآيديولوجية التي لا تراعي الحد الأدنى من الاتساق. إن تاريخ مصر هو تاريخ تراكمي، يبني فيه كل عهد على ما سبقه بالضرورة، لأنه يرثه بمنشآته ومؤسساته وقواه وأفكاره، وطموحاته وآماله وما يفرزه من قوى نبتت في أحشاء القديم.
من هذا المنظور يبدأ يونس «القصة» عن نشأة وتبلور الوطنية المصرية؛ مشيراً إلى أن نابليون بونابرت كان أول من استخدم في منشوره للمصريين مصطلح «الأمة المصرية». في تلك الفترة، لم يكن سكان مصر يُعَرِّفون أنفسهم كأمة، أي كجماعة ذات ثقافة واحدة خاصة بها، أو كشعب، أي ككيان سياسي يجب أن يحكم نفسه بنفسه. بالعكس، كانوا يعتبرون بلادهم إقليماً أو مكاناً يعيشون فيه، ويتصور المسلمون منهم خصوصاً أنه من طبيعة الأمور أن يكونوا جزءاً من دولة إسلامية كبرى، فحين أتى جيش بونابرت لم تكن كلمة الوطن تعني أكثر من الموضع الذي يعيش فيه المرء، والذي كان عادة مسقط رأسه، ولم تكن توحي بالانتماء إلى أمة، ولا كانت قد اشتُقت منها كلمة الوطنية التي نعرفها الآن جيداً ونأخذها مأخذ البديهية الواضحة بذاتها.
يتتبع يونس تاريخ نشوء فكرة الأمة المصرية منذ بداية الحملة الفرنسية، ثم ظروف استعادة الدولة العثمانية لسيطرتها على ولاية مصر عن طريق محمد علي، ثم دخول الولاية في أزمة ديون ضخمة في عهد حفيده إسماعيل، والاحتلال البريطاني بعد اندلاع الثورة العرابية، مع استمرارها ولاية عثمانية باعتراف بريطانيا، ودخولها في وضع مزدوج لا يوجد فيه مكان لفكرة الأمة ولا لفكرة الدولة المصرية، ثم الحرب العالمية الأولى، ووضع مصر رسمياً تحت الحماية البريطانية وانفصام علاقتها بالدولة العثمانية. وقد كانت هذه نقطة تحول مهمة في مسار الهوية المصرية نتيجة ما بذله أبناؤها من تضحيات بالدماء والمال، وما أظهره قادتها، وعلى رأسهم سعد زغلول، من إصرار على بلوغ الاستقلال، حيث ترسخ نهائياً مبدأ الوطنية المصرية.
وكانت ثورة 1919 قد نجحت في زعزعة مركز بريطانيا كدولة حماية في مصر وإجبارها على تقديم استقلال جزئي لمصر من طرف واحد في فبراير 1922 والتسليم بجانب معتبر من المطالب المصرية، ومنحها استقلالاً مشروطاً في فبراير 1922، من غير أن تقدم مصر أي التزام قانوني مقابل ذلك.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.