يُشبّه البعض ساحة المعركة بأنها ساحة ملعب رياضي للعبة ما، في أغلب أوجهها. في كرة السلّة مثلاً، هناك دفاع وهجوم، ومناورة لتجاوز الخصم، وهناك مسرح مُحدّد، وهناك حكمٌ يدير اللعبة، ومقياس للنجاح، وهناك وقت مُحدد كي ينتهي اللقاء. والأهمّ أن هناك وقتاً مُستقطعاً، وتبديلاً للاعبين حسب الخطّة الموضوعة. وهناك أيضاً مُدربّ، وفريق مُساعد مهمّته رصد خطط الفريق الآخر. وأخيراً وليس آخراً، هناك عقوبات تُفرض على من يخالف قانون اللعبة.
في الحرب تُدفع الأثمان بالأرواح البشريّة. وفي الحرب تدوم صدمة الهزيمة وتدخل في الذاكرة الجماعيّة للأمّة، وقد يغيب الحَكَمُ، وتُترك الساحة للأقوى. وبدل الوقت المستقطع في الرياضة، هناك الوقفة العملانيّة (Operational Pause) في الحرب. وعندما تتوقّف الحرب، قد يستمرّ الصراع عبر أوجه عدة. وهناك الهدنة، وكذلك وقف النار.
تُستخدم الوقفة العملانيّة لراحة العسكر، ورفع مستوى الجهوزيّة في العديد والعتاد، ومن ثمّ العودة لزهق أرواح الآخرين. وإذا صدف أن وحدة عسكريّة ما كانت قد مُنيت بخسائر لا تعوّض خلال المعركة، فقد تُلغى هذه الوحدة من جذورها، لكن دون إلغاء الاسم، وحتى دون إعطاء هذا الاسم لأيّ وحدة عسكريّة، قديمة كانت أو جديدة.
الوقفة العملانيّة في الملعب الأوكراني
بعد سقوط مدينة ليسيشانسك في إقليم لوغانسك، أعطى الرئيس بوتين أمراً مباشراً (وهذا أمر غريب، كونه من مهمّة القيادات العسكريّة أو وزير الدفاع) للقوى العسكريّة بالراحة والاستعداد للمرحلة القادمة من الحرب على مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك.
لم تدم هذه الوقفة أكثر من أسبوعين، وهذا أمر غريب، لأنّ المدة هذه لا تكفي القوى للاستعداد. فالقوى مُنهكة، وعتادها مُستنزف. ثم أعطى وزير الدفاع أمراً للقوى بالقتال على كلّ الجبهات، وضمناً المدن الكبرى. لكن، لماذا كان هذا التسرّع؟
- لا يريد الجيش الروسي إعطاء الوقت الكافي للجيش الأوكراني للاستعداد للمعركة القادمة، خصوصاً وصول أسلحة غربيّة قد تعدّل موازين القوى العسكريّة.
- يريد الرئيس بوتين الحفاظ على الاندفاعة والمبادرة (Momentum &Initiative)، واستغلال الانسحاب الأوكراني السريع من آخر مدن إقليم لوغانسك.
- محاولة الخروج بسرعة من المعضلة المستجدة والتي سببتها راجمات الهايمرز الأميركيّة، لكن لماذا؟
* أعطت الهايمرز عمقاً استراتيجيّاً مهمّاً للجيش الأوكراني (80 كلم)، وهي تكمل العمق الذي تؤمّنه المدفعيّة الميدانيّة العاديّة (30 كلم).
* ضربت هذه الراجمات مراكز الثقل الأساسيّة للجيش الروسي وهي: مراكز القيادة والسيطرة، مخازن ذخيرة المدفعيّة التي عُدّت، أي المدفعيّة، سبب نجاح التقدّم العسكري الروسي في إقليم الدونباس.
* إن ضرب هذه الأهداف المهّمة يضرب الاستعدادات الروسيّة، وبالتالي يؤمّن للجيش الأوكراني وقتاً مهمّاً كي تكتمل منظومته للمعركة القادمة. من هنا رصدت أقمار وكالة «ناسا» الأميركيّة تراجع القصف الروسي بشكل لافت في إقليم الدونباس ومحيطه. لكن، لا بد من الانتظار لمعرفة ما إذا كان تراجع القصف الروسي يعود للوقفة العملانيّة أم بسبب الهايمرز.
هل يمكن للجيش الروسي التأقلم مع الوضع التكتيكي المُستجدّ؟
في العلم العسكريّ، دائماً تأتي الحلول التكتيكيّة كرد فعل على المشكلات التقنيّة، مثل عدم توازن القوى، أي اللاتماثليّة.
وقد شكّلت راجمات الهايمرز حلاً تكتيكيّاً نوعيّاً للجيش الأوكراني، وذلك على حساب المشكلة التقنيّة التي كان يواجهها هذا الجيش، أي المدفعيّة الروسيّة (60 ألف طلقة روسيّة يوميّاً).
واستهدفت هذه الراجمات نقاط الضعف القاتلة للمدفعيّة الروسيّة، مثل مخازن الذخيرة. لكن كيف؟
يعتمد الجيش الروسي على سكك الحديد في إقليم الدونباس كوسيلة أساسيّة لنقل الذخيرة إلى الجبهات. وهذه الذخيرة تخدم مدفعيّة الميدان التي يبلغ مداها نحو 30 كلم كحد أقصى. لذلك، يجب أن تكون مخازن الذخيرة قريبة نسبيّاً من الجبهة، لكن بعيدة عن مدى المدفعيّة الميدانيّة الأوكرانيّة. وقد غيّر الهايمرز هذه المعادلة.
ولا يملك الجيش الروسي شاحنات تكفي لنقل الذخيرة إلى الجبهة، قادرة على أن تحلّ مكان سكك الحديد.
يقول بعض الخبراء إن ابتكار حلّ روسي تكتيكي سريع أمر صعب. فإذا أبعد الروس مخازن الذخيرة عن الجبهة لمسافة 80 كلم مثلاً، وهو مدى الهايمرز، فهذا أمر قد يضرب مفهوم العقيدة المدفعيّة الروسيّة التي كانت سبب النجاح في المرحلّة الثانيّة، وبالتالي قد يخلق هذا الحلّ مشكلات أكثر.
ويقول البعض الآخر بوضع المخازن في الأماكن السكنيّة، لكن كلّ الأماكن السكنيّة القريبة من الجبهة خالية كليّاً من السكان.
هنا قد يمكن تفسير عودة العمليات العسكريّة التي أمر بها وزير الدفاع الروسي على أنها: أولاً، القبول بالمخاطر التي يشكّلها الهايمرز، وذلك حتى إيجاد حلّ تكتيكي مناسب، ومنعاً لاستكمال الجيش الأوكراني تعزيزاته. ثانياً، البدء بعقاب جماعي للمدن الأوكرانيّة، الأمر الذي يفسِّر مؤخّراً القصف العنيف على هذه المدن.
إذاً، هل يجري بدء العمليّات وقصف المدن بانتظار وصول المسيّرات الإيرانيّة؟ وهل هي الحلّ؟ وماذا تؤمّن هذه المسيّرات؟ المراقبة الجويّة؟ الاستعلام؟ عمليات انتحاريّة ضد الهايمرز؟ خصوصاً أن إيران كانت قد استعملتها في منطقة الخليج، ومن اليمن ضدّ دول الخليج، وتحت الغطاء الحوثيّ.
لماذا استعجلت روسيا القتال على «كل الجبهات» شرق أوكرانيا؟
لماذا استعجلت روسيا القتال على «كل الجبهات» شرق أوكرانيا؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة