تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور
TT

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

أشاد بعض المستشرقين بعلم الجرح والتعديل عند المسلمين، ووصفه بأنه علم لا يُعرف له مثيل عند الأمم، وهو كذلك؛ فهذه الدراسات عن مدى ثقة كل راوٍ، وهل سمع ممن روى عنه أم لا، شيء ابتكره المسلمون. نحن نعلم أن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين هم نقاد الحديث الكبار في زمنهم، القرن الثالث الهجري، تلك الفترة الزمنية المحددة التي خرج فيها المسند والصحيحان وكتب السنة الأربعة، والثلاثة هم أيضاً شيوخ الجرح والتعديل.
لكن لا بد للباحث الجادّ أن يسأل: من أين أتاهم هذا العلم؟ ومَن هم الذين تكلموا فيه قبلهم؟ وإن كنا سنقبل شهادتهم فيمن عاصروهم، مع وجود الخصومة المذهبية، كقبول كلامهم في المعتزلة؛ فكيف حكموا على رواة الحديث الذين لم يروهم؟ هذه أسئلة لم أرَ مَن طرحها، خصوصاً السؤال عن بداية هذا الفن. يقول تاريخ الجرح والتعديل إن هؤلاء الرجال الثلاثة قد أخذوا هذا العلم عن حافظين ناقدين كبيرين، هما يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. وإذا مضينا في التحليل وسألنا: عمن أخذ هذان الرجلان؟ فسيكون الجواب: أخذاه عن شيخهما شعبة بن الحجاج الواسطي؛ فهو الذي شقق الكلام في الرجال، فوصف أناساً بأنهم ثقات، ووصف آخرين بالضعف، ووصف آخرين بالكذب. حبذا التقاط الأنفاس عند هذه النقطة، لأنني أريد أن أقرر هنا ما توصلتُ إليه كخلاصة لبحث طويل، وهذا تقرير يُقال لأول مرة ولم يُناقش من قبل. علم الجرح والتعديل نشأ عن شعبة في القرن الثاني، وقد وضع أهل الحديث كل الثقة في حكمه الذي لا يمكن أن يكتسب صفة اليقين، نظراً لبشريته التي لا نزاع حولها. فلنعقد على هذه إصبعاً. وعندما بحثتُ عن مصادر أخرى للجرح والتعديل والكلام في الرجال، لم أجد كثيراً مما يمكن قوله عندما رجعتُ إلى ما قبل شعبة، ولم أجد في زمنه سواه؛ فزميله الذي شاركه في لقب «أمير المؤمنين في الحديث»، سفيان الثوري، لا يكاد يوجد له كلام محفوظ في الرواة، أقول: لا يكاد، لأنه تكلم في رجل أو رجلَين. ويقولون إن شيوخ مالك بن أنس كلهم ثقات، وهذا مقبول لدرجة ما، اعتماداً على شهادة مالك نفسه. لكن مالك كسفيان، لم أرَه تكلَّم إلا في رجل أو رجلين، وقيل إنه لا يروي إلا عن ثقة، وعدد هؤلاء الذين روى عنهم قليل جداً، وأحاديث موطّئه قليلة كذلك، ولا تُقارن بمئات الألوف من الأحاديث التي توالدت فيما بعد، ولم يكن يعرفها أهل القرن الأول.
هناك اسم آخر يقال إنه من روّاد الجرح والتعديل، ألا وهو محمد بن سيرين، وهذا يعني أننا بحاجة لوضع مبضع التحليل على هذه الدعوى لنرى هل تثبت أم تسقط. في مقدمة «صحيح مسلم» عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى حديث أهل السُّنّة فيُؤخذ حديثهم، ويُنْظَرُ إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم». هذا النص هو كل أساس تلك الدعوى، ولا يوجد غيره دليل؛ فقد فتشتُ عن كلمة تُدرج في التوثيق والتضعيف ولم أجد شيئاً.
هذا يعيدنا إلى المربع الأول: إلى شعبة، ليكون هو المصدر الأساس الوحيد لعلم الجرح والتعديل. وشعبة هذا كان غيوراً على الحديث، يلاحق الرواة، فإما أن يكفوا عن الحديث أو يسعى لكي يسلّ عليهم سيف الدولة. رووا عن الشافعي أنه قال: كان شعبة يجيء إلى الرجل (يعني الذي ليس أهلاً للحديث في نظره) فيقول: «لا تُحدِّث وإلا استعديت عليك السلطان». ورووا عنه أنه قال: «لو كان لي سيف ورمح لغزوت سويد بن سعيد»، لأنه روى حديث «مَن عَشِق فعفّ فكتم فمات فهو شَهيد». شعبة هذا، بلا شك، جزء من ثقافة الاستعداء التي كان الجميع يمارسها ضد الجميع؛ فكلهم كانوا يرفعون سيف السلطان، إن استطاعوا، في وجوه بعضهم، وقد يُجرح الرجل بأمر لا علاقة له بالصدق والأمانة. حدث هذا مع محدّث اسمه حجاج بن منهال، ضعّف أحاديثه شعبة، بحجة أنه «سمع في بيته صوت طرب»! وهذا بلا شك من الأحكام الجائرة المتزمتة التي أسقطت الثقة بلا سبب. تحقيق القول وتقريره هو أنه لم يكن قبل شعبة أحد، وأنه المصدر الوحيد لهذا الفن. هذه قضية لم أرَ أحداً تنبه إليها قبلي. ومنه انتقل العلم إلى تلميذيه: يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، ومنهما انتقل إلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، ومع أحمد وفتنة خلق القرآن تفتق هذا الفن وكثُر القدح في الرجال لأسباب لا تنحصر في الصدق والحفظ. ومن الثلاثة انتقل العلم إلى البخاري ومسلم وأبي داود، ومن البخاري انتقل إلى الترمذي، وعلى هذا الأساس بُنيت كتب الحديث: مسند أحمد والصحيحان وكتب السنن الأربعة وبقية الكتب في عصر التدوين، عصر خلافة بني العباس.
علم الجرح والتعديل هو علم يقوم تاريخه كله على اختيارات رجل واحد غير معصوم من الخطأ والنسيان والخصومات، ومثل هذا العلم هو بلا شك يفيد الظن ولا يفيد اليقين، وكل مرويات أهل الحديث تفيد الظن ولا تفيد اليقين، ولا يُستثنى منها إلا ما تواتر لفظاً أو معنى. ما تواتر لفظه من مثل «مَن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وما تواتر معناه، كالكيفية التي يصلي بها المسلمون ويصومون ويمارسون عباداتهم. أما حديث الآحاد، أي الذي انفرد بروايته شخص واحد في السند، فلا يمكن أن يفيد اليقين عند كل عاقل. هذا الرأي ليس جديداً، بل هو موقف علماء الأصلَيْن، حيث يتجلى حقاً الفكر الإسلامي؛ فالأصوليون من الأحناف والمالكية والشوافع، بل والحنابلة منهم، ينقلون عن أئمتهم أن الحديث الذي يتفرد به رجل واحد، سواء كان الصحابي أو التابعي أو تابع التابعي، هو «خبر واحد» يفيد الظن ولا يفيد اليقين، أي أنه ليس لدينا يقين بأن الرسول قاله.
وقد وقفتُ على نص لابن تيمية، وهو مَن هو عند أهل الحديث، يُضعّف حديثاً في جامع البخاري بحجة أنه «حديث آحاد» لم يتواتر. واستدل علماء الأصول على صحة هذا المذهب بأن القبول بخبر الآحاد يلزم منه لوازم فاسدة؛ كأن يُصدّق القاضي المدعي على خصمه من دون بينة، لأن العلم يحصل بقوله. ولأنه لا يلزم تصديقه من دون بينة؛ فخبر الواحد لا يفيد اليقين. ولو كان خبر الواحد حجة، للزم منه في التقاضي أن يكفي شاهد واحد لا شاهدان، ولأن الشاهد الواحد لا يكفي، يتضح أن خبر الواحد لا يفيد اليقين. والرسول لم يقبل من الرجل الذي يلقبونه بذي اليدين حين قال إنه صلى العصر ركعتين، حتى شهد له المصلون بأن كلامه صحيح. ويزيد هذا قوةً أن نجد رجلاً ممن تدور عليه معظم الأحاديث ويُذكر في كثير من الأسانيد، كالحسن البصري، يصرّح لبعض تلاميذه بأنه كان يروى الحديث بالمعنى وليس بلفظه، وهذا قصاراه.
* كاتب وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

أطلقت السعودية خدمة التأشيرة الإلكترونية كمرحلة أولى في 7 دول من خلال إلغاء لاصق التأشيرة على جواز سفر المستفيد والتحول إلى التأشيرة الإلكترونية وقراءة بياناتها عبر رمز الاستجابة السريعة «QR». وذكرت وزارة الخارجية السعودية أن المبادرة الجديدة تأتي في إطار استكمال إجراءات أتمتة ورفع جودة الخدمات القنصلية المقدمة من الوزارة بتطوير آلية منح تأشيرات «العمل والإقامة والزيارة». وأشارت الخارجية السعودية إلى تفعيل هذا الإجراء باعتباره مرحلة أولى في عددٍ من بعثات المملكة في الدول التالية: «الإمارات والأردن ومصر وبنغلاديش والهند وإندونيسيا والفلبين».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق «ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

«ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

تُنظم هيئة الأفلام السعودية، في مدينة الظهران، الجمعة، الجولة الثانية من ملتقى النقد السينمائي تحت شعار «السينما الوطنية»، بالشراكة مع مهرجان الأفلام السعودية ومركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء). ويأتي الملتقى في فضاءٍ واسع من الحوارات والتبادلات السينمائية؛ ليحل منصة عالمية تُعزز مفهوم النقد السينمائي بجميع أشكاله المختلفة بين النقاد والأكاديميين المتخصصين بالدراسات السينمائية، وصُناع الأفلام، والكُتَّاب، والفنانين، ومحبي السينما. وشدد المهندس عبد الله آل عياف، الرئيس التنفيذي للهيئة، على أهمية الملتقى في تسليط الضوء على مفهوم السينما الوطنية، والمفاهيم المرتبطة بها، في وقت تأخذ في

«الشرق الأوسط» (الظهران)
الاقتصاد مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

تجاوز عدد المسافرين من مطارات السعودية وإليها منذ بداية شهر رمضان وحتى التاسع من شوال لهذا العام، 11.5 مليون مسافر، بزيادة تجاوزت 25% عن العام الماضي في نفس الفترة، وسط انسيابية ملحوظة وتكامل تشغيلي بين الجهات الحكومية والخاصة. وذكرت «هيئة الطيران المدني» أن العدد توزع على جميع مطارات السعودية عبر أكثر من 80 ألف رحلة و55 ناقلاً جوياً، حيث خدم مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة النسبة الأعلى من المسافرين بـ4,4 مليون، تلاه مطار الملك خالد الدولي في الرياض بـ3 ملايين، فيما خدم مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي بالمدينة المنورة قرابة المليون، بينما تم تجاوز هذا الرقم في شركة مطارات الدمام، وتوز

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

بحث الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية السعودي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، اليوم (الخميس)، الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف في السودان، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين السودانيين والمقيمين على أرضه. وأكد الأمير فيصل بن فرحان، خلال اتصال هاتفي أجراه بغوتيريش، على استمرار السعودية في مساعيها الحميدة بالعمل على إجلاء رعايا الدول التي تقدمت بطلب مساعدة بشأن ذلك. واستعرض الجانبان أوجه التعاون بين السعودية والأمم المتحدة، كما ناقشا آخر المستجدات والتطورات الدولية، والجهود الحثيثة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي