تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور
TT

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

أشاد بعض المستشرقين بعلم الجرح والتعديل عند المسلمين، ووصفه بأنه علم لا يُعرف له مثيل عند الأمم، وهو كذلك؛ فهذه الدراسات عن مدى ثقة كل راوٍ، وهل سمع ممن روى عنه أم لا، شيء ابتكره المسلمون. نحن نعلم أن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين هم نقاد الحديث الكبار في زمنهم، القرن الثالث الهجري، تلك الفترة الزمنية المحددة التي خرج فيها المسند والصحيحان وكتب السنة الأربعة، والثلاثة هم أيضاً شيوخ الجرح والتعديل.
لكن لا بد للباحث الجادّ أن يسأل: من أين أتاهم هذا العلم؟ ومَن هم الذين تكلموا فيه قبلهم؟ وإن كنا سنقبل شهادتهم فيمن عاصروهم، مع وجود الخصومة المذهبية، كقبول كلامهم في المعتزلة؛ فكيف حكموا على رواة الحديث الذين لم يروهم؟ هذه أسئلة لم أرَ مَن طرحها، خصوصاً السؤال عن بداية هذا الفن. يقول تاريخ الجرح والتعديل إن هؤلاء الرجال الثلاثة قد أخذوا هذا العلم عن حافظين ناقدين كبيرين، هما يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. وإذا مضينا في التحليل وسألنا: عمن أخذ هذان الرجلان؟ فسيكون الجواب: أخذاه عن شيخهما شعبة بن الحجاج الواسطي؛ فهو الذي شقق الكلام في الرجال، فوصف أناساً بأنهم ثقات، ووصف آخرين بالضعف، ووصف آخرين بالكذب. حبذا التقاط الأنفاس عند هذه النقطة، لأنني أريد أن أقرر هنا ما توصلتُ إليه كخلاصة لبحث طويل، وهذا تقرير يُقال لأول مرة ولم يُناقش من قبل. علم الجرح والتعديل نشأ عن شعبة في القرن الثاني، وقد وضع أهل الحديث كل الثقة في حكمه الذي لا يمكن أن يكتسب صفة اليقين، نظراً لبشريته التي لا نزاع حولها. فلنعقد على هذه إصبعاً. وعندما بحثتُ عن مصادر أخرى للجرح والتعديل والكلام في الرجال، لم أجد كثيراً مما يمكن قوله عندما رجعتُ إلى ما قبل شعبة، ولم أجد في زمنه سواه؛ فزميله الذي شاركه في لقب «أمير المؤمنين في الحديث»، سفيان الثوري، لا يكاد يوجد له كلام محفوظ في الرواة، أقول: لا يكاد، لأنه تكلم في رجل أو رجلَين. ويقولون إن شيوخ مالك بن أنس كلهم ثقات، وهذا مقبول لدرجة ما، اعتماداً على شهادة مالك نفسه. لكن مالك كسفيان، لم أرَه تكلَّم إلا في رجل أو رجلين، وقيل إنه لا يروي إلا عن ثقة، وعدد هؤلاء الذين روى عنهم قليل جداً، وأحاديث موطّئه قليلة كذلك، ولا تُقارن بمئات الألوف من الأحاديث التي توالدت فيما بعد، ولم يكن يعرفها أهل القرن الأول.
هناك اسم آخر يقال إنه من روّاد الجرح والتعديل، ألا وهو محمد بن سيرين، وهذا يعني أننا بحاجة لوضع مبضع التحليل على هذه الدعوى لنرى هل تثبت أم تسقط. في مقدمة «صحيح مسلم» عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى حديث أهل السُّنّة فيُؤخذ حديثهم، ويُنْظَرُ إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم». هذا النص هو كل أساس تلك الدعوى، ولا يوجد غيره دليل؛ فقد فتشتُ عن كلمة تُدرج في التوثيق والتضعيف ولم أجد شيئاً.
هذا يعيدنا إلى المربع الأول: إلى شعبة، ليكون هو المصدر الأساس الوحيد لعلم الجرح والتعديل. وشعبة هذا كان غيوراً على الحديث، يلاحق الرواة، فإما أن يكفوا عن الحديث أو يسعى لكي يسلّ عليهم سيف الدولة. رووا عن الشافعي أنه قال: كان شعبة يجيء إلى الرجل (يعني الذي ليس أهلاً للحديث في نظره) فيقول: «لا تُحدِّث وإلا استعديت عليك السلطان». ورووا عنه أنه قال: «لو كان لي سيف ورمح لغزوت سويد بن سعيد»، لأنه روى حديث «مَن عَشِق فعفّ فكتم فمات فهو شَهيد». شعبة هذا، بلا شك، جزء من ثقافة الاستعداء التي كان الجميع يمارسها ضد الجميع؛ فكلهم كانوا يرفعون سيف السلطان، إن استطاعوا، في وجوه بعضهم، وقد يُجرح الرجل بأمر لا علاقة له بالصدق والأمانة. حدث هذا مع محدّث اسمه حجاج بن منهال، ضعّف أحاديثه شعبة، بحجة أنه «سمع في بيته صوت طرب»! وهذا بلا شك من الأحكام الجائرة المتزمتة التي أسقطت الثقة بلا سبب. تحقيق القول وتقريره هو أنه لم يكن قبل شعبة أحد، وأنه المصدر الوحيد لهذا الفن. هذه قضية لم أرَ أحداً تنبه إليها قبلي. ومنه انتقل العلم إلى تلميذيه: يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، ومنهما انتقل إلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، ومع أحمد وفتنة خلق القرآن تفتق هذا الفن وكثُر القدح في الرجال لأسباب لا تنحصر في الصدق والحفظ. ومن الثلاثة انتقل العلم إلى البخاري ومسلم وأبي داود، ومن البخاري انتقل إلى الترمذي، وعلى هذا الأساس بُنيت كتب الحديث: مسند أحمد والصحيحان وكتب السنن الأربعة وبقية الكتب في عصر التدوين، عصر خلافة بني العباس.
علم الجرح والتعديل هو علم يقوم تاريخه كله على اختيارات رجل واحد غير معصوم من الخطأ والنسيان والخصومات، ومثل هذا العلم هو بلا شك يفيد الظن ولا يفيد اليقين، وكل مرويات أهل الحديث تفيد الظن ولا تفيد اليقين، ولا يُستثنى منها إلا ما تواتر لفظاً أو معنى. ما تواتر لفظه من مثل «مَن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وما تواتر معناه، كالكيفية التي يصلي بها المسلمون ويصومون ويمارسون عباداتهم. أما حديث الآحاد، أي الذي انفرد بروايته شخص واحد في السند، فلا يمكن أن يفيد اليقين عند كل عاقل. هذا الرأي ليس جديداً، بل هو موقف علماء الأصلَيْن، حيث يتجلى حقاً الفكر الإسلامي؛ فالأصوليون من الأحناف والمالكية والشوافع، بل والحنابلة منهم، ينقلون عن أئمتهم أن الحديث الذي يتفرد به رجل واحد، سواء كان الصحابي أو التابعي أو تابع التابعي، هو «خبر واحد» يفيد الظن ولا يفيد اليقين، أي أنه ليس لدينا يقين بأن الرسول قاله.
وقد وقفتُ على نص لابن تيمية، وهو مَن هو عند أهل الحديث، يُضعّف حديثاً في جامع البخاري بحجة أنه «حديث آحاد» لم يتواتر. واستدل علماء الأصول على صحة هذا المذهب بأن القبول بخبر الآحاد يلزم منه لوازم فاسدة؛ كأن يُصدّق القاضي المدعي على خصمه من دون بينة، لأن العلم يحصل بقوله. ولأنه لا يلزم تصديقه من دون بينة؛ فخبر الواحد لا يفيد اليقين. ولو كان خبر الواحد حجة، للزم منه في التقاضي أن يكفي شاهد واحد لا شاهدان، ولأن الشاهد الواحد لا يكفي، يتضح أن خبر الواحد لا يفيد اليقين. والرسول لم يقبل من الرجل الذي يلقبونه بذي اليدين حين قال إنه صلى العصر ركعتين، حتى شهد له المصلون بأن كلامه صحيح. ويزيد هذا قوةً أن نجد رجلاً ممن تدور عليه معظم الأحاديث ويُذكر في كثير من الأسانيد، كالحسن البصري، يصرّح لبعض تلاميذه بأنه كان يروى الحديث بالمعنى وليس بلفظه، وهذا قصاراه.
* كاتب وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

أطلقت السعودية خدمة التأشيرة الإلكترونية كمرحلة أولى في 7 دول من خلال إلغاء لاصق التأشيرة على جواز سفر المستفيد والتحول إلى التأشيرة الإلكترونية وقراءة بياناتها عبر رمز الاستجابة السريعة «QR». وذكرت وزارة الخارجية السعودية أن المبادرة الجديدة تأتي في إطار استكمال إجراءات أتمتة ورفع جودة الخدمات القنصلية المقدمة من الوزارة بتطوير آلية منح تأشيرات «العمل والإقامة والزيارة». وأشارت الخارجية السعودية إلى تفعيل هذا الإجراء باعتباره مرحلة أولى في عددٍ من بعثات المملكة في الدول التالية: «الإمارات والأردن ومصر وبنغلاديش والهند وإندونيسيا والفلبين».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق «ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

«ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

تُنظم هيئة الأفلام السعودية، في مدينة الظهران، الجمعة، الجولة الثانية من ملتقى النقد السينمائي تحت شعار «السينما الوطنية»، بالشراكة مع مهرجان الأفلام السعودية ومركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء). ويأتي الملتقى في فضاءٍ واسع من الحوارات والتبادلات السينمائية؛ ليحل منصة عالمية تُعزز مفهوم النقد السينمائي بجميع أشكاله المختلفة بين النقاد والأكاديميين المتخصصين بالدراسات السينمائية، وصُناع الأفلام، والكُتَّاب، والفنانين، ومحبي السينما. وشدد المهندس عبد الله آل عياف، الرئيس التنفيذي للهيئة، على أهمية الملتقى في تسليط الضوء على مفهوم السينما الوطنية، والمفاهيم المرتبطة بها، في وقت تأخذ في

«الشرق الأوسط» (الظهران)
الاقتصاد مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

تجاوز عدد المسافرين من مطارات السعودية وإليها منذ بداية شهر رمضان وحتى التاسع من شوال لهذا العام، 11.5 مليون مسافر، بزيادة تجاوزت 25% عن العام الماضي في نفس الفترة، وسط انسيابية ملحوظة وتكامل تشغيلي بين الجهات الحكومية والخاصة. وذكرت «هيئة الطيران المدني» أن العدد توزع على جميع مطارات السعودية عبر أكثر من 80 ألف رحلة و55 ناقلاً جوياً، حيث خدم مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة النسبة الأعلى من المسافرين بـ4,4 مليون، تلاه مطار الملك خالد الدولي في الرياض بـ3 ملايين، فيما خدم مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي بالمدينة المنورة قرابة المليون، بينما تم تجاوز هذا الرقم في شركة مطارات الدمام، وتوز

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

بحث الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية السعودي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، اليوم (الخميس)، الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف في السودان، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين السودانيين والمقيمين على أرضه. وأكد الأمير فيصل بن فرحان، خلال اتصال هاتفي أجراه بغوتيريش، على استمرار السعودية في مساعيها الحميدة بالعمل على إجلاء رعايا الدول التي تقدمت بطلب مساعدة بشأن ذلك. واستعرض الجانبان أوجه التعاون بين السعودية والأمم المتحدة، كما ناقشا آخر المستجدات والتطورات الدولية، والجهود الحثيثة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
TT

البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)

على مدار السنوات الـ25 الماضية، تسارعت وتيرة الابتكار التكنولوجي بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى تحول المجتمعات في جميع أنحاء العالم. تاريخياً، استغرقت التقنيات مثل الكهرباء والهاتف عقوداً للوصول إلى 25 في المائة من الأسر الأميركية - 46 و35 عاماً على التوالي. على النقيض من ذلك تماماً، حقّق الإنترنت ذلك في 7 سنوات فقط.

اكتسبت منصات مثل «فيسبوك» 50 مليون مستخدم في عامين، وأعادت «نتفليكس» تعريف استهلاك الوسائط بسرعة، وجذب «شات جي بي تي» أكثر من مليون مستخدم في 5 أيام فقط. يؤكد هذا التقَبّل السريع للتقدم التكنولوجي والتحول المجتمعي وأثره في تبني الابتكار.

قادت هذه الموجة شركة «غوغل»، وهي شركة ناشئة تأسست في مرآب. في عام 1998، قدمت «غوغل» خوارزمية «بيچ رانك»، ما أحدث ثورة في تنظيم المعلومات على الويب. على عكس محركات البحث التقليدية التي تركز على تكرار الكلمات الرئيسية، عملت خوارزمية «بيچ رانك» على تقييم أهمية الصفحة من خلال تحليل الارتباطات التبادلية، ومعاملة الروابط التشعبية على أنها أصوات ثقة واستيعاب الحكمة الجماعية للإنترنت. أصبح العثور على المعلومات ذات الصلة أسرع وأكثر سهولة، ما جعل محرك البحث «غوغل» لا غنى عنه على مستوى العالم.

تحوّل «نتفليكس»

في خضم ثورة البيانات، ظهر نموذج جديد للحوسبة: التعلم الآلي. بدأ المطورون في إنشاء خوارزميات تتعلم من البيانات وتتحسن بمرور الوقت، مبتعدين عن البرمجة الصريحة. جسّدت «نتفليكس» هذا التحول بجائزتها البالغة مليون دولار لعام 2006 لتحسين خوارزمية التوصية خاصتها بنسبة 10 في المائة. في عام 2009، نجحت خوارزمية «براغماتيك كايوس» لشركة «بيلكور» في استخدام التعلم الآلي المتقدم، ما يسلّط الضوء على قوة الخوارزميات التكيفية.

ثم توغل الباحثون في مجال التعلم العميق، وهو مجموعة متفرعة عن التعلم الآلي تتضمن خوارزميات تتعلم من بيانات ضخمة غير منظمة. في عام 2011، أظهر نظام «واتسون» الحاسوبي من شركة «آي بي إم» قوة التعلم العميق في لعبة «چيوباردي»! في منافسة ضد البطلين «براد روتر» و«كين جينينغز»، أظهر «واتسون» القدرة على فهم الفروق الدقيقة في اللغة المعقدة، والتورية، والألغاز، مما يحقق النصر. أفسح هذا العرض المهم لمعالجة اللغة بالذكاء الاصطناعي المجال أمام العديد من تطبيقات معالجة اللغة الطبيعية.

في عام 2016، حقق برنامج «ألفاغو» الحاسوبي من شركة «غوغل ديب مايند» إنجازاً تاريخياً بهزيمة «لي سيدول» بطل العالم في لعبة «غو». كانت لعبة «غو»، المعروفة بمعقداتها وتفكيرها الحدسي، خارج نطاق الذكاء الاصطناعي. أدهش فوز «ألفاغو» العالم بأسره، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه معالجة المشكلات التي تتطلب التفكير الاستراتيجي من خلال الشبكات العصبية.

ثورة تجارة التجزئة

مع ازدياد قدرات الذكاء الاصطناعي، بدأت الشركات في دمج هذه التقنيات لإحداث الابتكار. أحدثت «أمازون» ثورة في تجارة التجزئة عبر الاستفادة من الذكاء الاصطناعي للتسوق الشخصي. من خلال تحليل عادات العملاء، أوصت خوارزميات «أمازون» بالمنتجات بدقة، ويسّرت الخدمات اللوجيستية، وحسّنت المخزون. وصار التخصيص حجر الزاوية في نجاح «أمازون»، مما وضع توقعات جديدة لخدمة العملاء.

في قطاع السيارات، قادت شركة «تسلا» عملية دمج الذكاء الاصطناعي في المنتجات الاستهلاكية. من خلال «أوتوبايلوت»، قدمت «تسلا» لمحة عن مستقبل النقل. في البداية، استخدم «أوتوبايلوت» الذكاء الاصطناعي لمعالجة البيانات من الكاميرات وأجهزة الاستشعار، مما يتيح التحكم التكيفي في السرعة، ومَرْكَزَة المسار، ومواقف السيارات الذاتية. بحلول عام 2024، سمح نظام القيادة الذاتية الكاملة (FSD) للسيارات بالتنقل مع تدخل بشري طفيف. أعادت تلك الوثبة تعريف القيادة وعجلت بالجهود الرامية لتطوير السيارات ذاتية القيادة مثل «وايمو».

كما شهد قطاع الرعاية الصحية التأثير التحويلي للذكاء الاصطناعي، إذ طوّر الباحثون خوارزميات تكتشف الأنماط في بيانات التصوير غير المُدرَكة للبشر. على سبيل المثال، حلّل نظام الذكاء الاصطناعي صور الثدي بالأشعة السينية للتعرف على التغيرات الدقيقة التي تتنبأ بالسرطان، مما يتيح تدخلات مبكرة وربما إنقاذ الأرواح.

في عام 2020، حقق برنامج «ألفافولد» من شركة «ديب مايند» إنجازاً تاريخياً: التنبؤ الدقيق بهياكل البروتين من تسلسلات الأحماض الأمينية - وهو تحدٍّ أربك العلماء لعقود. يعد فهم انْثِناء البروتين أمراً بالغ الأهمية لاكتشاف الأدوية وأبحاث الأمراض. تستفيد مختبرات «أيسومورفيك لابس» التابعة لشركة «ديب مايند»، من أحدث نماذج «ألفافولد» وتتعاون مع شركات الأدوية الكبرى لتسريع الأبحاث الطبية الحيوية، مما قد يؤدي إلى علاجات جديدة بوتيرة غير مسبوقة.

سرعان ما تبنى قطاع التمويل ابتكارات الذكاء الاصطناعي. نفذت شركة «باي بال» خوارزميات متقدمة للكشف عن الاحتيال ومنعه في الوقت الفعلي، مما يزيد من الثقة في المدفوعات الرقمية. استخدمت شركات التداول عالية التردد خوارزميات لتنفيذ الصفقات في أجزاء من الثانية. واستخدمت شركات مثل «رينيسانس تكنولوجيز» التعلم الآلي في استراتيجيات التداول، محققة عوائد رائعة. أصبح التداول الخوارزمي الآن يمثل جزءاً كبيراً من حجم التداول، مما يزيد من الكفاءة لكنه يُثير مخاوف بشأن استقرار السوق، كما هو الحال في انهيار عام 2010.

في عام 2014، طوّر إيان غودفيلو وزملاؤه الشبكات التنافسية التوليدية (GANs)، التي تتكون من شبكتين عصبيتين - المُولّد والمميّز - تتنافسان ضد بعضهما. مكّنت هذه الديناميكية من إنشاء بيانات اصطناعية واقعية للغاية، بما في ذلك الصور ومقاطع الفيديو. لقد أنتجت الشبكات التنافسية التوليدية وجوهاً بشرية واقعية، وأنشأت أعمالاً فنية، وساعدت في التصوير الطبي من خلال إنتاج بيانات اصطناعية للتدريب، مما يعزز قوة نماذج التشخيص.

في عام 2017، قدمت هيكليات المحولات «ترانسفورمر» تحولاً كبيراً في منهجية الذكاء الاصطناعي، مما غيّر بشكل جذري من معالجة اللغة الطبيعية. ابتعدت «ترانسفورمر» عن الشبكات العصبية التكرارية والالتفافية التقليدية. وتعتمد كلياً على آليات الانتباه لالتقاط التبعيات العالمية، مما يسمح بالتعامد الفعال ومعالجة السياقات المطولة.

روبوت يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

نص بشري يكتبه روبوت

بناء على ذلك، طوّرت شركة «أوبن إيه آي» سلسلة «المحول المُولّد المدرب مسبقاً» (GPT)، وأظهر «جي بي تي – 3»، الصادر عام 2020، قدرات غير مسبوقة في توليد نص يشبه النص البشري مع فهم السياق. على عكس النماذج السابقة التي تتطلب تدريباً محدداً للمهمة، يمكن لـ«جي بي تي – 3» أداء مجموعة واسعة من مهام اللغة مع الحد الأدنى من الضبط الدقيق، مما يُظهر قوة التدريب المسبق غير الخاضع للإشراف على نطاق واسع والتعلم قليل اللقطات. بدأت الشركات في دمج نماذج «جي بي تي» في التطبيقات من إنشاء المحتوى وتوليد التعليمات البرمجية إلى خدمة العملاء. حالياً، تتسابق العديد من النماذج لتحقيق «الذكاء الاصطناعي العام» (AGI) الذي يفهم، ويفسر، ويخلق محتوى متفوقاً على البشر.

الرحلة من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي على مدار السنوات الـ25 الماضية هي شهادة على الفضول البشري، والإبداع، والسعي الدؤوب نحو التقدم. لقد انتقلنا من الخوارزميات الأساسية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة التي تفهم اللغة، وتفسر البيانات المعقدة، وتُظهر الإبداع. أدى النمو الهائل في قوة الحوسبة، والبيانات الضخمة، والاختراقات في مجال التعلم الآلي إلى تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي بوتيرة لا يمكن تصورها.

بالتطلع إلى المستقبل، يشكل التنبؤ بالـ25 عاماً المقبلة تحدياً كبيراً. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، قد يفتح المجال أمام حلول للتحديات التي نعتبرها مستعصية اليوم - من علاج الأمراض، وحل مشاكل الطاقة، إلى التخفيف من تغير المناخ، واستكشاف الفضاء العميق.

إن إمكانات الذكاء الاصطناعي في إحداث ثورة في كل جانب من جوانب حياتنا هائلة. ورغم أن المسار الدقيق غير مؤكد، فإن اندماج إبداع الإنسان والذكاء الاصطناعي يعد بمستقبل غني بالإمكانات. ويتساءل المرء متى وأين قد تظهر شركة «غوغل» أو «أوبن إيه آي» التالية، وما الخير الكبير الذي قد تجلبه للعالم؟