تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور
TT

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

تحليل علم الجرح والتعديل والعودة إلى الجذور

أشاد بعض المستشرقين بعلم الجرح والتعديل عند المسلمين، ووصفه بأنه علم لا يُعرف له مثيل عند الأمم، وهو كذلك؛ فهذه الدراسات عن مدى ثقة كل راوٍ، وهل سمع ممن روى عنه أم لا، شيء ابتكره المسلمون. نحن نعلم أن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين هم نقاد الحديث الكبار في زمنهم، القرن الثالث الهجري، تلك الفترة الزمنية المحددة التي خرج فيها المسند والصحيحان وكتب السنة الأربعة، والثلاثة هم أيضاً شيوخ الجرح والتعديل.
لكن لا بد للباحث الجادّ أن يسأل: من أين أتاهم هذا العلم؟ ومَن هم الذين تكلموا فيه قبلهم؟ وإن كنا سنقبل شهادتهم فيمن عاصروهم، مع وجود الخصومة المذهبية، كقبول كلامهم في المعتزلة؛ فكيف حكموا على رواة الحديث الذين لم يروهم؟ هذه أسئلة لم أرَ مَن طرحها، خصوصاً السؤال عن بداية هذا الفن. يقول تاريخ الجرح والتعديل إن هؤلاء الرجال الثلاثة قد أخذوا هذا العلم عن حافظين ناقدين كبيرين، هما يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. وإذا مضينا في التحليل وسألنا: عمن أخذ هذان الرجلان؟ فسيكون الجواب: أخذاه عن شيخهما شعبة بن الحجاج الواسطي؛ فهو الذي شقق الكلام في الرجال، فوصف أناساً بأنهم ثقات، ووصف آخرين بالضعف، ووصف آخرين بالكذب. حبذا التقاط الأنفاس عند هذه النقطة، لأنني أريد أن أقرر هنا ما توصلتُ إليه كخلاصة لبحث طويل، وهذا تقرير يُقال لأول مرة ولم يُناقش من قبل. علم الجرح والتعديل نشأ عن شعبة في القرن الثاني، وقد وضع أهل الحديث كل الثقة في حكمه الذي لا يمكن أن يكتسب صفة اليقين، نظراً لبشريته التي لا نزاع حولها. فلنعقد على هذه إصبعاً. وعندما بحثتُ عن مصادر أخرى للجرح والتعديل والكلام في الرجال، لم أجد كثيراً مما يمكن قوله عندما رجعتُ إلى ما قبل شعبة، ولم أجد في زمنه سواه؛ فزميله الذي شاركه في لقب «أمير المؤمنين في الحديث»، سفيان الثوري، لا يكاد يوجد له كلام محفوظ في الرواة، أقول: لا يكاد، لأنه تكلم في رجل أو رجلَين. ويقولون إن شيوخ مالك بن أنس كلهم ثقات، وهذا مقبول لدرجة ما، اعتماداً على شهادة مالك نفسه. لكن مالك كسفيان، لم أرَه تكلَّم إلا في رجل أو رجلين، وقيل إنه لا يروي إلا عن ثقة، وعدد هؤلاء الذين روى عنهم قليل جداً، وأحاديث موطّئه قليلة كذلك، ولا تُقارن بمئات الألوف من الأحاديث التي توالدت فيما بعد، ولم يكن يعرفها أهل القرن الأول.
هناك اسم آخر يقال إنه من روّاد الجرح والتعديل، ألا وهو محمد بن سيرين، وهذا يعني أننا بحاجة لوضع مبضع التحليل على هذه الدعوى لنرى هل تثبت أم تسقط. في مقدمة «صحيح مسلم» عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى حديث أهل السُّنّة فيُؤخذ حديثهم، ويُنْظَرُ إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم». هذا النص هو كل أساس تلك الدعوى، ولا يوجد غيره دليل؛ فقد فتشتُ عن كلمة تُدرج في التوثيق والتضعيف ولم أجد شيئاً.
هذا يعيدنا إلى المربع الأول: إلى شعبة، ليكون هو المصدر الأساس الوحيد لعلم الجرح والتعديل. وشعبة هذا كان غيوراً على الحديث، يلاحق الرواة، فإما أن يكفوا عن الحديث أو يسعى لكي يسلّ عليهم سيف الدولة. رووا عن الشافعي أنه قال: كان شعبة يجيء إلى الرجل (يعني الذي ليس أهلاً للحديث في نظره) فيقول: «لا تُحدِّث وإلا استعديت عليك السلطان». ورووا عنه أنه قال: «لو كان لي سيف ورمح لغزوت سويد بن سعيد»، لأنه روى حديث «مَن عَشِق فعفّ فكتم فمات فهو شَهيد». شعبة هذا، بلا شك، جزء من ثقافة الاستعداء التي كان الجميع يمارسها ضد الجميع؛ فكلهم كانوا يرفعون سيف السلطان، إن استطاعوا، في وجوه بعضهم، وقد يُجرح الرجل بأمر لا علاقة له بالصدق والأمانة. حدث هذا مع محدّث اسمه حجاج بن منهال، ضعّف أحاديثه شعبة، بحجة أنه «سمع في بيته صوت طرب»! وهذا بلا شك من الأحكام الجائرة المتزمتة التي أسقطت الثقة بلا سبب. تحقيق القول وتقريره هو أنه لم يكن قبل شعبة أحد، وأنه المصدر الوحيد لهذا الفن. هذه قضية لم أرَ أحداً تنبه إليها قبلي. ومنه انتقل العلم إلى تلميذيه: يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، ومنهما انتقل إلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، ومع أحمد وفتنة خلق القرآن تفتق هذا الفن وكثُر القدح في الرجال لأسباب لا تنحصر في الصدق والحفظ. ومن الثلاثة انتقل العلم إلى البخاري ومسلم وأبي داود، ومن البخاري انتقل إلى الترمذي، وعلى هذا الأساس بُنيت كتب الحديث: مسند أحمد والصحيحان وكتب السنن الأربعة وبقية الكتب في عصر التدوين، عصر خلافة بني العباس.
علم الجرح والتعديل هو علم يقوم تاريخه كله على اختيارات رجل واحد غير معصوم من الخطأ والنسيان والخصومات، ومثل هذا العلم هو بلا شك يفيد الظن ولا يفيد اليقين، وكل مرويات أهل الحديث تفيد الظن ولا تفيد اليقين، ولا يُستثنى منها إلا ما تواتر لفظاً أو معنى. ما تواتر لفظه من مثل «مَن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وما تواتر معناه، كالكيفية التي يصلي بها المسلمون ويصومون ويمارسون عباداتهم. أما حديث الآحاد، أي الذي انفرد بروايته شخص واحد في السند، فلا يمكن أن يفيد اليقين عند كل عاقل. هذا الرأي ليس جديداً، بل هو موقف علماء الأصلَيْن، حيث يتجلى حقاً الفكر الإسلامي؛ فالأصوليون من الأحناف والمالكية والشوافع، بل والحنابلة منهم، ينقلون عن أئمتهم أن الحديث الذي يتفرد به رجل واحد، سواء كان الصحابي أو التابعي أو تابع التابعي، هو «خبر واحد» يفيد الظن ولا يفيد اليقين، أي أنه ليس لدينا يقين بأن الرسول قاله.
وقد وقفتُ على نص لابن تيمية، وهو مَن هو عند أهل الحديث، يُضعّف حديثاً في جامع البخاري بحجة أنه «حديث آحاد» لم يتواتر. واستدل علماء الأصول على صحة هذا المذهب بأن القبول بخبر الآحاد يلزم منه لوازم فاسدة؛ كأن يُصدّق القاضي المدعي على خصمه من دون بينة، لأن العلم يحصل بقوله. ولأنه لا يلزم تصديقه من دون بينة؛ فخبر الواحد لا يفيد اليقين. ولو كان خبر الواحد حجة، للزم منه في التقاضي أن يكفي شاهد واحد لا شاهدان، ولأن الشاهد الواحد لا يكفي، يتضح أن خبر الواحد لا يفيد اليقين. والرسول لم يقبل من الرجل الذي يلقبونه بذي اليدين حين قال إنه صلى العصر ركعتين، حتى شهد له المصلون بأن كلامه صحيح. ويزيد هذا قوةً أن نجد رجلاً ممن تدور عليه معظم الأحاديث ويُذكر في كثير من الأسانيد، كالحسن البصري، يصرّح لبعض تلاميذه بأنه كان يروى الحديث بالمعنى وليس بلفظه، وهذا قصاراه.
* كاتب وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

أطلقت السعودية خدمة التأشيرة الإلكترونية كمرحلة أولى في 7 دول من خلال إلغاء لاصق التأشيرة على جواز سفر المستفيد والتحول إلى التأشيرة الإلكترونية وقراءة بياناتها عبر رمز الاستجابة السريعة «QR». وذكرت وزارة الخارجية السعودية أن المبادرة الجديدة تأتي في إطار استكمال إجراءات أتمتة ورفع جودة الخدمات القنصلية المقدمة من الوزارة بتطوير آلية منح تأشيرات «العمل والإقامة والزيارة». وأشارت الخارجية السعودية إلى تفعيل هذا الإجراء باعتباره مرحلة أولى في عددٍ من بعثات المملكة في الدول التالية: «الإمارات والأردن ومصر وبنغلاديش والهند وإندونيسيا والفلبين».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق «ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

«ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

تُنظم هيئة الأفلام السعودية، في مدينة الظهران، الجمعة، الجولة الثانية من ملتقى النقد السينمائي تحت شعار «السينما الوطنية»، بالشراكة مع مهرجان الأفلام السعودية ومركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء). ويأتي الملتقى في فضاءٍ واسع من الحوارات والتبادلات السينمائية؛ ليحل منصة عالمية تُعزز مفهوم النقد السينمائي بجميع أشكاله المختلفة بين النقاد والأكاديميين المتخصصين بالدراسات السينمائية، وصُناع الأفلام، والكُتَّاب، والفنانين، ومحبي السينما. وشدد المهندس عبد الله آل عياف، الرئيس التنفيذي للهيئة، على أهمية الملتقى في تسليط الضوء على مفهوم السينما الوطنية، والمفاهيم المرتبطة بها، في وقت تأخذ في

«الشرق الأوسط» (الظهران)
الاقتصاد مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

تجاوز عدد المسافرين من مطارات السعودية وإليها منذ بداية شهر رمضان وحتى التاسع من شوال لهذا العام، 11.5 مليون مسافر، بزيادة تجاوزت 25% عن العام الماضي في نفس الفترة، وسط انسيابية ملحوظة وتكامل تشغيلي بين الجهات الحكومية والخاصة. وذكرت «هيئة الطيران المدني» أن العدد توزع على جميع مطارات السعودية عبر أكثر من 80 ألف رحلة و55 ناقلاً جوياً، حيث خدم مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة النسبة الأعلى من المسافرين بـ4,4 مليون، تلاه مطار الملك خالد الدولي في الرياض بـ3 ملايين، فيما خدم مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي بالمدينة المنورة قرابة المليون، بينما تم تجاوز هذا الرقم في شركة مطارات الدمام، وتوز

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

بحث الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية السعودي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، اليوم (الخميس)، الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف في السودان، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين السودانيين والمقيمين على أرضه. وأكد الأمير فيصل بن فرحان، خلال اتصال هاتفي أجراه بغوتيريش، على استمرار السعودية في مساعيها الحميدة بالعمل على إجلاء رعايا الدول التي تقدمت بطلب مساعدة بشأن ذلك. واستعرض الجانبان أوجه التعاون بين السعودية والأمم المتحدة، كما ناقشا آخر المستجدات والتطورات الدولية، والجهود الحثيثة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية