دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً

دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً
TT

دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً

دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً

الدولة ليست مجرد نطاق جغرافي يعيش المواطنون في إطاره، أو مجموعة من المؤسسات تنظم حياتهم. الدولة أيضاً قد ترتبط بفكرة أو بمجموعة من الأفكار تميزها عن غيرها من الدول، وتمثل إطاراً مرجعياً للحركة السياسية بها، أو بعبارة أخرى، فإن الدولة هي كيان فكري بجانب كونها كياناً جغرافياً وقانونياً.
والحديث عن «الدولة الفكرة» ليس إسهاماً جديداً. فعلى سبيل المثال، تزخر المكتبة الأميركية بعديد من المؤلفات التي تحمل عنوان «الفكرة الأميركية»، والتي تنطلق بالأساس من وثيقة إعلان الاستقلال والدستور الأميركي، وتركز بشكل أساسي على مفهوم «الحرية»، باعتباره الفكرة المرجعية الأساسية التي اختارها الأميركيون كي تميزهم عن غيرهم منذ البداية، وما ارتبط بها من أفكار أخرى، مثل أن المواطنين لديهم حقوق أساسية، مثل حرية التعبير وحرية الدين وحرية التجمع.
والمتابع للجدل السياسي في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، سوف يجد أن «الفكرة الأميركية» أصبحت في قلب هذا الجدل، وأن ما تسمى «الحروب الثقافية» هي بالأساس خلافات حول «الأفكار» أو «القيم» التي يعتقد الأميركيون أنها يجب أن تكون الحاكمة أو المنظمة لمجتمعهم.
ففي أثناء فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، كان هناك فريق يعارض سياسته المقيدة للهجرة ودخول الأجانب، على أساس أنها غير «أميركية»، أي تتعارض مع فكرة الولايات المتحدة كمجتمع مفتوح، والتي وضعها الآباء المؤسسون للدولة. واليوم يثور جدل جديد حول مفهوم الحرية، بعد صدور قرار المحكمة العليا بتقييد حرية المرأة في الإجهاض كحق دستوري عام اعترفت به سابقاً. ورغم الانقسامات السياسية التي تصاحب هذا الجدل، يظل هناك اعتقاد جامع بين الأميركيين بأن بلادهم قامت على «فكرة»، أو أفكار، وليس مجرد نصوص دستورية أو هياكل سياسية.
الحديث عن «الفكرة» وراء الدولة ليس قاصراً فقط على الولايات المتحدة والغرب، فهناك إسهامات متعددة حول «فكرة الهند»، وسنجد كتابات تتحدث عن الهند كفكرة، أو «الهند حالة ذهنية»، ورؤية الهند كمساحة مفاهيمية، وليست فضاءً طبيعياً، واقتباس تعبير الشاعر الهندي طاغور بأن الهند «ليست إقليماً بل تفكير».
وتشير هذه الكتابات إلى أن «فكرة الهند» تقوم على التنوع والتسامح والتعددية، والتعايش بسلام بين الاختلافات، ويحذر البعض من أن هذه الفكرة تتعرض حالياً لخطر التآكل نتيجة للمد القومي الهندوسي، ومحاولة البعض تحديد الهوية الهندية بشكل أكثر من خلال الدين.
ورغم اختلاف التجربة التاريخية الأميركية عن الهندية، فإن تطوير «الفكرة» الخاصة بالدولة في كل منهما، ارتبط بأمرين متشابهين: الأول هو اختيار لحظة ينظر إليها على أنها لحظة «التأسيس» للدولة الحديثة، والثاني هو تحديد الآباء المؤسسين الذين ساهموا في بلورة هذه الفكرة. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الأمر كان سهلاً، فهي دولة حديثة تأسست على إعلان وثيقة الاستقلال الأميركية في 4 يوليو (تموز) عام 1776، والدستور الأميركي الذي تمت صياغته في 17 سبتمبر (أيلول) 1787، والتصديق عليه في 21 يونيو (حزيران) 1788. وهناك الإسهامات الفكرية للآباء المؤسسين للجمهورية الأميركية، مثل هاملتون وجيفرسون وغيرهما.
أما الحالة الهندية فكانت أصعب في اختيار لحظة التأسيس المرتبطة بالفكرة الهندية، بسبب العمق التاريخي والحضاري العميق لهذه الدولة، ولكن في النهاية اختار الهنود تاريخ الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، ثم دستور الهند لعام 1950، وأفكار المهاتما غاندي، وجواهر لال نهرو.
هل يمكن الحديث عن دولة «الفكرة»
في العالم العربي؟ الواقع أن إسهامات الفكر السياسي في الدول العربية لم تتعرض كثيراً لمفهوم «الفكرة» أو البعد الثقافي في تمييز الدولة العربية الوطنية. وقد حاول المفكر المصري جمال حمدان تحديد معالم للهوية المصرية، ولكن نقطة الانطلاق الخاصة به كانت الجغرافيا، أو ما أطلق عليه «عبقرية المكان».
ولكن تظل إمكانية بلورة «فكرة» للدولة الوطنية العربية أمراً وراداً، فالعديد منها له لحظة تأسيس حديثة يمكن البدء منها في تحديد الإطار الفكري المرجعي للدولة، كما يمكن تجميع التراث الفكري الذي ارتبط بهذه اللحظة أو انطلق منها.
هل هناك «فكرة» مصرية؟ يمكن القول إن مصر ليست فقط كياناً جغرافياً، ولكنها «فكرة» تكونت وترسبت عبر سنوات طويلة. وتختلف تجربة الدولة المصرية في أن لها لحظات تأسيس متعددة، منها لحظة تأسيس الدولة القديمة على يد الملك مينا موحد القطرين، وهناك لحظة التأسيس الحديثة بإعلان بريطانيا استقلال مصر وإنهاء حمايتها في 28 فبراير (شباط) 1922، والتي سبقتها ثورة 1919، وتلاها دستور 1923، وهناك إعادة التأسيس الذي ارتبط بثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952.
ولكن بالنظر إلى التاريخ الممتد للدولة المصرية، يمكن القول إن هناك عدداً من الأفكار التي تبلورت في إطار هذه الدولة، ومنها فكرة «الوسطية»، فكما يتدفق نهر النيل بمساره الرئيسي وسط الصعيد والدلتا، ويتفرع عن هذا المسار بعض الترع والقنوات الهامشية، فهناك أيضاً مسار أو شريان رئيسي للفكر المصري، يتسم بالوسطية والاعتدال، ويؤمن به غالبية المصريين، ولا يمنع ذلك من وجود أفكار متطرفة على التخوم والهوامش، بعضها قد يكون له صوت مرتفع، ولكنها لم تحتل أبداً المكانة الرئيسية في عقول وقلوب غالبية المصريين.
هناك أيضاً الفكرة المرتبطة بالانفتاح على الخارج، ورفض الانغلاق والعزلة أو الانكفاء على الذات؛ حيث شعر المصريون دائماً بأن دورهم يتجاوز حدودهم، فانفتحوا على الخارج، وامتدوا فيه، أحياناً بقوة السلاح، وكثيراً بقوة الفكرة والنموذج.
بالإضافة إلى الفكرة الخاصة بالتعايش مع الآخر داخل الوطن والقدرة على استيعابه، بما في ذلك من أصبح جزءاً من مصر نتيجة فتوحات أو غزوات، ومصر تكاد تكون الدولة الوحيدة التي بها متاحف لكل من الحضارة الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية، وكلها لها مكون محلي نما على أرض مصر.
والأفكار السابقة هي مجرد اجتهادات، والدراسة التاريخية مع اختيار لحظة التأسيس يمكن أن تحدد بشكل أفضل مكونات هذه الفكرة.
ولكن ما أهمية الحديث عن الدولة كفكرة؟
الواقع أن الحديث عن «فكرة» الدولة ليس الهدف منه دغدغة المشاعر الوطنية، أو صك عبارات شاعرية عن تميز دولة ما عن غيرها من الدول، ولكن المسألة لها أبعاد سياسية مهمة داخلياً وخارجياً.
فبلورة هذه «الفكرة»، وتحديد معالمها، يمكن أن يمثل البوصلة السياسية والفكرية للمجتمع، ويحد من ظاهرة الاستقطاب والانقسام السياسي، سواء بين التيارات المدنية بعضها مع بعض، أو بين الأخيرة والتيارات الدينية. والواقع أن الفكرة الوطنية قد أثبتت أنها الوحيدة القادرة على مواجهة فكرة التأسلم السياسي.
يضاف لذلك أن تضمين هذه «الفكرة» في مناهج التربية الوطنية والدراسات الاجتماعية سوف يسهم في بلورة الشخصية، ودعم الانتماء لدى أبناء الجيل الجديد من الشباب، في وقت تتعرض فيه الهويات والثقافات الوطنية لضغوط شديدة نتيجة لظاهرة العولمة.
وأخيراً، فإن مكانة عديد من الدول أصبحت ترتبط بقوتها الناعمة، و«فكرة» الدولة هي أحد مكونات هذه القوة، وأحد عناصر جاذبيتها كنموذج للآخرين.
باختصار: الدولة الحديثة بالعالم العربي تحتاج «فكرة» وطنية.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية



«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.