دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً

دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً
TT

دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً

دولة «الفكرة»... الولايات المتحدة والهند نموذجاً

الدولة ليست مجرد نطاق جغرافي يعيش المواطنون في إطاره، أو مجموعة من المؤسسات تنظم حياتهم. الدولة أيضاً قد ترتبط بفكرة أو بمجموعة من الأفكار تميزها عن غيرها من الدول، وتمثل إطاراً مرجعياً للحركة السياسية بها، أو بعبارة أخرى، فإن الدولة هي كيان فكري بجانب كونها كياناً جغرافياً وقانونياً.
والحديث عن «الدولة الفكرة» ليس إسهاماً جديداً. فعلى سبيل المثال، تزخر المكتبة الأميركية بعديد من المؤلفات التي تحمل عنوان «الفكرة الأميركية»، والتي تنطلق بالأساس من وثيقة إعلان الاستقلال والدستور الأميركي، وتركز بشكل أساسي على مفهوم «الحرية»، باعتباره الفكرة المرجعية الأساسية التي اختارها الأميركيون كي تميزهم عن غيرهم منذ البداية، وما ارتبط بها من أفكار أخرى، مثل أن المواطنين لديهم حقوق أساسية، مثل حرية التعبير وحرية الدين وحرية التجمع.
والمتابع للجدل السياسي في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، سوف يجد أن «الفكرة الأميركية» أصبحت في قلب هذا الجدل، وأن ما تسمى «الحروب الثقافية» هي بالأساس خلافات حول «الأفكار» أو «القيم» التي يعتقد الأميركيون أنها يجب أن تكون الحاكمة أو المنظمة لمجتمعهم.
ففي أثناء فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، كان هناك فريق يعارض سياسته المقيدة للهجرة ودخول الأجانب، على أساس أنها غير «أميركية»، أي تتعارض مع فكرة الولايات المتحدة كمجتمع مفتوح، والتي وضعها الآباء المؤسسون للدولة. واليوم يثور جدل جديد حول مفهوم الحرية، بعد صدور قرار المحكمة العليا بتقييد حرية المرأة في الإجهاض كحق دستوري عام اعترفت به سابقاً. ورغم الانقسامات السياسية التي تصاحب هذا الجدل، يظل هناك اعتقاد جامع بين الأميركيين بأن بلادهم قامت على «فكرة»، أو أفكار، وليس مجرد نصوص دستورية أو هياكل سياسية.
الحديث عن «الفكرة» وراء الدولة ليس قاصراً فقط على الولايات المتحدة والغرب، فهناك إسهامات متعددة حول «فكرة الهند»، وسنجد كتابات تتحدث عن الهند كفكرة، أو «الهند حالة ذهنية»، ورؤية الهند كمساحة مفاهيمية، وليست فضاءً طبيعياً، واقتباس تعبير الشاعر الهندي طاغور بأن الهند «ليست إقليماً بل تفكير».
وتشير هذه الكتابات إلى أن «فكرة الهند» تقوم على التنوع والتسامح والتعددية، والتعايش بسلام بين الاختلافات، ويحذر البعض من أن هذه الفكرة تتعرض حالياً لخطر التآكل نتيجة للمد القومي الهندوسي، ومحاولة البعض تحديد الهوية الهندية بشكل أكثر من خلال الدين.
ورغم اختلاف التجربة التاريخية الأميركية عن الهندية، فإن تطوير «الفكرة» الخاصة بالدولة في كل منهما، ارتبط بأمرين متشابهين: الأول هو اختيار لحظة ينظر إليها على أنها لحظة «التأسيس» للدولة الحديثة، والثاني هو تحديد الآباء المؤسسين الذين ساهموا في بلورة هذه الفكرة. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الأمر كان سهلاً، فهي دولة حديثة تأسست على إعلان وثيقة الاستقلال الأميركية في 4 يوليو (تموز) عام 1776، والدستور الأميركي الذي تمت صياغته في 17 سبتمبر (أيلول) 1787، والتصديق عليه في 21 يونيو (حزيران) 1788. وهناك الإسهامات الفكرية للآباء المؤسسين للجمهورية الأميركية، مثل هاملتون وجيفرسون وغيرهما.
أما الحالة الهندية فكانت أصعب في اختيار لحظة التأسيس المرتبطة بالفكرة الهندية، بسبب العمق التاريخي والحضاري العميق لهذه الدولة، ولكن في النهاية اختار الهنود تاريخ الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، ثم دستور الهند لعام 1950، وأفكار المهاتما غاندي، وجواهر لال نهرو.
هل يمكن الحديث عن دولة «الفكرة»
في العالم العربي؟ الواقع أن إسهامات الفكر السياسي في الدول العربية لم تتعرض كثيراً لمفهوم «الفكرة» أو البعد الثقافي في تمييز الدولة العربية الوطنية. وقد حاول المفكر المصري جمال حمدان تحديد معالم للهوية المصرية، ولكن نقطة الانطلاق الخاصة به كانت الجغرافيا، أو ما أطلق عليه «عبقرية المكان».
ولكن تظل إمكانية بلورة «فكرة» للدولة الوطنية العربية أمراً وراداً، فالعديد منها له لحظة تأسيس حديثة يمكن البدء منها في تحديد الإطار الفكري المرجعي للدولة، كما يمكن تجميع التراث الفكري الذي ارتبط بهذه اللحظة أو انطلق منها.
هل هناك «فكرة» مصرية؟ يمكن القول إن مصر ليست فقط كياناً جغرافياً، ولكنها «فكرة» تكونت وترسبت عبر سنوات طويلة. وتختلف تجربة الدولة المصرية في أن لها لحظات تأسيس متعددة، منها لحظة تأسيس الدولة القديمة على يد الملك مينا موحد القطرين، وهناك لحظة التأسيس الحديثة بإعلان بريطانيا استقلال مصر وإنهاء حمايتها في 28 فبراير (شباط) 1922، والتي سبقتها ثورة 1919، وتلاها دستور 1923، وهناك إعادة التأسيس الذي ارتبط بثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952.
ولكن بالنظر إلى التاريخ الممتد للدولة المصرية، يمكن القول إن هناك عدداً من الأفكار التي تبلورت في إطار هذه الدولة، ومنها فكرة «الوسطية»، فكما يتدفق نهر النيل بمساره الرئيسي وسط الصعيد والدلتا، ويتفرع عن هذا المسار بعض الترع والقنوات الهامشية، فهناك أيضاً مسار أو شريان رئيسي للفكر المصري، يتسم بالوسطية والاعتدال، ويؤمن به غالبية المصريين، ولا يمنع ذلك من وجود أفكار متطرفة على التخوم والهوامش، بعضها قد يكون له صوت مرتفع، ولكنها لم تحتل أبداً المكانة الرئيسية في عقول وقلوب غالبية المصريين.
هناك أيضاً الفكرة المرتبطة بالانفتاح على الخارج، ورفض الانغلاق والعزلة أو الانكفاء على الذات؛ حيث شعر المصريون دائماً بأن دورهم يتجاوز حدودهم، فانفتحوا على الخارج، وامتدوا فيه، أحياناً بقوة السلاح، وكثيراً بقوة الفكرة والنموذج.
بالإضافة إلى الفكرة الخاصة بالتعايش مع الآخر داخل الوطن والقدرة على استيعابه، بما في ذلك من أصبح جزءاً من مصر نتيجة فتوحات أو غزوات، ومصر تكاد تكون الدولة الوحيدة التي بها متاحف لكل من الحضارة الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية، وكلها لها مكون محلي نما على أرض مصر.
والأفكار السابقة هي مجرد اجتهادات، والدراسة التاريخية مع اختيار لحظة التأسيس يمكن أن تحدد بشكل أفضل مكونات هذه الفكرة.
ولكن ما أهمية الحديث عن الدولة كفكرة؟
الواقع أن الحديث عن «فكرة» الدولة ليس الهدف منه دغدغة المشاعر الوطنية، أو صك عبارات شاعرية عن تميز دولة ما عن غيرها من الدول، ولكن المسألة لها أبعاد سياسية مهمة داخلياً وخارجياً.
فبلورة هذه «الفكرة»، وتحديد معالمها، يمكن أن يمثل البوصلة السياسية والفكرية للمجتمع، ويحد من ظاهرة الاستقطاب والانقسام السياسي، سواء بين التيارات المدنية بعضها مع بعض، أو بين الأخيرة والتيارات الدينية. والواقع أن الفكرة الوطنية قد أثبتت أنها الوحيدة القادرة على مواجهة فكرة التأسلم السياسي.
يضاف لذلك أن تضمين هذه «الفكرة» في مناهج التربية الوطنية والدراسات الاجتماعية سوف يسهم في بلورة الشخصية، ودعم الانتماء لدى أبناء الجيل الجديد من الشباب، في وقت تتعرض فيه الهويات والثقافات الوطنية لضغوط شديدة نتيجة لظاهرة العولمة.
وأخيراً، فإن مكانة عديد من الدول أصبحت ترتبط بقوتها الناعمة، و«فكرة» الدولة هي أحد مكونات هذه القوة، وأحد عناصر جاذبيتها كنموذج للآخرين.
باختصار: الدولة الحديثة بالعالم العربي تحتاج «فكرة» وطنية.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».