يزيد الدولار فتزيد أسعار السلع والخدمات حول العالم، لأنه العملة الأكثر تداولا عالميا، إذ يستحوذ على 50 في المائة من تداولات سوق العملات.
ومع الأزمات والاضطرابات العالمية يلجأ المستثمرون إلى الملاذات الآمنة، ولعل أبرزها هنا الدولار الأميركي الذي زادت جاذبيته بسبب ارتفاع أسعار الفائدة عليه، فبدأت عمليات سحب ملحوظة من معظم الأسواق الناشئة والنامية لشراء السندات وأذون الخزانة الأميركية.
تزيد هذه الضغوط على الدول النامية والناشئة وترفع تكلفة الديون بالنسبة للدول والشركات، بجانب ارتفاع أسعار السلع المستوردة، إذ عادة ما يؤثر ارتفاع الدولار على جميع أسعار السلع والعملات الأخرى، لأنه يجعل السلع المقومة بالدولار أكثر غلاء على حائزي العملات الأخرى.
ورغم تداول الدولار الأميركي بشكل ثابت في بداية معاملات الجلسة الأوروبية أمس الأربعاء، ليبقى قريباً من أعلى قمة له خلال 20 عاما والتي بلغها يوم الاثنين الماضي، غير أنه ارتفع على الفور بعد الإعلان عن معدلات التضخم الأميركي لشهر يونيو (حزيران)، والتي بلغت 9.1 في المائة، وهي الأعلى منذ 4 عقود.
تعد أسعار المستهلك الأميركي هذه أعلى من اللازم، وفق ريكاردو إيفانجليستا محلل العملات في شركة ActivTrades للوساطة المالية، وهو ما «يدفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لأن يستمر وربما يكثف برنامجه لرفع أسعار الفائدة». أوضح إيفانجليستا لـ«الشرق الأوسط»، أن «هذا السيناريو ينطوي على مزيد من المكاسب للدولار».
استمرار ارتفاع الدولار هنا يأتي كنتيجة مباشرة لزيادة أسعار الفائدة على مدار 3 مرات متتالية والمتوقع استمرارها بعد أرقام التضخم الأميركي القياسية، وهو ما من شأنه أن يزيد من قوة العملة الأكثر تداولا في العالم خلال الفترة المقبلة.
- كبح جماح التضخم الأميركي
محمد متولي الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة «إن آي» كابيتال القابضة للاستثمار، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن قوة الدولار تساعد في كبح جماح التضخم الذي يجتاح الولايات المتحدة وزيادة القوة الشرائية للمواطن الأميركي، ولكن يبقى التحدي الأكبر هو التضخم الناتج من الخلل الشديد الذي حدث في سلاسل الإمداد والذي أدى إلى قصور في قوى العرض العالمية.
أضاف متولي «هذا الخلل الذي بدأ مع وباء (كورونا) وازداد قوة مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا ورد روسيا عليها».
يرى متولي أن العكس تماما يحدث لبقية دول العالم وخاصة دول العالم الناشئ، والتي تعاني من عجز تجاري، حيث «أدى ارتفاع الدولار إلى زيادة تكلفة الاستيراد، وبالتالي للمزيد من التضخم، كما أدى إلى خفض القوة الشرائية للمواطن غير الأميركي، وخلق القصور في قوى العرض تضخما إضافيا أدى لتفاقم التضخم وندرة السلع في الكثير من دول العالم».
خلقت الزيادة في قيمة الدولار عبئاً جديداً على الاقتصاد العالمي، حيث ارتفعت تكلفة الديون الدولارية السيادية وديون الشركات، وفق متولي، الذي أوضح أن «هذا الارتفاع تسبب في عجز بعض الدول عن سداد مستحقات تلك الديون، كما أدى إلى سحب ما يزيد على 50 مليار دولار من صناديق الاستثمار في ديون الدول الناشئة في النصف الأول من العام الحالي، وتوجيهها لسندات الخزانة الأميركية».
وختم متولي قائلا: «نتج عن ذلك وصول تكلفة الإصدارات الجديدة لمعدل لا تستطيع الدول الناشئة مجاراته، مما جعل إعادة التمويل عملية غير مجدية، وبالتالي فمن المتوقع المزيد من العجز عن السداد واحتمال حدوث انهيار في سوق السندات الدولارية للدول الناشئة، مما قد يؤدي لأزمات اقتصادية وسياسية وإنسانية على مستوى العالم».
- الدولار أمام سلة العملات
يتم تسعير العملات أمام عملات أخرى، وهناك 6 عملات رئيسية في سلة معتمدة من صندوق النقد والبنك الدوليين، هي: الدولار واليورو والإسترليني والين الياباني واليوان الصيني والفرنك السويسري. من الممكن أن نرى ارتفاع الدولار أمام اليورو وهبوطه أمام الإسترليني والعكس صحيح، غير أن مؤشر الدولار الذي تحرك منذ بداية حرب أوكرانيا من 98 نقطة إلى 108 نقاط، (تخطى هذا المستوى بقليل بعد الإعلان عن معدلات التضخم الأميركية أمس) يعني أن الدولار ارتفع أمام جميع العملات الأخرى في السلة، وبالتالي عملات العالم المختلفة.
أوضح أحمد معطي الرئيس التنفيذي لشركة «VI» ماركتس للاستشارات المالية في مصر، أن زيادة الطلب على الدولار عالميا تؤثر سلبا على العملات الأخرى، وأي سلع مقومة بالدولار أيضاً، ومن هنا توقع تراجع معدلات نمو الاقتصادات الكبرى نتيجة قوة الدولار المسيطر، وبالتالي تراجع الاقتصاد العالمي.
وقال معطي لـ«الشرق الأوسط»: «ارتفاع الدولار سلبي على اقتصادات العالم أجمع... كلما ارتفع الدولار تزيد احتمالية الركود الاقتصادي العالمي».
يرى معطي أن مستوى 115 نقطة لمؤشر الدولار أمام سلة العملات، ستعد ذروة الارتفاع أو القمة التي يبدأ الدولار من عندها منحنى هبوط، لأن وقتها ستتراجع تنافسية الصادرات الأميركية أمام نظيرتها من الدول الأخرى. غير أنه أشار إلى «حتى حدوث هذا السيناريو، ستتجه عادة باقي دول العالم لرفع أسعار الفائدة وهو ما يسرع من وتيرة الركود الاقتصادي».
يقول معطي: «لكل مرحلة ضحاياها، وقوة الدولار تزيد من الضحايا، نتيجة ارتفاع التضخم المستورد للدول المستهلكة...».
أما تأثير قوة الدولار على الاقتصاد الأميركي نفسه، أوضح معطي أنه سلاح ذو حدين، يتمثل الأول، في الشق الإيجابي، نظرا لتدفق الاستثمارات غير المباشرة على الاقتصاد الأميركي، أما الشق السلبي، يتمثل في تراجع معدلات الاستهلاك الداخلية في أميركا، وهي محرك رئيس في معدلات النمو.
أشار معطي هنا إلى أن معدلات الاستهلاك الأميركية مستقرة حاليا، لكن مع زيادة الأسعار ستقل بالتدريج، وبالتالي ستتراجع معدلات النمو، وهنا سيتوقف الفيدرالي الأميركي بالضرورة عن رفع أسعار الفائدة.
ويرى معطي مؤشرين قد يدلان على بداية نمو اقتصادي عالمي، ودورة صعود للاقتصاد العالمي من جديد، وهما: توقف الفيدرالي الأميركي عن رفع أسعار الفائدة وتراجع أسعار النفط لمستويات 60 - 80 دولارا للبرميل.