هجرة الكتاب المغربي من الدار البيضاء إلى الشمال

حركة النشر تتراجع في معقلها الأساسي

جانب من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط 2022
جانب من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط 2022
TT

هجرة الكتاب المغربي من الدار البيضاء إلى الشمال

جانب من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط 2022
جانب من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط 2022

يمكن القول بأن من القضايا التي لم يتم التطرق إليها في فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالرباط في دورته الأخيرة، هي قضية النشر في المغرب، وهذا ما يمكن ملاحظته في تراجع معروضات الدور المغربية إلى حد كبير. ومظاهر التراجع هذه تبدت أساساً منذ (2019)، وبالأخص بالنسبة للدور الموجودة أصلاً بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، كـ«دار الثقافة» و«الشركة الجديدة»، و«المركز الثقافي العربي» (الدار البيضاء - بيروت) و«دار توبقال».
وتعد «دار الثقافة» من أقدم الدور المغربية؛ إذ تأسست نهاية الأربعينات، وأشرف على إدارتها كل من الشريف القادري الحسني وعبد الحفيظ الكتاني. وتولت مهمة النشر لكبار الكتاب والمفكرين والأدباء. إذ نشرت كتاب «العصبية والدولة» لمحمد عابد الجابري، وكتاب «الخطاب التاريخي» لعلي أومليل و«سيمياء الشعر القديم» لمحمد مفتاح مثلما نشرت الكتب اللغوية والنحوية لتمام حسان (مصر) والأدبية لمحمد البهبيتي (مصر)، وهي مؤلفات لا تزال معتمدة جامعياً إلى اليوم. ولعل ما يمكن إضافته استحداثها سلسلة أدبية وسمت بـ«سلسلة الدراسات النقدية»، وقام بالنشر فيها من النقاد والكتاب سعيد يقطين، ومحمد العمري، وعبد الكريم برشيد وكاتب هذه السطور.
إلا أن العوامل التي واجهت الدار وحالت دون الاستمرار في وتيرة النشر ذاتها، بالإضافة إلى منافسة دور جديدة، الافتقاد لخطة في النشر محكمة، وإلى غياب لجنة للقراءة والتحرير؛ مما جعل الدار تركز على جانبين: تجاري يتمثل في استيراد الكتاب من مصر وبيروت وتونس، وعلى الاعتماد على طبع ونشر الكتاب المدرسي الذي حققت من خلاله الدار موارد مالية لا يستهان بها.
وكان تأسيس المركز الثقافي العربي على يد نزار فاضل القادم من لبنان كمكتبة أولاً في (1958) ثم كدار للنشر في مرحلة لاحقة (1978)، قد دفع إلى ربط الجسور بين المغرب والمشرق. إذ تمكن القارئ المغربي مبكراً من التعرف على ثمرات المطابع وبخاصة القادمة من لبنان، والتي أسهمت فيها دور تمتلك قوة حضور، مثل «دار الآداب»، «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» و«مؤسسة الأبحاث العربية» و«دار الحداثة» و«الفارابي». وكان الكتاب اللبناني يسوّق تجارياً في ظرف شهر إلى شهرين على ظهوره في لبنان.
وتعززت هذه النهضة الفكرية والأدبية، بالتحول إلى التعريف بالفكر والأدب المغربيين. وهو الدور المميز موضوعياً لمؤسسة المركز الثقافي العربي. وفي هذا الجانب عُرفت الدار بطبع مؤلفات لكتاب ومفكرين مثل عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وطه عبد الرحمن، وسعيد بنسعيد العلوي، وعبد السلام بعبد العالي، وعبد الفتاح كيليطو، وسعيد يقطين وسعيد بنكراد. وجاءت فكرة النشر مشتركة و«دار التنوير» في بداياتها، ثم «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، ليستقل المركز لاحقاً بعملية النشر.
إلا أن قطع العلاقات التجارية مع العديد من الدور اللبنانية لأسباب مختلفة، جعل الدار تؤول إلى التفكك والتقسيم، حيث غادرها مسؤول فرع بيروت حسن ياغي وأسس تجربته الخاصة من خلال «دار التنوير» التي ظلت حاضرة بفروعها في ثلاث عواصم عربية: مصر، تونس وبيروت. وأما المدير العام للمركز في المغرب بسام كردي فأسس «المركز الثقافي للكتاب» بالدار البيضاء.
أما دار «توبقال» فتأسست أواسط الثمانينيات (1985)، من قبل الشاعر محمد بنيس عبد الجليل ناظم ومحمد الديوري، بمساندة كتاب وأدباء وأكاديميين. وتوزعت إصداراتها بين الكتب التاريخية، الفلسفية، الأدبية والاجتماعية، جامعة في إصداراتها بين الكتاب المغربي والعربي. ومن بين الكتاب المغاربة الذين نشرت لهم: محمد المنوني، وعبد القادر الفاسي الفهري، ومحمد سبيلا، ومحمد مفتاح، وعبد السلام بنعبد العالي، وسالم يفوت، وعبد الفتاح كيليطو، وأحمد بوزفور، وعبد الكريم غلاب، ربيعة ريحان وغيرهم. وأما عربياً، فنشرت لأدونيس، ومحمود درويش، وحليم بركات، وهشام شرابي، وسركون بولص، وسليم بركات ويمنى العيد، وغيرهم. وانفتحت الدار على السواء على كتاب من المغرب العربي (تونس خاصة)، فنشرت لشكري المبخوت والحبيب السالمي وحسونة المصباحي. ومن ضمن ما جاء في ديباجة للدار صيغت منذ سنتين ونشرت على موقع الدار «بلغت دار توبقال للنشر مع 2020، سنتها الخامسة والثلاثين. في بداية 1985 كانت الخطوة الأولى لإنشاء الدار. وكان إصدار اللائحة الأولى من كتبها في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) من السنة ذاتها.
انطلق المشروع من رؤية واضحة. فنحن نريد أن نعطي المغرب داراً للنشر تستجيب للتحديث الثقافي».
وكانت الدار قد احتفت في إحدى دورات المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، بصدور كتابها المائة، فما كان من أحد الناشرين اللبنانيين إلا أن علق بالقول: إن مائة عنوان نصدرها - نحن اللبنانيين - في شهر أو شهرين.
والملاحظ أن الدار اعتمدت في الآونة الأخيرة على دعم وزارة الثقافة، حيث نشرت الأعمال الكاملة لعبد الفتاح كيليطو وعبد السلام بنعبد العالي، وهي اليوم معروضة للبيع؛ إذ يتوقع - حسب المتداول - أن تتم عملية شرائها من طرف «دار الرافدين» (العراق) أو «المركز الثقافي للكتاب» أو «دار الأمان» (الرباط).
وإذا كان التراجع، كما سلف، قد طبع حركية النشر بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، فإن ما يبعث على التفاؤل ظهور دور نشر مغربية جديدة في شمال المغرب، وبالأخص في مدينتي طنجة وتطوان. ففي طنجة استطاعت ثلاث دور صغيرة في مدة زمنية وجيزة فرض حضورها بمراكمة إصدارات مختلفة في الأدب والتاريخ والفلسفة وباللغتين العربية والفرنسية، وهي دار سليكي إخوان» و«دار فاصلة» و«دار أكورا». وأما في تطوان، فنجد مؤسسة «بيت الحكمة» وهي دار رسخت حضورها في مجال النشر والتوزيع، مما أهلها للمشاركة في دورات المعارض العربية.
ويرى بعض المتتبعين بأن الشمال سيلعب مستقبلاً دوراً بارزاً على مستوى النشر طبعاً وتداولاً. إذ لم تعد الحكاية تتلخص في أن من يريد طبع كتاب عليه الانتقال من طنجة أو تطوان إلى الدار البيضاء كما حصل مثلا مع محمد شكري حين طبع «الخبز الحافي»، وإنما على كاتب الدار البيضاء التوجه إلى طنجة ليصدر كتابه!
* كاتب مغربي



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.