الكولونيالية والهويات.. على رأس ملتقى القاهرة الدولي للثقافات الأفريقية

بمشاركة مائة باحث من 23 دولة في القارة

في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى  -  شعار المؤتمر
في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى - شعار المؤتمر
TT

الكولونيالية والهويات.. على رأس ملتقى القاهرة الدولي للثقافات الأفريقية

في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى  -  شعار المؤتمر
في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى - شعار المؤتمر

بعد توقف دام أربع سنوات ونصف، وفي ظل ظروف اقتصادية وسياسية ودينية تعصف بالقارة السمراء وبلدانها، انطلقت أول من أمس فعاليات الدورة الثانية لـ«ملتقى القاهرة الدولي لتفاعل الثقافات الأفريقية»، تحت عنوان «الهوية الأفريقية في الفنون والآداب»، بمقر المجلس الأعلى للثقافة بدار الأوبرا المصرية.
يشارك في الملتقى ما يقرب من مائة باحث ومفكر أفريقي من 23 دولة أفريقية هي: ليبيا، وتونس، والمغرب، والجزائر، والسودان، وإثيوبيا، وأوغندا، وبوروندي، وتشاد، وتنزانيا، وجنوب أفريقيا، وجنوب السودان، والسنغال، وغانا، وغينيا، وساحل العاج، والكونغو، ومالاوي، وموريتانيا، وموزمبيق، والنيجر، ونيجيريا، بالإضافة إلى مصر الدولة المنظمة.
وفي افتتاح الملتقى، أعلن وزير الثقافة المصري عبد الواحد النبوي عن تأسيس «وحدة أفريقيا» بوزارة الثقافة تعنى بكل ما يخص دعم العلاقات والتبادل الثقافي بين مصر ودول القارة، على أن يقوم عليها مجموعة من الأدباء والمثقفين والفنانين بعقد أنشطة ثقافية ترسخ الهوية الأفريقية على مدار العام، مشيرا إلى أن الوزارة تدرس تدشين مركز ثقافي أفريقي دولي مقره القاهرة يقدم أنشطته في أنحاء القارة. وقال: «لا يمكن تجاهل الثقافة كجسر تواصل بين شعوبِنا تقوي أواصر العلاقات، وهي لا تقل أهمية عن العناصر الاقتصادية والعسكرية لأي دولة». وطالب الوزير المشاركين بوضع سيناريوهات مستقبلية لتفعيل التبادل الثقافي، مركزا على أهمية السينما والأدب والفنون كعناصر ثقافية فعالة لمخاطبة الشعوب بقضاياها.
ولفت الدكتور محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، في كلمته إلى أن «أهمية انعقاد المؤتمر باعتباره محاولة لاستعادة القوة الناعمة لمصر، وهو يدل على رغبة عارمة في التخلص من الصراعات التي تضرب أرجاء القارة، وعودة للتأكيد على عمق العلاقات بين مصر والدول الأفريقية، التي هي في الأساس تعود لعصور سحيقة، مشيرا إلى أثر الأزهر والكنيسة المصرية في أفريقيا، وكيف قدمت أفريقيا لمصر الكثير من الأدباء والمؤرخين أمثال عبد الرحمن الجبرتي..»، معربا عن سعادته بتفاعل المشاركين ورغبته في أن يكون الملتقى سنويا ولمدة أسبوع.
وألقى الدكتور معلمو سنكورو، من تنزانيا، كلمة المشاركين، مؤكدا فيها على ضرورة وضع الثقافة كأولوية ضمن برامج التنمية الاقتصادية والسياسية في القارة الاهتمام بالهوية الأفريقية، مشددا على أهمية الثقافات الشعبية وتدريسها ضمن المناهج التعليمية، وخاصة أن القارة بها أعلى معدل لنسب الشباب في العالم، مطالبا المثقفين بمزيد من الجهد لمحاولة صوغ تعريفات للهوية الأفريقية في ظل تنوعها وثرائها.
وصرح د. حلمي شعراوي، مقرر الملتقى، بأن «الملتقى يعقد في أقسى ظروف التعصب والإقصاء والعنف الإرهابي، لكن المشاركين في المؤتمر راغبون بقوة في دعم مراكز الثقافة والتوثيق في القارة وربطها ببعضها البعض، فنحن نوجه عبر هذا الملتقى رسالة للمؤسسات الحكومية لخلق إنجاز فعلي للتفاعل الثقافي بين شعوب القارة».
وقالت الكاتبة والصحافية زبيدة جعفر من جنوب أفريقيا، لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أن الملتقى يلعب دورا هاما في التواصل مع الكتاب الفارقة لأن اللقاء الشخصي والحوار والنقاش ينقل لنا الكثير مما يحدث في مصر وشمال أفريقيا بعد الثورات». وشاركت زبيدة بورقة بحثية أشارت فيها إلى أن الأشكال الفنية والأدبية السائدة في جنوب أفريقيا تدور حول السياق الأوروبي وأنه حتى في حقب ما بعد الاستعمار تدور في إطار أوسع من الهيمنة الأنجلو أوروبية، حيث لا يوجد متسع لاستكشاف التقاليد والعادات القديمة بدرجة تكفي لتكوين سردية مختلفة. وأكدت أنه مع تحول جنوب أفريقيا باتجاه النضج الديمقراطي أصبحت هناك حاجة ماسة إلى التخلص من التعريفات المقيدة واستجلاء التعقيدات التي تمثل نبض الحياة المحلية في بلد ظل تحت الاستعمار أكثر من 3 قرون.
بدأت أولى جلسات المؤتمر بالحديث عن «الهوية الأفريقية بين التفاعل الثقافي والصراع»، وتحدث فيها الباحث السوداني د. حيدر إبراهيم، عن «الشخصية الأفريقية وتصارع الهويات: زمن العولمة ومخاطر التطرف في القبول والرفض»، مشيرا إلى غموض مفهوم الهوية معتبره أقرب إلى الوهم، وأن بحث الهويات الأفريقية عمل عقيم ومضر مع وجود هذا التنوع الثقافي الهائل وقال: «مصطلح (الزنوجة) في الثلاثينات كان محاولة لتحويل عقدة اللون إلى مصدر فخر، لكن اللون لا يمكن أن يكون هوية وهو ما عاتب به د. محمود أمين العالم الشاعر محمد الفيتوري حينما كتب قصيدة عن اللون».
وألقى باللوم على افتخار بعض الأفارقة بـ«البراءة الكاملة»، باعتبار أن الأفارقة لم يقهروا الطبيعة ولم يخترعوا شيئا يغير من حياة البشر وأنها ليست أرضا للحداثة. وأضاف: «تميزت أفريقيا المعاصرة بفشل الدولة وفشل المجتمع، مما جعلها مكشوفة للعولمة والرأسمالية المستوحشة، والتطرف الديني الإرهابي، وعودة القبلية والعنصرية بأشكال متجددة. وتعجز أفريقيا في عملية الولوج في الحداثة، فتقنع بتجديد الاستبداد وبعث التخلف والتبعية في كؤوس جديدة. وهي مثقلة بالفقر، والجوع، والأوبئة، والفساد والقمع. وهذه ظروف تعمل على (حيونة) الإنسان الأفريقي وتحرمه من أوقات الفراغ، ومن الوصول إلى وسائل الثقافة الراقية والجادة».
بينما ذهب «سابيلو جاتشيني» من جنوب أفريقيا، للحديث عن كيفية تفادي صراع الحضارات، في ظل ما كرسه الاستعمار من تراتبية عنصرية طبقا للكثافات الأنطولوجية المغايرة، مشيرا إلى أن غاية الفكر الإمبريالي والعنصرية العلمية إعادة إنتاج الحضارات الأفريقية في صورة أشكال بدائية، محكوم عليها بالموت. وقال إن «أفريقيا لا تزال تخوض (حربا ثقافية) وعليها أن تحدث تحولا ديمقراطيا في الأبستمولوجيا الأوروبية - الأميركية الشمالية التي تنكر وجود المعارف والثقافات الأخرى، والتي عملت على تجريد الشعوب الأفريقية من إنسانيتها».
واتفق معه مواطنه الباحث «سيمفيوي سيسانتي»، قائلا إن «النخب الأفريقية التي يحركها السعي لاحتكار السلطة سعت للحديث عن تاريخ الأوروبيين في أفريقيا حتى تتمكن من التلاعب بالجماهير، لذلك تستغل فقدان الذاكرة الثقافي الذي تعاني منه الشعوب الأفريقية، والذي تسبب فيه الاستعمار لتزعم أن المحكومين تاريخيا وثقافيا يتقبلون بصورة عمياء وغير نقدية كل شيء وأي شيء يمليه عليهم حكامهم».
ودعا العميد السابق لمعهد البحوث والدراسات الأفريقية «السيد فليفل» إلى بلورة رؤية ثقافية واضحة للاتحاد الأفريقي، مطالبا بتأسيس «المفوضية الأفريقية للشؤون الثقافية» لتصحيح صورة الأفارقة في العالم، وطلب من المؤرخين والروائيين والمفكرين والسينمائيين والصحافيين، التركيز على الجوانب الإيجابية للشخصية الأفريقية في أعمالهم حتى يشكل هذا حافزًا على التفاؤل ومقاومة الإحباط ويمنع الأجيال الجديدة من الاستسلام للتخلف والقبول به باعتباره واقعًا لا مناص منه.
وحول دور وسائل إعلام العولمة المؤثرة في الثقافة الأفريقية، تحدث الكاتب الإثيوبي سولومون هايليماريام، عن تأثر الإنسان الأفريقي بوسائل الاتصالات الحديثة، لكن العولمة استطاعت تجريد الشباب من جذورهم الثقافية وأصبحوا يقلدون كل ما هو أوروبي وأميركي متخلين عن أزيائهم وتقاليدهم، مشيرا إلى أن الصورة العامة لأفريقيا لم تتغير في ظل العولمة، بل يعاد تكريسها وفقا لاستراتيجيات الدول الأوروبية الرأسمالية.
بينما تحدث النيجيري «ساليسو بالا» عن «التقاليد والحس التاريخي في الأدب الأفريقي»، مركزا على أهمية الوثائق العربية في كتابة التاريخ الأفريقي التي تحتوي على تراث الماضي الأفريقي في مجالات التاريخ والتنجيم والجغرافيا وعلم النفس، تدحض المقولة الاستعمارية «أفريقيا ليس لها تاريخ قبل قدوم الاستعمار». تلك المخطوطات متاحة في صورة مجلدات ضخمة في مصر ونيجيريا ومالي وشرق أفريقيا وغامبيا السنغالية، لافتا إلى خطورة تناثر المخطوطات الأفريقية بين أيدي الأفراد والعلماء وضرورة حفظها في مكتبات أو مؤسسات عامة، قائلا: «الكثير من المخطوطات غير مصنف أو مفهرس ولم تتم ترجمته إلى لغات أخرى لتمكين الباحثين غير العرب من الاطلاع عليها».
وخصص الملتقى محورا لمناقشة «الآداب الأفريقية»، تحدث فيه الناقد والكاتب شوقي بدر عن «الرواية في أفريقيا»، لافتا إلى أنها تدخل منحنى التحولات في تراكم منجزها، بعد كثير من التهميش، وتناول أعمال النيجيري «وول سونيكا»، ومن جنوب أفريقيا «نادين جورديمير»، و«ج إم كويتزي»، ومن مصر «نجيب محفوظ» والذين وصلت أعمالهم لآفاق عالمية وحصدوا على جائزة نوبل، فضلا عن عدد كبير من الكتاب الأفارقة ذوي الصيت العالمي: شينوا أتشيبي من نيجيريا وعثمان سمبيني من السنغال، ومونجو بيتي من الكاميرون، ونفوجي وأثيونجو من كينيا، وغيرهم.
ولفت بدر إلى أن «الكُتاب ذوي الأصل الأفريقي في أميركا كان لهم الفضل في إنجاز أدبي نبع من جذورهم التي قدموا منها، استطاعوا من خلاله التمرد على العنصرية ومنهم: ريتشارد رايت، وجيمس بولدوين، وأليكس هيل».
وتطرقت أوراق بحثية لتجسيد الأدب الأفريقي للحياة اليومية للإنسان الأفريقي ومعاناته التي تعتبر إرثا يتوارثه من أجداده، إذ إن آثار الاستعمار الغاشمة لا تزال تطارد أجيالا متعاقبة. منها: ما طرحه الأديب منير عتيبة عن قلق الهوية في رواية «خرائط»، للأديب الصومالي نور الدين فراح. كما تطرقت الأديبة المصرية سلوى بكر إلى نصوص من الأدب السوداني لبشرى الفاضل وأمير تاج السر، وغيرهم؛ تعكس تداخل العناصر الثقافية العربية والأفريقية عبر موتيفات سردية منحت الأدب السوداني خصوصية في إمكانيات التلقي والقراءة.



ما سرّ هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها؟

قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة
قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة
TT

ما سرّ هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها؟

قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة
قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة

شهدت المواقع الأثرية الواقعة في الإمارات العربية خلال العقود الأخيرة سلسلة متواصلة من حملات التنقيب كشفت عن مجموعات متعددة من اللقى، منها مجموعة مميزة من القطع العاجية الصغيرة المزينة بنقوش تصويرية. عُثر على القسم الأكبر من هذه القطع في مقابر تعود إلى مطلع الحقبة الميلادية، ممّا يوحي بأنها تنتمي إلى الفنون الجنائزية كما يبدو، وتمثّل تقليداً محلياً خاصاً ازدهر خلال تلك الحقبة في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.

شهد متحف إسبانيا الوطني للآثار في مدريد خلال ربيع عام 2016 معرضاً خاصاً بآثار إمارة الشارقة، ضمّ 240 قطعة من اللقى متعددة الأنواع، منها قطعة عاجية مستطيلة صغيرة تُمثّل قامة أنثوية نُقشت ملامحها بأسلوب يغلب عليه الطابع التجريدي الهندسي. يبلغ طول هذه القطعة 8.25 سنتيمتر، وعرضها 3 سنتيمترات، ومصدرها موقع دبا الحصن الأثري الذي يحمل اسم المدينة التي تطلّ على ضفاف الشاطئ الغربي لخليج عمان، وتُشكّل في زمننا الامتداد الشرقي الطبيعي لإمارة الشارقة.

تتألّف هذه القطعة من 3 خانات متوازية. الخانة العليا مقوّسة، وتُمثّل رأساً أنثوياً في وضعية المواجهة، حدّدت ملامحه بشكل مختزل. الوجه كتلة دائرية، مع امتداد بسيط في وسط الجزء الأسفل، يجسّد على الأرجح العنق. العينان دائرتان كبيرتان، يتوسّط كلاً منهما ثقب يمثّل البؤبؤ. الأنف شق عمودي بسيط، والفم شق أفقي صغير. الشعر على شكل هلال يعلو الرأس، وخصلاته شبكة من الخطوط العمودية المتوازية تنسدل على شق الكتفين المستقيمين. الخانة الوسطى على شكل مكعّب، تمثّل صدر البدن، ويعلوها عقد تتمثل حبّاته بشبكة مشابهة، تستقرّ فوق دائرتين تحتلّان الجزء الأوسط، تماثلان في تأليفهما العينين بشكل متطابق، مع شق في الوسط يماثل شق الأنف. يتحوّل هذا الصدر إلى وجهٍ ثانٍ، يحدّه شقان هلاليان تحيط بهما الذراعان الملتصقتان بالبدن. الخانة الثالثة أكبر حجماً، وهي مستطيلة، وتمثّل الحوض والساقين، مع مثلّث في الوسط يخرقه شق عمودي في الوسط. تحيط بهذا المثلث شبكة من الخطوط الأفقية ترتسم فوق سلسلة من الشرائط العمودية، تزين كما يبدو فخذَي الساقين.

نقع على قطعة أخرى من هذا الطراز، مصدرها كذلك من دبا الحصن، تمثّل تأليفاً يختلف في مكوّناته. الوجه مثلّث، وتنحصر ملامحه بعينين دائرتين يخرق كلاً منهما ثقب البؤبؤ، وأنف على شكل خانة مستطيلة غاب عنها الشق الأعلى. تحيط بهذا المثلث كتلة مقوّسة تعلوها شبكة من الخطوط العمودية ترسم خصلات الشعر المنسدلة بشكل مستقيم على الكتفين. تعلو الصدر دائرتان متماثلتان تستقرّان فوق يدين مجرّدتين مرفوعتين نحو الأعلى، حُدّدت أصابعهما على شكل أسنان المشط. يحضر الخصر تحت هاتين اليدين المثلثتين، وتحدّه مساحة أفقية تتّخذ كذلك هذا الشكل الهندسي. يعلو هذه المساحة مثلث يمثّل الحوض، يخرقه في الجزء الأسفل شق عمودي. تحدّ هذا المثلث ساقان مقوّستان، توحيان بأن صاحبتهما في وضعية القرفصاء. القدمان كتلتان كبيرتان مسطحتان، وأصابعهما محدّدة مثل أصابع اليدين.

تمثّل كلّ من هاتين القطعتين اللتين خرجتا من موقع دبا الحصن الأثري نموذجاً فنياً يتكرّر في مجموعة كبيرة من القطع مصدرها مدينة الدُّور التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور حين استكشفته بعثة عراقية بين عامي 1973 و1974، بعدها تناوبت فرق تنقيب أوروبية متعدّدة على العمل فيه، وكشفت عن مبانٍ متنوعة، وسلسلة من القبور حوت مجموعات كبيرة من اللقى يعود تاريخها إلى القرن الأول الميلادي. عُثر على ألواح عاجية أنثوية في 5 من هذه القبور، وهي من الحجم الصغير، ويتراوح طولها بين 7 و4 سنتيمترات، وعرضها بين 3 و2 سنتيمتر. تبدو هذه المجموعة الأكبر من نوعها في الإمارات، وتماثل قطعها قطعاً أخرى مصدرها موقع مليحة الذي يبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشارقة، وموقع أعسمة الذي يقع في جبال الحجر ويتبع إمارة رأس الخيمة. خارج الإمارات، يحضر هذا الطراز بشكل عارض كما يبدو، وينحصر هذا الحضور بقطعتين عُثر عليهما في مقبرة أبو صيبع، في شمال جزيرة البحرين.

عُثر على القسم الأكبر من القطع في مقابر تعود إلى مطلع الحقبة الميلادية ممّا يوحي بأنها تنتمي إلى الفنون الجنائزية

تمثل القطعة التي عُرضت في متحف إسبانيا الوطني للآثار نموذج المرأة المستقيمة الذي يتكرّر عبر تنويعات مختلفة في العديد من القطع التي عُثر عليها في مدينة الدُّور الأثرية، ويتميّز هذا النموذج بذراعين ملتصقتين بالبدن. في المقابل، تمثل القطعة التي تمثّل امرأة في وضعية القرفصاء نموذجاً مغايراً، تتعدّد تنويعاته كذلك في مدينة الدُّور، كما في المواقع التي تتبع في زمننا الشارقة ورأس الخيمة. ويتميز هذا النموذج بيدين مرفوعتين، ترتسمان فوق مساحة الصدر. إلى جانب هذين النموذجين اللذين تحضر فيهما الأنثى عارية، يظهر نموذج ثالث ترتدي فيه هذه الأنثى ثوباً تزيّنه شبكة من الخطوط الغائرة، تختلف تقاسيمها بين قطعة وأخرى. يحضر هذا النموذج في مجموعة محدودة من القطع مصدرها موقعا مليحة ودبا الحصن في الشارقة، وموقع أعسمة في رأس الخيمة. وتقابل هذه القطع قطعتان من مدينة الدُّور، كشفت عنهما بعثة بريطانية خلال عملها في هذا الموقع.

تختزل هذا النموذج قطعة من موقع مليحة، طولها 7 سنتيمترات، وعرضها 3 سنتيمترات، تمثّل امرأة ترفع ذراعيها نحو الأعلى، وكأنها في وضعية الابتهال. يتبع الوجه التأليف المعهود، وتكلّله مساحة مقوّسة تستعيد تسريحة الشعر السائدة. في المقابل، تحضر في أسفل العنق دائرة واحدة تماثل دائرتي العينين. يحتل وسط الصدر شريط عمودي مزين بشبكة من الخطوط الأفقية، يتكرّر في الجزء الأسفل من هذه القطعة العاجية، مشكّلاً زينة تنورة واسعة تلتف حول الخصر، وتحجب الساقين بشكل كامل.

من تكون هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها في مقابر الإمارات الأثرية؟ تتعدّد القراءات في تحديد هذه الهوية، كما في تحديد وظيفتها، غير أنها تبقى قراءات افتراضية. في الخلاصة، تحافظ هذه الأنثى على سرّها، وتشكّل لغزاً يمثل تحدياً أمام كل من حاول فكّه.